البروفسور روبير دارنتون
Robert Darnton
ترجمة: محمد ياسر منصور
مهما كانت قدرة النموذج الذي يمثِّله "أهل الأدب" الذي يُفتَرض به أن يفتح الباب أمام الجميع للدخول إلى عالم المعرفة والأدب، فإنه يشكِّل أسطورة. وهل يُمثِّل الإنترنت نهاية لهذه الصَّفوة التي تَنكَّرت بلباس المبدأ الديمقراطي؟ ومهما كان المشروع الخاص الذي يضطلع بهذه المهمة، فإنه يُرغمنا على التحفُّظ وعدم إطلاق حُكمنا عليه....
أَعرب القرن الثامن عشر، وهو عصر الأنوار، عن ثقة شاملة في عالَم الأفكار- والذي يُسمِّيه المَوسوعيون "أهل الأدب" -. إن الإنترنت أرض دون شرطة تحرسها ولا حدود تحدّها ولا تَفاوُت بينها إلا تَفاوُت المَواهب. وبِوسع كل امرئ الدخول إليها والإقامة فيها وممارسة إحدى وظائف مُواطَنته، وهي الكتابة والقراءة. فالكتَّاب يصوغون أفكارهم، والقرَّاء يُقوِّمون أُسس تلك الأفكار. والبَراهين المحمولة على سُلطان الكلمة المطبوعة، تنتشر مُكوِّنةً دوائر مركزية والأكثر إقناعاً منها لَه الغَلَبة.
في هذا العصر الذَّهبي لِما هو مَكتوب، تدور الكلمات عن طريق التراسل. وبِتَصفُّح المراسلات الضخمة لكلٍ من - فولتير وجان جاك روسو وبنيامين فرانكلين أو توماس جفرسون- أي نحو 50 مجلَّداً لكل منهم - فإننا نَغُوص في قَلب أهل الأَدب. وقد عالَجَ هؤلاء الكتَّاب الأربعة المواضيع الجوهرية في عصرهم بِسَيل من المراسلات المتواصلة التي تَصِل أوروبا بأمريكا، ومَثَّلَت آنذاك جميع ميِّزات شبكة معلومات عَبر المحيط الأطلسي.
سأتطرَّق خصوصاً إلى المراسلات بين جيفرسون (1743- 1826) وجيمس ماديسون (1751- 1836). كانا يَودَّان الحديث عن كل شيء، ولاسيَّما الدستور الأمريكي الجاري وَضعه، حيث كان الثاني يُقدِّم يَد المساعدة له في فيلادلفيا، بينما كان جيفرسون يُمثِّل الجمهورية الفتية في باريس.
وتَحدَّثا أيضاً عن الكتب، لأن الثاني يعشق الطَّواف على مكتبات العاصمة، ويشتري غالباً الأعمال لصديقه. وكانت إنسيكلوبيديا (موسوعة) دنيس ديدرو من جُملة مشترياته، وظَنَّ جيفرسون أنه أَجرى صَفقة موفَّقة؛ غير أنه خَلَط بين النسخة الأصلية والمُعَاد طَبعها...
اثنان من رؤساء الولايات المتحدة المستقبليِّين يتصفَّحون الكتب على شبكة الأنوار، والصورة مُؤثِّرة. لكن قبل أن يَنكبَّا على ذلك، من المهم الإشارة إلى أن أهل الأدب لم يكونوا ديمقراطيين إلا في مبادئهم. وفي الواقع، كانوا ينتمون إلى الأغنياء والأرستقراطيين. ولَمَّا كان من المُحال كسب لقمة عيشهم من ريشتهم، فإن معظم الكتَّاب وجدوا أنفسهم مُجبَرين في الواقع على تَملُّق الأقوياء، والتِماس أصحاب الوظائف الذين يقبضون دون أن يعملوا، وتَسوُّل مكان في أي صحيفة تُديرها الدولة، والمُراوَغة مع الرقابة، وشَقّ طريق عَبر الصالونات الأدبية والأكاديميات، حيث يُكوِّنون الشُّهرة أو يفقدونها. ولَمَّا كانوا عاجزين عن الخروج على الإذلال الذي يُمارسه عليهم أَوصِيَاؤهم، فقد كان يُهاجِم بعضهم بعضاً، كما يَشهد على ذلك الخصومة بين فولتير وروسو.
