كنوز من مخطوطات الحضارات القديمة، وشواهد الإبداع الفكري الإسلامي
على خليج واسع مطلّ على البحر الأيرلندي، تنهض مدينة «دبلن» عاصمة جمهورية أيرلندا، شامخة بأوابدها الشهيرة: القلعة التاريخية، والمتحف الوطني للفنون، وجامعة دبلن الكبرى التي تأسست عام 1595م باسم كلية «ترينتي» ولابد أن تقفز إلى الذاكرة عند الطواف بتلك المعالم وجوه أعلام الأدب الإنكليزي المعاصر الذين تركوا بصماتهم المبدعة في سجل الفكر العالمي: «جوناثان سويفت» (1667-1745) الكاتب الساخر الذي خلّدته «رحلات جليفر» والشاعر المسرحي والغنائي «ويليم بتلرييتس» (1865 – 1939) والذي أسهم في الحركة الوطنية الأيرلندية من خلال مسرحياته، والروائي الشهير «جيمس جويس» (1882 – 1942) مؤلف رواية «يوليسيس» الخالدة.
ثمة شخصية موهوبة نذرت جهدها ومالها للحركة الثقافية من خلال ميدان آخر تجسّد عملها في جمع التراث الأدبي العالمي، واحتضانه في ركن فسيح بالجامعة الأيرلندية، ليبقى في عهدة أمينة تتولى إحياءه ووضعه في خدمة الباحثين والمؤلفين من كل أنحاء العالم.. وفي ذلك الركن تتربع مكتبة «تشيستر بيتي» بكنوزها من المخطوطات والمصاحف النادرة القادمة من أركان العالم الأربعة..
* من هندسة التعدين إلى جمع المخطوطات:
الفرد تشيستر بيتي، مؤسس المكتبة التاريخية العامرة، أيرلندي الجنسية ولد في مدينة «نيويورك» الأمريكية عام 1875 وتعلّم فيها.
وفي عام 1895 انتسب إلى كلية هندسة التعدين في كولومبيا حيث تخرج بتفوق عام 1898، وفي شتاء العام نفسه غادر نيويورك متجهاً إلى دنفر في ولاية كولورادو التي كانت وقتئذ مركز صناعة تعدين النحاس الأمريكية..
أهم شيء كان يتميز به، هو إنه كان يتمتع بقدرة عالية على الحكم الجمالي ويحسن الحكم على القيمة الفنية للصورة أو الرسم أو الخط.
وقد أصبح تشيستر بيتي جامعاً للمخطوطات في جدية واهتمام منذ عام 1913 إثر زيارة قام بها للشرق الأوسط، فقد عثر مصادفة على مجموعة كبيرة من المخطوطات الإسلامية التي كانت معروضة للبيع بأثمان زهيدة، سواء لشدة حاجة صاحبها الأصلي إلى المال أو لأنه لم يكن على درجة من الوعي بحيث يقدّر قيمتها أو أهميتها.
ومنذ تلك اللحظة أقبل تشيستر بيتي على شراء المخطوطات والأعمال الفنية العربية والفارسية والهندية.
ولم يكن يقتصر على جمع الطبعات الأولى فقط، بل إنه كثيراً ما كان يشتري الكتاب بسبب تجليده أو ما يزيّنه من رسوم..
كذلك لم يهتم بشراء مخطوطات عصر معين، بل إن مجموعاته المختلفة أصبحت تضم ما يبرز تاريخ الحضارة ابتداءً من عام 2500 قبل الميلاد وحتى اليوم..
ومن أقدم ما نجح في الحصول عليه: مجموعة ألواح الطوب البابلية، وأوراق البردي المصرية واليونانية، ومنها على سبيل المثال صحيفة من البردي كُتبت في عهد رمسيس الخامس، وهي تمتاز بأهمية خاصة لأنها تضم بعض أغاني الحب المصرية القديمة في نصوصها وهي كاملة تماماً..
ولكن أشهر مجموعة من أوراق البردي في مكتبة تشيستر بيتي هي الصحائف التي تضم الكتاب المقدس باليونانية، وقد اكتشفت في الفيوم المدينة المصرية العريقة حيث كانت مدفونة في مكان كان من قبل سرداباً لكنيسة قديمة، وحصل عليها تشيستر بيتي من بائع في القاهرة عام 1929، ولكنه لم يعلن عن اكتشافه على العالم إلا عام 1931 عندما تأكد من صحتها – وطبعاً كان البائع لا يعرف قيمتها أو قدرها..
