- في رحاب اللغة-
ما زالت اللغة العربية على جماليتها وخصائصها التي تميزها تتعرض لهجوم شديد من الداخل والخارج. وهو هجوم تركز في ظاهرة الإعراب أكثر من غيرها، علماً أنها من أبرز الخصائص التي واجهت محناً عدة منذ القديم...
وليس هناك من شك في أن بعض الدعوات إلى إلغاء ظاهرة الإعراب كانت بدافع تيسير اللغة الفصحى، بيد أن هناك دعوات أخرى مشبوهة سعت إلى النيل منها ومن أبنائها بدعوى صعوبة الإعراب، من دون أن ننسى أن الدعوة إلى العامية قد بدأت على يد المستشرق ولهلم سسبيتا سنة (1880م) وفيها دعا صراحة إلى إلغاء الإعراب وهجر الفصحى...
ومهما تباينت الآراء في ظاهرة الإعراب فإنها لا تخرج عندنا عن مفهوم اللغة في إطارها الدلالي؛ ومن ثم تبقى سمة لها بوصفها نظاماً فريداً متميزاً، قلَّ ما يماثله في اللغات الأخرى، وبمعنى آخر إذا كانت اللغة في حد ذاتها دوال على مدلولات أياً كانت صيغتها إفراداً وتركيباً فإن ظاهرة الإعراب تعد جزءاً أصيلاً في صيغة الجملة العربية ومن ثم في المفهوم، ما يثبت بأن أي دعوة إلى التخلي عن الإعراب في لغتنا العربية ذات أبعاد خفية تثير حفيظة المرء...
وفي ضوء هذا الاعتقاد بقيمة ظاهرة الإعراب في لغتنا؛ وإيماننا بأن الإعراب جزء لا يتجزأ من صورة اللغة الكبرى؛ لأنها تولّد أنساقاً لا حصر لها من الرموز والأشكال والأساليب والصيغ... فالإعراب بهذا المفهوم نسق بنائي شكلاً ومضموناً تميزت به العربية، وإن وجد على نحو ما في بعض اللغات الأخرى؛ فقد ذكر أنه وقع في اللاتينية. ونرى أن هناك حالات قليلة من الإعراب لا تتعدى ست حالات وجدت في الأسماء اللاتينية تتغير نهايتها بتغيرها، ونراها أنها ليست من الإعراب في شيء. فالإعراب الذي نجده في اللاتينية، أو الذي ورد في الحبشية القديمة، أو في غيرهما لا يشبه بأي حال من الأحوال ما عرفه النحاة العرب عن الإعراب في لغتنا؛ ابتداء من واضع علم النحو أبي الأسود الدؤلي وانتهاء بأي لغوي آخر كالخليل وسيبويه والكسائي وابن جني...
فالحركة في العربية أو الحرف الذي يقوم مقامها يدلان على معنى، وهذا المعنى شديد الصلة بالعامل والعلل التي تلحقه جزء من نظام نحوي كامل. وهذا ما يفهم من استقراء سبب وضع علم النحو؛ عندما توهمت ابنة الأسود فقالت: ما أجملُ السماء؟ فأجابها أبوها: نجومها. فقالت: أنا لا أسأل، وإنما أتعجب، فقال: كان ينبغي أن تقولي: ما أجملَ السماءَ!! فالتعجب يغير حركة الكلام بخلاف ما يتطلبه الاستفهام، أما إذا سكن القارئ في الوقف؛ فلأن العرب لا تقف على متحرك، ولا تبدأ بساكن، ولو سقطت الحركة في الوقف عند آخر الجملة؛ بقيت هذه الحركة مقصودة في النية؛ وظاهرة في الكتابة؛ لأن العامل لم يسقط، بينما يكون الرمز في اللاتينية واحداً أكان للفاعلية أم للمفعولية، فالرمز (um) مع الأسماء المحايدة لا يسقط أبداً في الوقف. أما العبرية فهي خلو من الإعراب وكذلك الإنكليزية والفرنسية في عالم اليوم... أما ما نجده من أثر للإعراب في الألمانية والفنلندية الحديثة فليس إلا طيفاً من بقايا حالات الإعراب التي كانت للغة اللاتينية.
بهذا كله ما زالت اللغة العربية تستأثر بظاهرة الإعراب، ولم تفقد هذه السمة على عظمة ما لحقها من تطور في حجم مفرداتها، وثراء طرائقها وتحريف في نطقها.