بعد قراءة "النقاش حول أصل التفاوت وأُسسه بين الناس" لروسو، ينبري فولتير مُؤلِّف "كانديد" في العام 1755 لِيَردّ عليه قائلاً: " تَلقَّيتُ يا سيدي، كتابك الجديد ضد الجنس البشري.. ولم يُستَخدَم أبداً مثل تلك الروح التي تُريد جَعلنا أَغبياء ؛ وتَتولَّد لدى المرء رغبة في السَّير على أربعة قَوائم عندما يقرأ مُؤلَّفك". وبعد خمس سنوات رَدَّ عليه روسو قائلاً: " سيِّدي.. إنَّني أَكرهُك".
أَثارت الاختلافات الاجتماعية النِّزاعات الشخصية. وكان أهل الأدب يُعانون مَرَضاً يَعضّ جميع مجتمعات القرن الثامن عشر: الامتيازات. ولم تكن هذه الامتيازات قاصِرة على الطبقات الأرستقراطية. فَفي فرنسا، كانت الامتيازات تنطبق على عالَم الأفكار، ولاسيَّما لدى المطابع والمكتبات، التي تسيطر عليها الجمعيات التجارية وتحتكرها، وكذلك الكتب نفسها، التي لم يكن بِوِسعها الظهور إلا بموافقة المَلِك ومصادقة الرَّقابة.
يمكن تحليل هذا النظام بالرجوع إلى عِلم الاجتماع الخاص بالمعرفة، وعلى الأَخصّ المفهوم الذي طوَّره بيير بوردييه عن الأدب كَحَقل تتنافس فيه المواقع حسب قواعد لعبة متفاوتة الاستقلالية حِيَال قوى المجتمع المُهيمنة.
ومع ذلك لم تكن هناك أية حاجة إلى الانتساب إلى المدرسة البوردية للتأكد من أن الحياة الأدبية لا علاقة لها بالمثاليات في عصر الأنوار. وعلى الرغم من مبادئهم العامة، فإن أهل الأدب كانوا يُشكِّلون عالَماً مُغلَقاً، لا يمكن لغير أصحاب النُّفوذ الدخول إليه. ومع ذلك، فإن قَرن الأنوار (وهو القَرن الثامن عشر) كان يبدو لي دائماً أفضل مُدافِع عن الانفتاح عموماً وعن الوصول الحرّ إلى الكتب خصوصاً.
اليوم، وفي عالَم مكتبات البحث والواقعي، هل تتناقض المبادئ مع الواقع كما كان يحدث في القرن الثامن عشر؟. تَروي لي إحدى زميلاتي إنها غالباً ما كانت تَسمع هذه الملاحظة المتعجرفة في السَّهرات التي كانت تَحضرها: " الكُتُبي، كَم هذا جذَّاب.. قُولي لي ماذا يعني أن يكون المرء كُتُبيَّاً؟ ". وكانت تَردّ عليه دائماً: " إنها قبل كل شيء مسألة مال وسُلطان".
لا يسعى معظمنا إلا إلى الانتساب إلى المبادئ التي تُؤسِّس كبرى مكتباتنا العامة. "حرَّة للجميع"، ويمكن للمرء أن يقرأ هذا على مَدخل مكتبة بوسطن. ونُقِشَت على رخام مكتبة نيويورك عبارة جيفرسون بِأَحرف من ذَهَب: "أرى التربية أفضل وسيلة لتحسين الظَّرف البشري، وإعلاء شأن الفَضيلة وضَمَان كرامة الناس".
أَرست جمهوريتنا أَساساتها على القاعدة نفسها التي أَقامها أهل الأدب: التربية. ويرى جيفرسون أن قَرن الأنوار استمدَّ بَريقه من الكتَّاب والقرَّاء، ومن الكتب والمكتبات- ولاسيَّما مكتبة الكونغرس ومونتيسلّو (حيث يُقيم جيفرسون) ولاسيَّما جامعة فرجينيا. وهذه الثقة في قُدرة الكلمات على الانفتاح مُدَوَّنة في أول فَصل من الدستور الأمريكي الذي يُلحِق حقوق المُؤلِّف- يعترف بها فقط "لفترة محددة" - بِالمَبدأ السَّامي لـ "تَقَدُّم العِلم والفنون المفيدة". والآباء المؤسِّسون يعترفون بِحَقّ المُؤلِّفين في الحصول على تعويض عادل لعملهم الفكري، لكنهم أشاروا إلى سموّ المصلحة العامة وتَفوُّقها على المصلحة الفردية.