وفي فترة الانتظار كان علماء الكتاب المقدس يفحصون أوراق البردي بسرية تامة لتحديد تاريخها وعمرها، وقد اتضح بالفعل أن أوراق البردي هذه كانت أهم فئة من المخطوطات المتعلقة بالكتاب المقدس التي اكتشفت منذ اكتشاف قانون سيناء عام 1844، واتضح أيضاً أن أجزاء سفر التكوين التي حصل عليها تشيستر بيتي كانت أقدمها في الوجود..
* البداية من القاهرة:
في شتاء عام 1913 وصل بيتي وزوجته الجديدة إلى مصر للمرة الأولى، وقد أُسِرا تماماً بجمال وادي النيل وآثاره الأسطورية، ووجدا المناخ ملائماً جداً فقررا شراء بيت هناك بحيث يتمكنان من قضاء كل شتاء فيه. وقد بنى بيتاً بالقرب من الأهرام فيما بعد وأحاطه بالجنائن وبساتين البرتقال وأطلق عليه اسم «البيت الأزرق».
وكان من عادات بيتي أن يتمشى حول الأسواق وفي أحياء القاهرة القديمة، وكان يصادف أثناء هذه الجولات عدداً كبيراً من المخطوطات القديمة المتعددة الأنواع، وكان يجد في دكان صغير هنا على سبيل المثال نسخة من القرآن كتبت لأحد سلاطين المماليك، أو ربما رسالة في الجفر مزينة بالرسوم الغريبة التي سبق أن أعدت لمكتبة اسطنبول الملكية، وقد يجد هناك في زاوية مكتبة قديمة يغطيها الغبار نسخة قيمة من ديوان حافظ أو سجلاً مرقعاً من الرسوم من بلاط الإمبراطور الهندي جهانكير.
لقد وجد بيتي كل هذا وأكثر، إلا أن الشيء العجيب هو أن عدداً ضئيلاً جداً من الناس كان يبدي اهتماماً بهذه النفائس الموجودة أمام أنوفهم. فقد كان أغلب الأوروبيين يفضلون جمع المخطوطات الغربية على الأعمال الإسلامية. أما السبب في ذلك فبسيط بطبيعة الحال، إذ كانت الدراسات الإسلامية آنذاك لا تزال حقلاً علمياً جديداًَ، كما إنه بغض النظر عن المستشرقين الذين كانوا يعملون في المتاحف الكبيرة، فإن عدداً صغيراً من الجامعين كان يهتم اهتماماً خاصاً بالمخطوطات الإسلامية، وهكذا فقد كان من السهل على بيتي أن يشتري روائع المخطوطات والأعمال الفنية بأبخس الأثمان.
وبهذه الطريقة بدأ بتكوين إحدى أدق المجموعات الخاصة من المخطوطات الشرقية، ورغم أن بيتي لم يكن قادراً على قراءة سطر واحد من أي من المخطوطات التي كان يشتريها، إلا إنه استطاع أن يكوِّن مكتبة يندر أن تضاهيها مكتبات أخرى في أي مكان في العالم.
* روائع التراث من أسواق الكتب:
لم يقتصر بيتي على شراء المخطوطات من القاهرة، لأنه بعد عودته إلى أوروبا بدأ يبحث في أسواق الكتب في لندن وباريس للحصول على المؤلفات العربية والفارسية التي كانت تظهر من حين لآخر.
وقد نال مساعدة كبيرة بالمشورة التي كانت يسديها إليه «إدوارد إدواردز» الذي كان يعمل آنذاك في قسم المخطوطات الشرقية في المتحف البريطاني، وكان لبيتي وإدواردز طريقة في الشراء مكّنتهما من الحصول على أعمال نادرة كثيرة، فحين كان وكلاء بيتي ينصحونه بشراء كتاب ما، كان يدفع ربع الثمن أو ثلثه كعربون، ثم يعطي الكتاب إلى إدواردز لفحصه، فإذا نصح إدواردز بيتي بشرائه بادر بدفع بقية الثمن.
وكان لبيتي عدة وكلاء يعملون لحسابه في الشرق، ولعل أشهر اثنين منهم كانا سركيسيان، وهو تاجر كتب أرمني، وا.س. يهودا، مستشرق يهودي من شمالي إفريقيا.
