تحتفل الأوساط الموسيقية العالمية على مدى عدة أشهر من عامنا الحالي، بذكرى مرور /130/ عاماً على ميلاد الموسيقار الخالد «إيفور سترافنسكي» (1882- 1971)، ونجدها مناسبة مهمة لنكشف خصائص متعددة من فن هذا المبدع الكبير الذي قدّم على مدى حياته المديدة شوامخ من الأعمال العظيمة، الغنية بألوان ممتعة من الفتنة والسحر والتجدد.. صاغها بكل ما هو معبّر وجميل في عالم الموسيقا، فكانت كما يعتبرها نقاد الفن ذات خصوصية مميزة، وثورة على القديم من أجل فن جديد..
لقد كان «سترافنسكي» فناناً حذقاً في تحديد مساراته الموسيقية، وظلت ثقافته المبدعة، ومهارته الفنية تدفعه إلى تجارب وأعمال باهرة، حققت له الشهرة العالمية، والسمعة الكبيرة في عالم التأليف الموسيقي، وبخاصة روائعه الموسيقية «بتروشكا» و «عصفور النار» و باليه «طقوس الربيع» التي أثارت حين قدّمها في باريس لأول مرة في عام 1904موجة من الإعجاب المنقطع النظير، لم تشهد مثلها هذه الأوساط منذ أن قدم «فاغنز» أوبرا «تان هاوزر»..
يعتبر «سترافنسكي» رغم الانتقادات الحّادة التي وُجهت إلى موسيقاه، أحد أعظم وجوه الموسيقا في القرن العشرين، وقد حدد منهجه الموسيقي في كتابه «الشاعرية الموسيقية» إذ يقول «الموسيقا ليست سوى تتابع من النشاط والراحة، ويجب على كل مؤلف موسيقي أن يبحث عن العناصر الملائمة لتبرير هذين المبدأين المتعارضين» لذلك يمكن القول إن أعمال هذا الموسيقار المبدع كانت قريبة جداً من فن الهندسة، فهو يقيم الكتل و الأحجام، ويوازن بين المواد باللجوء إلى التناسقات والعرض المدرك للتوترات والانفراجات الناجمة عن التركيب المتعدد الألحان لكي يحقق في النهاية بين العناصر المتناقضة المختلفة هذه الوحدة العظيمة التي لا يمكن لأي عمل موسيقي أن يكون عملاً ممتازاً بدونها، وهذا ما نجده بوضوح في عمله «طقوس الربيع» الذي اعتُبر بمثابة فجر جديد لعصر جديد في عالم الموسيقا، وترجمة صادقة لرغبته في الخلق والإبداع والتي أشار إليها حين قال «علينا واجب تجاه الموسيقا، ألا وهو ابتكار وتجديد هذا الفن».. لذلك كانت تجاربه لا تستقر على مبدأ واحد أو نمطية واحدة، ففي أوبرا «قصة جندي» نسمع موسيقا عسكرية، ثم موسيقا تانغو حالمة ثم موسيقا الجاز، والمعجزة التي حققها «سترافنسكي» هي في تنسيق هذا العمل الفذ على شكل وحدة متماسكة أدت ألحانها مجموعة من الآلات الفريدة الغريبة مثل: البوق المزدوج، والكمان الجهير، والكمان من جهة، والمزمار ومجموعة طبول وكلارينيت من جهة أخرى.
يعتقد «نيتشه» أن مفعول الربيع المفاجئ والكلي القدرة، يرفع طاقات البشر الحيوية إلى ذروة التوهج، فيظنون أنفسهم خاضعين لنوع من التحول والسحر، ويروحون يركضون عبر الريف، وقد استولى عليهم الأمل بإعادة خلق العالم، لقد تلاشت فرديتهم، وباتوا يهفون إلى التآلف والاتحاد،.. وسترافنسكي خرج يعبّر عن بعث الطبيعة بعد رقادها الشتائي الطويل، ينتصر للشمس بأسلوب موسيقي ديناميكي، يتعارض في كثير من أحيان مع كل شكل من أشكال التعبيرية الموسيقية المتعارف عليها، فكان في عالم الموسيقا بمثابة الريح التي تنفض الغبار عن كمنجتها، وتشد أوتارها استعداداً للمعزوفة البكر، واسترضاءً واستبشاراً بقدوم الربيع، وعودة النسغ بعد شتاء طويل..
المصدر : الباحثون العدد 59 أيـــــــار 2012