كيف نُقَوِّم وَزن هاتين القيمتين على التَّوالي؟. لم يكن واضِعو الدستور يجهلون أن فكرة النَّسخ كانت قد ابتكرت في بريطانيا في العام 1710، ضمن إطار القانون المسمَّى "تشريع آن". وكان ذلك التشريع يرمي إلى الحَدّ من الهَيمنة التامة للناشرين وإلى "تشجيع الثقافة". وكان يمنح المُؤلِّفين الملكية التامة لعملهم لفترة 14سنة قابلة للتجديد مرَّة واحدة فقط. ويُحاول الناشرون الدفاع عن احتكارهم بالتحجُّج بقانون النَّشر حَصرياً وأَبدياً، والذي يَرَون أنه مَصُونٌ بِالعُرْف. وبَعد عدة دعاوى، مَنَحت المَحاكِم ظُلماً النَّاشِرين هذا الحَقّ في العام 1774 في قضية دونالدسون ضد بيكيت.
بعد 13 سنة، عندما أَعاد الأمريكيون كتابة الدستور، استندوا إلى وُجهة نَظَر كانت تسود آنذاك في بريطانيا. وهي إعطاء مهلة 28سنة، وهي مُهلة تبدو كافية للاحتفاظ بِمَصالح المؤلِّفين والناشرين. وبعد تلك الفترة، تُصبح المصلحة عامة. وفي العام 1790- صُمِّم أول "كوبيرايت آكت" (حقّ النشر والتأليف) أيضاً من أجل "تشجيع الثقافة" ـ وهو مُستَوحى من الطراز البريطاني الذي يعتمد فترة 14 سنة قابلة للتجديد مرة واحدة فقط.
ما هي فترة حَقّ النشر والتأليف المَعمول بها اليوم؟. حَسب قانون 1998، "سوني بونوكوبيرايت ترم اسكتنسيون آكت" (والمسمَّى أيضاً قانون ميكي) لأن شخصية ديزني الذائعة الصِّيت كانت مُعرَّضة آنذاك للوقوع في دائرة المصلحة العامة فإن حَقّ المُؤلِّف ينطبق على عمله ما دام صاحبه على قَيد الحياة، ثم أيضاً بعد موته بسبعين سنة. وفي الواقع، هذا يعني أن المصلحة الخاصة لِلمؤلِّف وَوَرَثَته يجب أن تتقدَّم على أي اعتبار آخر طوال أكثر من قَرن. والسَّواد الأعظم من الكتب الأمريكية المنشورة خلال القرن العشرين لم تدخل إذاً حتى الآن في دائرة المصلحة العامة. وعلى الإنترنت، فإن الدخول الحرّ إلى إِرثنا الثقافي لا يُمَاَرس عموماً إلا على الأعمال السابقة لتاريخ الأول من كانون الثاني 1923، وهو تاريخ الحساب الذي يعتمده معظم الناشرين في حقوق النشر والتأليف. وقد يمتد هذا لفترة أطول، فهناك على الأقل طبعاً جماعات خاصة تعتمد على تاريخ التسويق وتاريخ البضاعة وظروف تسويقها وهذا كله يصبّ في مصلحة تلك الجماعات. في الوقت الحاضر، نحن أمام هذا الوضع المتعذّر فيما يَخصّ رواية "بابيت" لِمُؤلِّفها سانكلير لويس، والتي نُشرت في العام 1922، والتي تخضع للمصلحة العامة بينما رواية "المرغانتري" التي ظَهَرت في العام 1927، ظلَّت مَحجوبة عن المصلحة العامة وستبقى كذلك إلى العام 2022. (1)
إن تَجاوز المبادئ الكبرى التي أَعلَنها الآباء المؤسِّسون لأُصول الصناعة الثقافية اليوم، هي كالهبوط من سَماء قَرن الأنوار إلى خليج الرأسمالية الشاملة. وإذا ما استخدمنا علم اجتماع المعرفة لِتَفحُّص الأزمنة الحاضرة - على طريقة بوردييه - لَربَّما ثَبَت لنا أننا نَحيا في عالَم يتفاعل مع ميكي.
أهل الأدب مُحتَرفون كأهل المعرفة، وها هم منفتحون أمام الهُواة - بكل ما في العبارة من معنى- الذين يُحبُّون المعرفة من المواطنين البسطاء. ويتم الانفتاح في كل مكان بوساطة الدخول إلى مَواضيع رقمية مطروحة مَجَّاناً في الإنترنت في مَواقع مثل أوبن كونتانت آليانس، أوبن ناولد ج كومونس، أوبن كورس وور، أو أرشيف الإنترنت، أو في مَواقع مفتوحة لِلهُواة مثل ويكيبديا. وديمقراطية المعرفة أصبحت منذ ذلك الحين في مُتناوَل اليَد، على الأقلّ على صعيد الوُلوج إلى المَصادر، والمِثالي في عصر الأنوار ألا يمكن أن يُصبح واقعاً؟.