وكان لسركيسيان محل في شارع سليمان باشا في القاهرة، وقد أصبح مخزنه أحد مراكز الشرق الأوسط لشراء وبيع المخطوطات الشرقية وكانت له خبرة كبيرة في هذا الحقل وكان يشتري أحياناً مكتبات بكاملها ثم يعرض ما فيها من نفائس نادرة على بيتي.
أما ا.س يهودا، فقد اشترى لحساب بيتي ما يزيد على الألف مخطوطة، أي بعبارة أخرى، ما يزيد على ثلث المجموعة الحالية من الكتب والأعمال العربية.
وقبل أن ينتقل بيتي إلى أيرلندا عام 1949 أوُدعت المكتبة في منزله اللندني «بارودا هاوس»، وفي خلال الفترة الواقعة بين عام 1911 و1949 كان بيتي يسمح لمستشرقي العالم على اختلاف جنسياتهم بفحص ودراسة مخطوطاته بكل دقة وتفصيل. وأكثر من هذا، فقد شغّل كبار علماء العصر على حسابه الخاص في تدوين وفهرسة ونشر وطباعة مجموعته.
* كنوز التراث الفكري في مكتبة تشيستر بيتي:
(1) المخطوطات العربية الإسلامية:
* لا بد وأن تمتلك الدهشة كل من يزور مكتبة «تشيستر بيتي» وبشكل خاص حين يطوف بمجموعات المخطوطات العربية والإسلامية النادرة وتتألف هذه المخطوطات التي نسقها وفهرسها المستشرقان ا.ج. آربري من كامبردج. والألماني باول كاله، من ثلاثة أنواع: نسخ قديمة جداً، ومؤلفات فريدة، ومخطوطات نسخت بيد المؤلف نفسه.
هناك مثلاً نسخة تعود إلى أوائل القرن الثالث عشر من «صور الأقاليم» من تأليف الأصطخري (340هـ/951م) وقد زُينت بخرائط دقيقة، ومؤلف غير معنون للكاتب الأندلسي المعافري المالقي (المتوفى 605هـ/1209م) يحتوي على مقالات لنساء شهيرات كعائشة بنت طلحة وأم الدرداء من دمشق الشام المشهورة بعلمها في الفقه وعلم الكلام، والشاعرة ليلى الأخيلية مع بعض أشعارها، وهناك أيضاً مخطوطة نفيسة لفهرست ابن النديم (377هـ/987م) ونسخة من «أدب الكاتب» لابن قتيبة (المتوفى 276هـ/889م) مخطوطة بيد ابن الجوزي (المتوفى 597هـ/1200م) وهناك عمل فريد عن مشاهير رجال مدينة إربل «تاريخ إربل» للمستوفي الأربلي (المتوفى 627هـ/1229م).
وتحتوي المكتبة أيضاً على نسخة من المقامات الحريرية تحتوي على حاشية كتبت بيد المؤلف أبي محمد القاسم الحريري (المتوفى في 516هـ/1122م) ومؤلف نادر لكاتب مجهول عن البيزرة بعنوان «كتاب البيزرة» الذي كتب على ما يبدو للخليفة الفاطمي العزيز (المتوفى في 383هـ/993م) وهناك كتاب عن النحو نسخة الجغرافي الشهير ياقوت (المتوفى في 626هـ/1229م) وقد كتبه في مرو، كما نرى من الخاتمة: «وفرغ من انتساخه بمرو الشاهجان في عشية الأحد لثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان (سنة 615هـ/1218م) ياقوت بن عبد الله الحموي المولي الرومي الأصل..» وهناك أيضاً مخطوطة عن السيمياء والعلوم الصوفية وتشير خاتمتها إلى أنها نسخت في قلعة مصياف في سورية (615هـ/1218م) بيد القائد أبي فراس بن القاضي نصر.
وخلافاً للمخطوطات المكتوبة في العالم العربي نفسه، هناك مخطوطات عربية أخرى من عدة بقاع أوروبية وإفريقية، فهناك مثلاً: كتاب نادر في العقائد بعنوان «عقيدة ابن إصبع الغرناطي» وكان صاحبه الأندلسي قد وهبه إلى مسجد «سويفة الدوح» في غرناطة قبل القرن الثاني عشر الميلادي، وتضم المكتبة أيضاً عملاً رائع التجليد مزيناً بالرسوم من إفريقيا الغربية بعنوان «كنوز الأسرار في الصلاة على المختار» للشيخ عبد الله الخياط بن محمد الهاروشي المغربي، ومن المحتمل أن يكون هذا الكتاب قد نُسخ لأحد الأمراء المسلمين في إفريقيا الغربية في بداية القرن التاسع عشر.
