كانت الأسواق من أهم المنشآت التجارية التي عني المسلمون بإقامتها عند تأسيس مدنهم أو فتحها، حيث أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ببناء سوق للمسلمين في المدينة المنورة كي يبعدهم عن أسواق اليهود ومضايقاتهم، وكذلك كانت السوق أول ما بدئ بإقامته عند بناء مدينة الكوفة والبصرة و واسط .
ويغلب أن كلمة السوق من أصل عربي ويقصد بها مكان البيع والشراء وتجمع على أسواق، وربما أتت التسمية من اعتبار أن الناس كان تساق إليه أو لأنهم يقفون على سوق أرجلهم.
(وتعتبر الوظيفة الاقتصادية للسوق أساس وجوده على الرغم من تواجد غيرها من الوظائف المدنية في نفس فراغ السوق، وعلى أساس هذه الوظيفة يمكننا تصنيف الأسواق المختلفة وفقاً للسلع التي تتم تجارتها فيها، هذه الفئات هي كالتالي:
1- أسواق سلع الاستهلاك اليومي من سمانة وبقالة وما شابهها.
2- أسواق السلع التي تُشترى عادة دورياً وعندما يحتاج إليها، كأسواق الحبوب والأقمشة والمفروشات ومستلزمات المنزل والثياب.
3- أسواق السلع الكمالية، إما المصنعة محلياً أو المستوردة كالمجوهرات والحلي والفراء والمصنوعات الجلدية.
4- أسواق الحرفيين الصناع الذين يصنعون منتجاتهم ويبيعونها في حوانيتهم نفسها) .
ولم تلبث الأسواق الإسلامية أن اتسعت بتوسع المدن، وزيادة عدد السكان، وتنوع احتياجاتهم، حتى صار لكل نوع من المتاجرات سوق خاص يجتمع فيه التجار العاملون بهذه السلع، فحمل السوق اسم السلعة المتخصص ببيعها مثل سوق الجوخ وسوق الموازين وسوق العطارين والحبالين والخياطين والحدادين وسوق الصابون في حلب وسوق السلاح وسوق البزورية وسوق المناخلية وسوق العصرونية في مدينة دمشق ومثلها في باقي المدن.
وجرت العادة أن تقَام أسواق السلع الرابحة والطيبة الرائحة وجميلة الشكل وذات القيمة الاقتصادية والاجتماعية الأعلى في مراكز المدن قريبة من الجامع الكبير، حيث يحتل سوق المسكية والبزورية وسط مدينة دمشق، بينما اختير لأسواق السلع الثقيلة والرخيصة وذات التأثير السلبي على بيئة المدينة أماكن بعيدة قرب الأسوار أو خارجها مثل مهن الصباغين والقطانين والحدادين والنحاسين.. إلخ، كما هو الحال بالنسبة لسوق المناخلية في دمشق مثلاً .
وقد أعطى الموقع الجغرافي المميز لدمشق مكانة تجارية هامة شهرت بها حتى دخول العرب المسلمين إليها سنة 14هـ/636م، حيث استمر الشارع المستقيم كأحد أهم الأسواق فيها محتفظاً بمكانته التجارية التي ارتقت في عهد الدولة الأموية حين بلغت دمشق بعهدها مكانة لم تبلغها من قبل أو بعد، فلم تلبث المنطقة حول الجامع الأموي أن شهدت ظهور أسواقٍ جديدةٍ لم تلبث أن تطورت واتصلت بالشارع المستقيم وشهدت ازدهاراً تناسب مع تلك المكانة السياسية لدمشق التي لم تلبث أن ذهبت عنها بعد دخول العباسيين لها من سنة 123هـ/750م وتدميرهم لأسوارها وعماراتها ونقل العاصمة منها، مما كان له أبلغ تأثير على مكانتها التجارية وعمارة أسواقها التي خربت وخاصة مع انعدام الأمن وتناقص عدد السكان وتحول طرق التجارة عنها ، فأصيبت بحالة من الركود استمرت حتى وصول نور الدين زنكي إليها 539هـ/ 1145م واتخاذها عاصمة لدولته وقاعدة لجيوشه، حيث ابتدأ فيها نهضة عمرانية كان من أهم نتائجها انتشار الاستقرار والأمن فيها وإعادة الاعتبار لمكانتها التجارية، فنشطت أسواقها وأعيد ترميم وإحياء ما خرب منها فرصفت طرقاتها وغطيت أسقفها بالجملونات الخشبية .
واستمر نشاط هذه الأسواق حتى منتصف القرن 8هـ /14م، حيث شهدت في العصر المملوكي البحري توسعاً وازدهاراً ساهمت فيه نمو القوة الشرائية للمماليك، فتوسع نمو الأسواق خارج الأسوار ونشأت أسواق جديدةً جهة الشمال والشمال الغربي للمدينة القديمة مثل سوق الخيل ثم سوق النحاسين وسوق الحدادين وأسواق البياطرة والسروجية وغيرها من الأسواق التي حملت جميعها اسم "سوق تحت القلعة"، الذي تخصص ببيع مستلزمات جنود المماليك والأمراء، وقد تطورت هذه الأسواق لتشكل أهم الأحياء، الملاصقة لدمشق جهة الشمال والشمال الغربي والذي حمل اسم "حي سوق ساروجا" المعروف باسمه حتى الآن، كما نشأ في جنوب المدينة القديمة أسواق تخصصت بتجارة الحبوب والمواد الغذائية الآتية من حوران ومصر والحجاز، ولم تلبث هذه الأسواق أن تطورت لتصبح حياً متكاملاً عُرف باسم "حي السويقة" المعروف حتى الآن بهذا الاسم .