في هذه المرحلة، من حَقّ القارئ أن يتساءل إن لم يكن بِوِسعي أن أقفز من تمرين أمريكي نَموذجي، كالنَّحيب. إلى تمرين آخر متأصِّل في جُنوننا الفَرنسي، وفي الحماسة السَّاذجة. أَفترضُ أن هناك دون شكّ طريقة لِلجَمع بين الاثنين في خطوة جَدَلية، إن لم يُهدِّد ذلك خَطَر التسوُّق. وعندما تنظر مشاريع مثل غوغل إلى المكتبة لا ترى فيها بالضرورة مَوئِلاً مُقدَّساً للمعرفة. بَل تجد فيها بالأحرى مَنجماً "يحتوي مضامين" يمكن استغلالها مادياً دون حدود. ومجموعات المكتبات التي تَشكَّلَت خلال قرون وكلَّفت ثمناً باهظاً من الجهد والمال، يمكن أن تخضع للرقمية على نطاق واسع وبكلفة متواضعة - بضعة ملايين الدولارات، وربما كان هذا ثمناً زهيداً على كل حال إذا ما قُورِنَ بالاستثمارات التي يمكن جَنيها منها بعد ذلك.
وُجِدَت المكتبات لتشجيع الجماهير العريضة على الثقافة " "التشجيع على التعلُّم"، وهو تَعلُّم "مفتوح للجميع". وأُنشئت المشاريع لِتَدرّ الأموال على المساهمين فيها- وهذا جيِّد دون شكّ، إذا ما رأينا أن اقتصاد المصالح الخاصة يفيد أيضاً المصلحة العامة. بَيد أننا إذا سَمَحنا بتسويق أُسس مكتباتنا، فنحن نُوشِك ألا نتمكَّن من التغلُّب على تناقض أساسي. فَإِخضاع المجموعات للرقمية وبَيعها عَبر الإنترنت دون الاهتمام بتقديم دُخول حرّ للجميع قد يدفعنا إلى تكرار الخطأ الذي ارتُكِبَ أثناء تَرك المجلات العلمية لإدارة الناشرين الخاصِّين، لكن على نطاق واسع للغاية ولاسيَّما أن هذا يجعل من الإنترنت أداة لِخَصخَصة المعرفة العامة. ولا توجد عندئذٍ أية يَد خَفيَّة لِرَدم الهوَّة بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة وقد يكون الجمهور وَحده هو المعتاد على رَدم تلك الهوَّة، لكن من الذي يُمثِّله؟. إنها بالتأكيد ليست السُّلطات التشريعية التي تَبَنَّت "قانون ميكي".
لا يمكن سَنّ قانون حول عَصر الأَنوار والمعرفة، لكن يمكن تحديد قواعد للّعبة التي تُتيح حماية المصلحة العامة. فالمكتبات تُمثِّل هذه المصلحة. إنها ليست مشاريع، لكن عليها تهدئة التكاليف. وهي بحاجة إلى خطّة عمل. واستراتيجيتها لا تخلو من الاستعانة بشعار استخدمه مخترع الكهرباء "كون أديسون" في عصره، حيث شوارع نيويورك تَتفرَّع نحو الأبنية وقال: "علينا أن نَحفر"، وهذا ينطبق على أصحاب المكتبات إذ قالوا: "علينا بالرقمية"، لكن لا يَهمّ الطريقة. إنما يجب مُراعاة المصلحة العامة، أي يتحمَّلون أمام المواطنين مسؤولية الكتب التي بين أيديهم ومَضامينها.
قد يكون من السَّاذَج مُقارنة شبكة الإنترنت بِقَرن الأنوار. فالشبكة تُقدِّم وسيلة لِنَشر المعرفة على نحو أوسع بكثير مِمَّا كان يفعله جيفرسون. لكن بينما كان الإنترنت يخطو خطوة خطوة، لم تَبقَ المشاريع الكبرى جامدة على قارعة الطريق. بل أرادت أن تتحكَّم في اللعبة، وتستولي عليها، وتَتملَّكها. فَتنافست فيما بينها طبعاً، وكانت المنافسة شَرِسَة إلى درجة أن الأقلّ وَحشيَّة منها انتهى بها الأمر إلى الاختفاء والزَّوال. ومعركتهم للبقاء وَلَّدَت حُكم أقليَّة مُتسلِّطة تمتلك سُلطة لا حدود لها، ومَصالحها تختلف بوضوح صارخ جداً عن مَصالح العامَّة.