ولهذا؛ سنتوقف عند رأي بعض اللغويين قديماً وحديثاً في الإعراب فقد تبيّن لنا أن الإعراب يؤدي إلى سلامة النطق وصحة الكتابة؛ ولهذا لا يكون الكلام عربياً سليماً إلا إذا صحت المفردات والتراكيب في النطق والكتابة وفق مقتضى الحال والمقام ووفق مقتضى العامل والعلة فالإعراب ـ اصطلاحاً ـ تغير أواخر الكلام لاختلاف العوامل والعلل الداخلة عليه لفظاً وتقديراً... وتدل الحركات الثلاث على هذا التغير (الفتحة والكسرة والضمة) وقد تقوم مقامها الحروف الثلاثة (الألف والياء والواو) كما في الأفعال الخمسة.
والإعراب في اللغة: اسم ومصدر يعني الإبانة والإفصاح في اللسان؛ والفعل أَعرب يُعْرِب، بمعنى أفصح وأبان وأحس وقد صح لدى اللغويين أن يستعمل مكانه (عَرَّب يُعَرِّب تعريباً، واستعرب يستعرب استعراباً) والأول أشهر.
والإعراب ـ عند ابن جني في الخصائص ـ الإبانة والإفصاح ثم التغير من حال إلى حال؛ وهو الإبانة بالألفاظ عن المعاني عند ابن فارس في (الصاحبي في فقه اللغة 77)؛ إذ قال: "إن الإعراب هو الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ، وبه يعرف الخبر الذي هو أصل الكلام؛ ولولاه ما ميز الفاعل من مفعول، ولا مضاف من منعوت؛ ولا تعجب من استفهام، و..."
وأضاف ابن الأنباري في (الإنصاف في مسائل الخلاف) معنى آخر وهو التحبب، من قول العرب: امرأة عروب، إذا كانت متحببة إلى زوجها، فكأن إعرابها بالكلام عما في نفسها، أعظم من مجرد الإبانة والإفصاح فهو التحبُّب...
وبهذا كله نجد أن معنى الإبانة والإفصاح هو المعنى الجامع لكلمة الإعراب، فنقول:
أعرب الإنسان كلامه؛ إذا أفصح فيه وأحسن. وعليه قول الرسول الكريم: أنا أعربكم: أنا من قريش؛ ولساني لسان بني سعد بن بكر (الجامع الصغير 1150).
ولكن المعنى الذي طغى على ذلك كله ما التصق بعلم النحو؛ وكأنه لم يعرف غيره من معاني لفظ الإعراب، فالإعراب هو علم النحو الذي يتعلق بأحوال اللفظ من جهة تفسير حركة آخره لأسباب كثيرة. وقد رأى ابن خلدون (المقدمة 545) أن علم النحو يقدم على أركان اللسان العربي الأخرى؛ وهي اللغة والبيان والأدب؛ فالنحو دليل على فهم المعنى.
ومن ثم صار الإعراب نظاماً دقيقاً من أنظمة علم النحو وعلم الدلالة بوصفه وسيلة وغاية في وقت واحد. وهذا ما نستشفه من حديث الرسول الكريم: أعربوا الكلام كي تعربوا القرآن. (الجامع الصغير 1150).
ثم اختلف علماء اللغة والنحو في تفسير سبب الإعراب وعلته؛ وغاياته وإن اتفقوا على وجوده. فهناك من ذهب إلى أنه من صفات الكلام في الوصل؛ فإذا وقف المتكلم على ختام كلامه لم يحتج إلى الحركات؛ فالحركات إنما جعلت في الوصل لئلّا يبطئ المتحدث في إدراك الكلام بعضه بعضاً. وقال سيبويه: "وزعم الخليل أن الفتحة والكسرة والضمة زوائد؛ وهنَّ يلحقن الحرف للوصل إلى التكلم به".
وأما معظم النحاة وفيهم سيبويه وابن جني والمبرد وابن فارس فقد تمسكوا بحركات الإعراب، وجعلوها دلائل على المعنى.
وكذلك دخل القراء في هذه القضية؛ وكان لهم جولات في الوقف، وفصول في الوصل... فروي عن أبي عمرو بن العلاء - أحد أصحاب القراءات القرآنية - أنه قرأ عشرات الآيات بتسكين أواخر الكلمات.
ورأى النحاة أن هذا التسكين في الوقف ليس حذفاً للحركات؛ وإنما هو اختلاس لفظي لها؛ وهذا الاختلاس لا يغير في بنية الكلمة إعراباً ودلالة.