هذا بوقت حافظت أسواق داخل المدينة على نشاطها الكبير وعلى تخصصاتها ببيع كل نفيس وغالٍ كالعطور (سوق المسكية و العنبرانية) والحلي (سوق الصاغة ) والبهارات (سوق البزورية) والأقمشة (سوق الحرير سوق الذراع وسوق الخواصين) والجواري (سوق المارستان وسوق الشيخي) والأسلحة (سوق السلاح) وغيرها من الأسواق التي وفرت حاجيات أهل المدينة كسوق جقمق الذي ظهر وسط الشارع المستقيم.
وكان دخول تيمورلنك لدمشق سنة 803هـ/1400م وتدميره لها ونقله للعديد من صنّاعها وحرفييّها الماهرين لعاصمته سمرقند الأثر الأكبر في تخرب العديد من هذه الأسواق وضياع العديد من الحرف الدمشقية التي أتم السلطان العثماني سليم الأول بعد دخوله لدمشق سنة 922هـ/1516م نقل العديد ممن بقي من شيوخ كارها (معلميها) أيضاً لعاصمته اسطنبول .
ومما أكد تراجع تلك الأهمية التجارية لأسواق دمشق وزاد في الطين بلة بهذا التراجع اكتشاف البرتغاليين لرأس الرجاء الصالح، مما أفقد دمشق العديد من المميزات والمكانة التي اكتسبتها كمحطة هامة للتجارة مع الشرق الأقصى .
وعليه فلم يبق لدمشق في ذلك العصر سوى أهميتها كمحطة لتجمع قوافل الحج الشرقي والشمالي، مما ساهم بالحفاظ على ما تبقى من هيبتها التجارية، وأدى بشكل كبير لتوسع أسواقها جنوباً خارج الأسوار باتجاه طريق الحج، فامتدت الأسواق بمحاذاة حي السويقة بين منطقتي الشاغور وقصر الحجاج واندمجت مع أسواق منطقتي باب مصلى والميدان وامتدت حتى باب الجابية والقلعة لتشكل محوراً تجارياً حافظ على أهميته لفترة طويلة.
كما كان لفتح قناة السويس 1286هـ/ 1869م تأثيراً سيئاً على أسواق دمشق، حيث تحول الحجاج الأتراك وغيرهم عن الطريق البري المار عبر دمشق وركبوا السفن للوصول بها للأماكن المقدسة .
أما الأسواق في شمال المدينة في ذلك العصر فقد شهدت تطوراً مقبولاً مع زيادة العناية بحي ساروجا الذي أطلق عليه اسم" اسطنبول الصغرى"، وامتدت الأسواق شرقاً حتى اتصلت بباب توما بوقت حافظت أسواق مركز المدينة على مكانة جيدة فزادت العناية بها فبنى الوالي مدحت باشا سوقاً جديداً في الشارع المستقيم سنة 1295هـ/1878م وسماه باسمه، بعد ما كان الوالي محمد باشا العظم قد بنى القسم الغربي من سوق الحميدية سنة 1195 هـ 1780م، ليقوم الوالي راشد ناشد باشا ببناء القسم الشرقي منه سنة 1301هـ/1883م، كما تغيرت بعض أسماء الأسواق المملوكية بأسماء جديدة مثل سوق الخواصين الذي حمل اسم سوق الخياطين، ومن الأسواق الهامة التي مازالت قائمة سوق القيشاني وسوق الملك فيصل وسوق باب الجابية وسوق الميدان.
وقد بُنيت هذه الأسواق بالحجارة وجُعلت محلاتها تطل على محاور السوق بعقود نصف دائرية، وقد رصفت محاور السوق بالحجارة، وغطيت بالقباب ثم بالتوتياء بدءاً من عهد الوالي حسين ناظم باشا، وأقيم بها عدد كبير من الخانات الهامة التي مازال العديد منها قائماً يشهد على طراز عمارة وعناية تستحق الوقوف عندها، وقد حافظت هذه الأسواق على متاجراتها بالسلع الثمينة كالبهار والحلي والأقمشة إضافة لعنايتها بتجارة المفرق لتغطية احتياجات أهل المدينة.
وبُعيد دخول الاستعمار الفرنسي لسورية أصيبت مدينة دمشق بنوع من التشتت والفوضى العمرانية نتيجة الظروف السياسية والعسكرية هذا إضافة للتخبط المستمر في تنظيمها، (فتلاشت منها محلات وأسواق وخانات ومدارس ومساجد ومتنزهات؛ ففقدت المدينة كثيراً من سمعتها التاريخية، وانعدمت الناحية الجمالية فيها، وقامت أسواق مرتجلة في غير أماكنها مثل سوق الحريقة والأسواق الحديثة الأخرى، ولم يبق في المدينة إلا بضع أسواق تاريخية مثل سوق مدحت باشا وسوق الحميدية وسوق البزورية وغيرها من الأسواق التي نجت من الهدم والدمار) .وكأن هذه الأسواق تختصر بقصة تطورها حكايات الماضي بكل ما فيها من قصص التأثير والتأثر بما يعكس ذلك التطور الذي شهدته مدينة دمشق عبر تاريخها الطويل.
المصدر : الباحثون العدد 59 أيـــــار 2012