لا يمكننا البَقاء مكتوفي الأيدي انتظاراً لاستحواذ المجموعات الخاصة على المال العام. وعلينا بالتأكيد العمل على الرقمية. لكن علينا خصوصاً العمل بديمقراطية، أي تَعميم الدخول إلى إرثنا الثقافي للناس كافَّة. فَكيف؟. بِإعادة صَوْغ قواعد اللعبة، بِإلحاق المَصالح الخاصة بالمصالح العامة وإخضاعها لها، مُستَوحين من الجمهوريين الأوليين لإقامة جمهورية رَقمية للمعرفة.
من أين تأتي تلك الوَثبات الطوباوية ؟. من غوغل. فَمنذ أربع سنوات، بدأ هذا المشروع في رَقمية الأعمال الموجودة في فهرس المكتبات الجامعية، وَاضِعاً على الإنترنت أعمال بَحث بشكلها الكامل وطارِحاً أمام الجميع عَناوين كانت تدخل ضمن دائرة العامَّة دون أن يطلب أي ثمن مهما قَلّ من الهُواة. وأصبح ممكناً منذ ذلك الحين، على سبيل المثال، التصفُّح المَجَّاني والتحميل عن بُعد لنسخة رَقمية من الطبعة الأصلية لِمُؤلَّف "ميد لمارش"، وهو رائعة الروائي جورج إليوت والذي ظَهَر في العام 1871، وأُدخِلَ إلى مكتبة بودليان في أُكسفورد. واستفادَ العالَم كلّه من هذا الكتاب، بما في ذلك غوغل، الذي جَنى الأرباح من المُعلِنين والإعلانات، وهي سِريِّة نسبياً، وتُبَثّ على صفحة البَحث عن كتاب غوغل.
قامت الشركة أيضاً بتحويل عدد متزايد دائماً من الكُتب المَحميَّة بحقوق التأليف والنَّشر إلى الرقمية، وطرحت منها خلاصات على الإنترنت لتسهيل البَحث على مُستخدمي الإنترنت. إلا أنه، في أيلول وتشرين الأول 2005، قامت مجموعة من الكتَّاب والنَّاشرين الحانقين جرَّاء نَقص مَكاسبهم بتشكيل ما يسمَّى "كلاس أكشن" (أو العمل الجَماعي) للوقوف ضد غوغل باسم الدفاع عن حقوقهم الموروثة. وفي 28 تشرين الأول 2008، وفي نتيجة مفاوضات لا نهاية لها، توصَّل الطرفان إلى اتفاق.(2)
ينصّ هذا الاتفاق على إنشاء مشروع يسمَّى "سجلّ الحقوق المتعلِّقة بالكتب". والمشروع مُكَلَّف تَمثيل مَصالح الكتَّاب والنَّاشرين المَالكين لحقوق التأليف والنشر. فَجُعِلَ غوغل المَدخل إلى قاعدة مُعطَيات عملاقة مَدفوع الأجر، ليبدأ بالعناوين التي استُهلِكَت والتي قَدَّمَتها المكتبات الجامعية. ويمكن للمعاهد والجامعات ومختلف الجماعات الارتباط بها بعد شراء "رخصة مؤسَّساتية". وثمَّة رخصة أخرى، تسمَّى "الدخول العام" ويُتاح للمكتبات العامة ويمنح مَدخلاً مَجانيَّاً إلى القاعدة، لكن من خلال حاسوب واحد. وفي حال رَفض مُستَخدِم مُستَاء الانتظار أَمَلاً في أن يَفتح المَوقع المرغوب، فهناك خدمة طبعاً حسب الطَّلب وتسمَّى "رخصة المستهلك". ويلتزم غوغل من ناحية ثانية التعاون مع سجلّ حقوق الكتَّاب بِهَدف توزيع الدَّخل والعائدات الحاصلة على النحو التالي: 37% لغوغل، و63% لِمالِكي حقوق التأليف والنشر.