ومن هنا اشترك النحاة والقراء في أمور، واختلفوا في أمور أخرى تتعلق بظاهرة الإعراب.
وبناء على ما تقدم ندرك أن النحاة وعلماء اللغة والأدب عامة أصبحوا حراساً لعلم النحو وظاهرة الإعراب، وأي مساس بهما إنما هو مساس بهم؛ وربما تجاوزوا ذلك فأخذوا يوجهون القول إلى ما فيه الصواب حينما يقع الخطأ على ألسنة الشعراء.
أما نحن وفي ضوء التجربة الذاتية والموضوعية فإننا نرى أن الإعراب يمثل نظاماً دفاعياً قوياً تسلَّحت به اللغة العربية؛ وكشفت به وبغيره عن قدرات هائلة وأسرار فريدة؛ وجمالية خاصة لا تتصف بها كثير من اللغات.
وقد حاول كثير من الباحثين استكشاف ملامح ذلك كله كما اتضح لنا سابقاً وكما يراه ابن قتيبة، (تأويل شكل القرآن 12). فقد جعل الإعراب وشياً للغة العربية وحلية لنظامها، وفارقاً في بعض الأحوال بين الكلامين المتكافئين، والمعنيين المختلطين كالفاعل والمفعول. فهما لا يُفَرَّق بينهما إذا تساوت حالاهما في الفعل إلا بالإعراب. فلو قال قائل: هذا قاتلُ أخي (برفع قاتل وإضافته) لدل اللفظ على الفاعلية الحقيقية؛ إذ دل على قتل أخيه. أما إذا نون لفظ (قاتل) بالرفع: هذا قاتلٌ أخي، فقد دل التنوين على أنه لم يقتله. وبهذا تكمن قيمة الإعراب وأسراره في الدلالة...
ومن هنا ندرك أن الإعراب نظام لفظي سمعي دقيق، ونظام دلالي مكتوب يختزن في طبيعته إشارات عظيمة لا يجوز التنازل عنه. وتتكامل ظاهرة الإعراب مع الظواهر اللغوية الأخرى، فالعربية التي لا تبدأ بساكن ولا تقف على متحرك تكره الجمع بين مصوتين؛ وبين حرفين متجاورين متماثلين في النطق، وتعتمد على سوابق ولواحق...
ونرى أن ظاهرة الإعراب تعد جزءاً من مهارة الكتابة والمحادثة؛ وهما تمثلان الاستعمال الصحيح للمعاني على وجه دقيق. وإذا أردنا أن نصل إلى ذلك فلابد من أن ننمي مهارة القراءة والسماع لدى الكبار والصغار للتدرب على الكتابة والمحادثة.
وقد انبثقت تصورات شتى للعناية بهذه اللغة وتيسير ظاهرة الإعراب منذ القديم؛ وما زال - حتى اليوم - قسم منها يستحق النظر، على حين أن القسم الآخر يسلب العربية شيئاً من خصائصها.
ويعد ابن مضاء الأندلسي أول القدماء الذي ألف كتاباً دعا فيه إلى إلغاء نظرية العامل التي هي أساس الإعراب عند النحاة، كما دعا إلى إلغاء العلل والثواني والثوالث؛ وإلغاء القياس المصنوع، والتمارين غير العملية.
ولم يستطع ابن مضاء أو غيره أن يزعزع سلطان الإعراب، على أهمية كتابه (الرد على النحاة ـ مطبعة لجنة التأليف والترجمة ـ القاهرة 1947م)
ولم يلتفت إلى تلك المحاولات، ولا إلى المحاولات الحديثة في عصرنا التي راحت تدعو إلى تيسير النحو، وإلغاء الإعراب وغير ذلك؛ لأن فيه مشقة وعنتاً على الناشئة في فهم علله وأسبابه كما جاء في دعوة إبراهيم مصطفى (إحياء النحو ـ لجنة التأليف والنشر ـ القاهرة ـ 1951م) و(تحرير النحو العربي ـ دار المعارف بمصر ـ القاهرة 1958م) وغيره...
ففي العصر الحديث ضاق بعض الباحثين ذرعاً بظاهرة الإعراب؛ وصمموا على النيل منها. وصادفت هذه الدعوة هوىً في نفوس كثير من الناس في الداخل والخارج، فتحرر بعضهم من القيود، وأطلقوا لألسنتهم العنان بالحديث دون ضابط، ولا مراقبة ذاتية أو موضوعية كما سعى بعضهم الآخر إلى الهجوم الشرس على العربية؛ وطفقوا يتهمونها بالتعقيد والصعوبة في الإعراب وغيره؛ فوقفوا في صف أعداء العربية؛ وإن لم يكن لديهم الرغبة في هذا.