إلى جانب ذلك، سيُواصل المشروع طَرح الأعمال ذات المصلحة العامة والتي ستظل تُرسَل عن بُعد مَجَّاناً. ومن أصل سبعة ملايين عنوان التي تُؤكِّد المجموعة أنها قد حَوَّلَتها إلى رَقميِّة قبل تشرين الثاني 2008، هناك مليون كتاب لها صِفَة "عامة" أي مَطروحة للعموم، ومليون آخر خَاضِع لحقوق التأليف والنشر، ومَطروح دائماً في المكتبات، وأخيراً، هناك خمسة ملايين " تَحميها" حقوق التأليف والنشر أيضاً ولكنها نَفَدَت أو لا يُعثَر عليها. وهذا النوع الأخير هو الذي يعود على الشَّرِكة بمكاسب التسويق الضخمة عن طريق "الترخيص".
ثمَّة عدد من الأعمال الخاضعة لحقوق التأليف والنشر ستظلّ مع ذلك مُستَبعَدة من قاعدة المُعطَيات، إلا إذا قَرَّرَ غير ذلك مُؤلِّفوهُم أصحاب الحَقّ أو ناشروهم. وستظل تلك الأعمال إذاً تُباع بشكل كُتب وَرَقيِّة، كما هي الحال في الماضي، أو سيجري تَسويقها بشكلها الرَّقمي، أما لِتُسوَّق عن بُعد عن طريق "رخصة استهلاكية "، وإمَّا لِتُحوَّل إلى شكل كُتب إلكترونية.
باختصار، بعد قراءة الاتفاق المعقود بين غوغل والكتَّاب والنَّاشرين ودراسة فلسفته -ولم يكن ذلك مهمَّة سهلة ولاسيَّما أن المبلغ يبلغ 134صفحة و15 ملحقاً -، نَقِف فَاغِري الأَفواه: فَها هِيَ ذِي أُسس ما يمكن أن يُصبح أكبر مكتبة في العالم يجري إرساؤها. إنها مكتبة رقمية بالتأكيد، لكنها تشمل أَشهر المؤسسات في أوروبا والولايات المتحدة. وعلاوةً على ذلك، ارتفع غوغل إلى مرتبة أضخم تاجر كُتب على وَجه البَسيطة - ذلك أن إمبراطوريته الرقمية نَحَّت مشروع أمازون جانباً إلى مستوى مَكتبة في أَحد الأَحياء.
كيف نبقى لا مُبالين إزاء آفاق رُؤية ثَرَوات أضخم المكتبات الجامعية الأمريكية تُصبح في مُتَناوَل يَد جميع مُستَخدِمي الإنترنت في العالَم؟. ليس فقط سِحر تكنولوجيا غوغل هو الذي يُتيح الوُلوج إلى الكُتب التي يرغب فيها المَرء، بل يفتح أيضاً أمامه إمكانات بَحث لا تَنضُب. وتحت بعض الشروط، ستُصبح المؤسسات المُشارِكة قادرة على استخدام نسخ رَقمية من الأعمال المفقودة أو النافذة لتجديد مَخزونها، ويلتزم غوغل من ناحية ثانية، عَرْض النصوص بشكل يجعلها مُتاحَة للقرَّاء المعوَّقين.
لسوء الحَظّ، وَعَد المشروع بِضَمان دُخول حُرّ إلى مجموع البطاقات (الفيش) من خلال حاسوب واحد في كل مكتبة عامة، لكنّ لهذا الوَعد فُرَصاً قليلة في تلبية الطَّلب، ولاسيَّما في المؤسسات الكثيرة الزوَّار. وذلك راجِع أيضاً إلى بعض القيود: فَالقرَّاء الراغبون في طباعة نَصّ خَاضِع لحقوق التأليف والنَّشر لا يمكنهم ذلك إلا بعد دَفع الثمن. وهذا لا يمنع مكتبات البلديات الصغيرة من تَخصيص مَبالغ أكبر من المبلغ المخصَّص للمكتبة المركزية الكبيرة في نيويورك. نَعم، يمكن لغوغل أن يُحقِّق تماماً حُلم عَصر الأَنوار.
لكن هل يفعل غوغل ذلك؟. إن فلاسفة القَرن الثامن عشر يَرون في مَواقف الاحتكار عَقَبة رئيسة أمام انتشار المعرفة - إنهم يَحقُدون خصوصاً على شركات الطباعة والمَطابع في لندن وعلى جمعيَّات تجارة الكُتب في باريس، التي تَقِف عائقاً في وَجه التداول الحرّ للكتب.
غوغل ليس جمعية تجارية ولا يتصرَّف كَمُحتَكِر. فالشركة تنتهج هَدَفاً جديراً بالثَّناء، وهو تشجيع الدخول إلى المعلومة. لكن الاتفاق الذي وَقَّعَته يجعلها صَعبة العطب أمام كل أشكال المنافسة. ومعظم الكتَّاب والناشرين ذَوِي حقوق التأليف والنشر المحفوظة في الولايات المتحدة تَشملهم تلك الوثيقة أوتوماتيكياً. وَبِوِسعهم طبعاً اختيار الخروج من هذا الإجراء، لكن مهما عَمِلوا، فلا يمكن أن يرى النُّور أي مشروع آخر للرقمية دون الحصول أولاً على الحَقّ المذكور، والذي يُقال إنه مهمَّة متعذَّرة. وإذا كانت عملية غوغل تحظى بِمُبارَكة القُضاة - لأن أي قضية يمكن أن تستغرق عامين-، فهذا العملاق الكاليفورني (غوغل) وَضَع يَده الرقمية على جميع الكتب تقريباً والتي تظهر في الولايات المتحدة.
وهذه النتيجة لم تكن مَحتومة. فَربما بِوِسعنا إنشاء مكتبة رقمية وطنية، حديثة ومُماثِلة لمكتبة الإسكندرية. وبينما السُّلطات العامة تَشخُص بِنَظَرها كَالأَبلَه، انتقلَ غوغل إلى المبادرة. فالمشروع لم يسعَ إلى الدفاع عن نفسه أمام القَضاء. فهو بِدقَّة الكتب بكل بساطة، ويقوم بذلك بِفَاعلية بحيث يُثير لُعاب الشَّرِهين إلى جَني المَكاسِب الناتجة عن ذلك. لقد تَمَّت الخدعة من خلال السُّخرية من طُموح المُؤلِّفين والناشرين في تَحصيل الحقوق العائدة إليهم، كما أن عليهم الحَذَر من التسرُّع وتَقديم الحُجَج أمام المَحاكِم لأَجل "دعوى امتيازهم". ومع ذلك، وبانتظار أن يُصدِر قُضاة نيويورك حُكمهم، فَمن المؤكَّد أن الاتفاق المَعني هَدَفه توزيع المَكاسِب، وليس الدفاع عن المصلحة العامة.
أحد الآثار غير المتوقَّعة لتلك القضية، هو أن غوغل سيجد نفسه فِعلاً في مَوقِف المُحتَكِر - مُحتَكِر من نوع جديد، لا يُمارِس احتكاره على الفولاذ أو الموز، بل على الدُّخول إلى المعلومات-. ومشروع غوغل لا يجد أمامه أي مُنافِس جَدِّي. فَمكروسوفت عَدَلَت منذ أشهر عدَّة عن مشروع رقمية الكتب الخاص بها، والشركات الأخرى الموجودة في السُّوق، مثل فَتح المَعارِف أمام العامَّة أو أرشيف الإنترنت، فهي غير ذات أهمية في نَظَر غوغل. وهذا الأخير هو الوحيد في امتلاك الوسائل اللازمة للرقمية على مستوى بتلك الضخامة. وبِفَضل التسويات التي يُجريها مع الكتَّاب والناشرين، فهو قادر على تقديم كامل قُدرته التمويلية مع البَقاء ضمن معايير الشَّرعية.
إن ما فَعَله مشروع غوغل حتى الآن يُوحي بأن المشروع لم يَتعسَّف في استخدام قُدرته ولم يتجاوز حدوده. لكن ما الذي سيَحصَل عندما يبيع زعماؤه الحاليون حصَصَهم أو يَستقيلون؟. إن التعرفة المتوقَّعة للدخول إلى قاعدة المُعطَيات الرقمية المستقبلية تُقَدِّم أول عنصر لِلرَّد على هذا السؤال. فالاتفاق كما كان مَعقوداً يَدَع للشركة التصرُّف بِحريَّة لمناقشة ثَمَن الرُّخص مع كلٍ من زبائنها، حتى وإن التزمت بملاحظة مَبدأين عامَّين: "1- تَوافُق العائدات المدفوعة لأصحاب الحقّ في كل عمل مع كل رخصة تَبعاً لِمُؤشِّر السُّوق. 2- ضَمَان دُخول واسع للعامَّة، ولاسيَّما إلى مؤسسات التعليم العالي".