وإذا كنا نؤمن بتيسير اللغة العربية على الناشئة؛ فإننا نؤمن في الوقت نفسه بوضع الضوابط اللازمة لهذا التيسير ودقة تنفيذها؛ لأن اللغة تجسد شرف الأمة وشخصيتها. ومن ثم نرى أن الضعف الذي نعاني منه لا يكمن في اللغة ولكنه ناتج عن تقصيرنا بخدمتها والعناية بها وبألسنتنا. وما أحلى ما قاله محمد الخضر حسين في هذا المقام:
لغةٌ أُودع في أَصدافها
من قوانين الهدى أبهى دُرَرْ
لغة نهصر من أغصانها
زهرَ آدابٍ وأَخلاقٍ غُرَرْ
ضاق طوق الحصر عن بسطتها
ولآلي البحر ليست تنحصر
يا لقومي لوفاءٍ إن مَنْ
نكث العهد أتى إحدى الكُبَرْ
فأقيموا الوجه في إحيائها
وتلافوا عقد ما كان انتثرْ
فهذه دعوة صريحة للأخذ بالأساليب المنطقية التي تحقق للغة العربية فاعليتها من دون أن نتخلى عن ظاهرة الإعراب...
وإذا سلمنا أن حركات الإعراب رموز دلالية؛ أو أنها تشبه الرموز الرياضية للرياضيات، والفيزيائية للفيزياء، والكيميائية للكيمياء وغير ذلك فلماذا نطالب أهل العربية بإلغاء هذه الرموز بينما نصر على بقاء أمثالها في اللغات الأخرى، أو في علوم أخرى ونحرص على تعلمها؟ ونتساءل: أيها الأصعب في هذا المقام؟.
فأساليب اللغة أياً كان نمطها إنما هي وسيلة تعبير لما في الأذهان والمشاعر وهي طرائق يعمقها الناس بالاستعمال فيألفونها، ومن ثم تصبح بمَرِّ الوقت طبعاً وسليقة.
وإذا كنا لا ننكر دعوة عدد من أبناء العربية إلى ربط اللغة بالواقع وجعلها صدىً للحياة الاجتماعية والفكرية فإننا نعجب من دعوة عدد منهم إلى إلغاء ظاهرة الإعراب. فمن يدرك روح العربية وخصائصها؛ وتطورها التاريخي وما قدمته في شتى المجالات العلمية والفنية والتقنية يتضح له أن الإعراب لم يكن في يوم من الأيام عائقاً أمام مواكبتها للمدنية والعلم وأصوله وما يتطور إليه..
ومن هنا فإن تقديم الأعذار لإلغاء الإعراب بحجة الواقعية إنما يشد اللغة الفصحى إلى الوراء، وليس له منطق سديد... وعلى من يتبنون هذه الأعذار أن ينشطوا لرفع المستوى اللغوي للناس، ومن ثم تنمية الملكات الثقافية لديهم..
ونرى أن المعاني التي تقوم عليها اللغة العربية بأساليبها كلها، ولا سيما ظاهرة الإعراب إنما هي قائمة على رابطة منطقية دقيقة بين المعنى والطريقة التي يرسل بها، وهي كغيرها من اللغات تحمل نظاماً خاصاً بطائفة من الناس وتخضع لأشكال معينة من أنماط التفكير، أو الحياة أو الثقافة المميزة لهم. فهل نلغي هذا الاستقلال في النظام أو هذا الانتماء إليه؟ فحين تتميز العربية بظاهرة الإعراب لتميز أهلها؛ فهل يعني هذا أن نقضي على هذا التفرد؟
بقي أن نشير أخيراً إلى ظاهرة اللحن في الإعراب، واللحن هو الخطأ، فكل من يتحدث عن ظاهرة الإعراب لا يغيب عن باله أن يناقش ظاهرة اللحن في اللغة، وقد تناول القدماء والمحدثون مشكلة اللحن في العربية؛ وأوضحوا أن اللحن أياً كان معناه إنما هو صفة من صفات الميل والانحراف والشذوذ عن النطق المألوف للفصحى ومن ثم تغيير في الدلالة...
وهذا يحتاج منا إلى كلمة أخرى.
المصدر : الباحثون العدد 59 أيـــار - 2012