ما الذي يحدث إن فَضَّلَ غوغل مَصالحه على حساب مَصالح العامَّة؟. لا شيء، حسب نصوص الاتفاق. غير أن سِجلّ حقوق تأليف ونَشر الكتاب يقوم وَحده بِالرَّد باسم أصحاب الحقوق، ويمكنه فَرض تَعرفة جديدة على الشركة، لكن لا يبدو من المُرَجَّح كثيراً الاعتراض على أسعار مرتفعة للغاية. ويمكن أن يختار غوغل تَعرفة سَخيَّة. لكن لا شيء قد يمنعه من اتِّباع استراتيجية مُماثِلة لاستراتيجية نَاشِري المجلاَّت العِلمية: اجتذاب الزُّبون أولاً بِهَديَّة جذَّابة، ثم بعد أن يَبلَع الطُّعم، ترتفع الأسعار إلى أعلى ما يمكن.
سَيَردّ أنصار التبادل التجاري الحرّ بأن السُّوق سَتستقرّ من تلقاء نفسها. وإذا كانت قبضة غوغل قوية وَلَها وَزنها الهائل في السُّوق، فإن المستهلكين سَيُلغون اشتراكاتهم وستنخفض الأسعار في النتيجة. لكن ليس هناك في الحقيقة أية علاقة مباشرة بين العَرض والطَّلَب في الآليات التي تَحكُم مَنح الرُّخَص للمؤسسات. وهذا على الأقلّ ما يُزمِعه الموقِّعون على الاتفاق. وسيُحجِم الطلاب والأساتذة وأصحاب المكتبات عن مَدّ أيديهم إلى جُيوبهم.
إن المكتبات هي التي ستُسَدِّد قائمة الحِساب، وإن فَشِلَت في إيجاد الأموال اللازمة لتجديد اشتراكها، فَتُوشِك أن تتعرَّض لاحتجاجات القراء الذين أصبحوا "مُعلَّقين" بِخَدمات غوغل. لذا تُفضِّل عندئذٍ التقليص من نَفَقاتها الأخرى، بِالحَدّ على سبيل المثال، من شراء الكتب الورقية التقليدية، وهذا ما سَبَق أن فَعلَته عندما رَفَع الناشرون أسعار دَوريَّاتهم المتخصِّصة.
نَظراً لِعَدم التمكُّن من التنبُّؤ بالمستقبل، يمكن فقط القراءة بِتَأنٍّ لعبارات الاتفاق واستخلاص بعض الافتراضات منه. فإذا ما أَتاحَ غوغل الدخول بسعر معقول، إلى أُصول جميع المكتبات الأمريكية الكبرى، فإننا لن نَبخَل بالثَّناء عليه. وبعد كل شيء، ألا يُفَضِّل امتلاك مجموعة كبيرة من العناوين، ولو كانَ الثمن مرتفعاً من ألا يجد المَرء شيئاً يدخل إليه؟. دون شَكّ، لكن اتفاق خريف 2008 قَلَبَ رأساً على عَقب عالَم الرقمية بتركيز جميع السُّلطات في أَيدي مشروع واحد.
إذا استثنينا ويكبيديا، فإن غوغل سَبَق وتَحكَّم في المَدخل إلى المعلومات لِلسَّواد الأعظم من الأمريكيين، الذين يبحثون عن مادة ما، صورة مثَلاً، أو غسَّالة أو بطاقة دخول إلى السينما. ومن دون أن نُعدِّد الخَدمات المُلحَقة بِمُحرِّك البَحث الشَّهير: غوغل أرض، غوغل خرائط، غوغل صور، غوغل مَخابر، غوغل مال، غوغل فنون، غوغل غذاء، غوغل رياضات، غوغل صحة، غوغل دَفع الحساب، غوغل إنذار، وخَدَمات أخرى يجري الإعداد لها. وفي الوقت الحاضر، غوغل لِلبحث عن الكتاب على وَشَك أن يُدَشِّن أكبر مكتبة وأهم مستودع لكتب التاريخ. مهما كانت طريقة تفسير ذلك الاتفاق، فإن فَقَراته تَتَشابك بطريقة معقَّدة وتَفرض نفسها جُملة واحدة. واليوم، لا غوغل، ولا الكتَّاب، ولا النَّاشرون، ولا مَحاكِم مقاطعة نيويورك تمتلك القُدرة على إدخال تغييرات ملحوظة على ذلك الاتفاق. إنه مُنعَطف أساسي فيما نُسمِّيه مجتمع المعلومة. وإن لم نستطع تعديل الميزان، فإن المصالح الخاصة ستتمكَّن قريباً من التغلُّب على المصلحة العامة. والحُلم بِدُخول قَرن الأَنوار سيُصبح عندئذٍ أَصعب من ذِي قَبل.
المصدر مجلة : Manière de Voir العدد (109) آذار ( 2010)
المصدر : الباحثون العدد 59 أيـــــــار 2012