* المخطوطات الفارسية – 300 مجلد
إن الميزة الفنية لمجموعة تشيستر بيتي لا تقل أهمية بدون شك عن الميزة الأدبية، وفي الواقع فإن تاريخ الفن الإسلامي بكامله يمكن دراسته من المخطوطات الموجودة في المكتبة – من القرن الثالث عشر حتى التاسع عشر.
ورغم الاعتقاد السائد حول تحريم الإسلام للرسم والتصوير الشكلي، إلا أن فن تزيين المخطوطات بالرسوم ازدهر في العالم الإسلامي طيلة العصر الوسيط، وخاصة في بغداد العباسية، والقاهرة المملوكية، وإيران الصفوية، واسطنبول العثمانية.
ومن بين البلدان الكثيرة التي كانت تهتم بفن الرسم يمكن اعتبار إيران أهمها قاطبة، ومن المعروف أن المخطوطات كانت تزين بالرسوم التوضيحية في عهد السلاجقة، وحتى قبل ذلك، كما نرى مثلاً من مخطوطة «ورقة وكلشاه» في متحف طوبقابو في استانبول، رغم إنه ليس من المحقق فيما إذا كان أصل هذه المخطوطة من إيران أو الأناضول. ومع ذلك فإن معرفتنا بالرسم الفارسي لا تبدأ إلا بعد الغزوات المغولية في القرن الثالث عشر.
ويوجد في مكتبة تشيستر بيتي نسخة من بستان سعدي مزينة برسوم يفترض أنها من عمل «بهزاد» في شبابه.
والمخطوطة على أسلوب «بهزاد» وتنمّ عن دقة متناهية في التنفيذ وحيوية في الحركة وتوازن في الألوان كما أنها تظهر الملامح الشخصية الفردية للوجوه.
وقد ازدهرت خارج البلاط الملكي عدة مدارس محلية للرسوم ولعل أطرافها وأهمها المدرسة التركمانية التي وُجدت في القرن الخامس عشر.
ويوجد في مكتبة تشيستر بيتي عدة مخطوطات من هذه المدرسة، أبدعها وأدقها جزء من كتاب يدعى «خاورنامه» وقد نسخ عام 1480. ويحتوي على قصص أبطال الإسلام الأولين وخاصة أولئك الذين يتصلون بالإمام علي، والصور في حجم كبير غير اعتيادي وقد رسمت بألوان زاهية جداً، وهي ليست مثقلة بالتفاصيل الدقيقة كما تميل بعض المنمنمات الفارسية إلى ذلك.
وبالإضافة إلى المخطوطات الفارسية التي جمعت لمزاياها الفنية، فقد تم الحصول على عدد كبير من المخطوطات الأخرى من أجل نصوصها، فهناك مثلاً نسخة قديمة جداً من رباعيات عمر الخيام مؤرخة عام 1259م.
وهي تعتبر من أقدم النسخ المعروفة للرباعيات وقد قام ا.ج. آربري بنشرها عام 1949، وهناك قاموس طبي فريد بعنوان «المجموعة المبارزة» تم نسخه عام 1389م وكذلك توجد ترجمة فارسية مشهورة جداً لكتاب يحتوي على أقوال منسوبة إلى الإمام علي تم نسخه عام 1329م.
* المخطوطات التركية – 170 مجلداً:
المعلوم من المصادر التاريخية أن السلاطين الأتراك كانوا يشجعون التصوير وأن بعضهم كان يستعين بالأوروبيين والإيرانيين ليعملوا عندهم في اسطنبول. فقد استدعى محمد الثاني (1451 – 1481) الرسام الإيطالي «جنتيلي بيلليني» إلى اسطنبول حيث رسم صورة السلطان التي تشاهد اليوم في المتحف الوطني في لندن. وهناك رسام إيراني وهو شاه قولي كان يعمل في بلاط سليمان القانوني (1520 – 1566) ثم أصبح وزيراً أعلى لدى السلطان.
ورغم عمل الفنانين الإيرانيين والأوروبيين المهاجرين فقد نشأت مدرسة وطنية للتصوير بعد حين في تركيا، أطلِق عليها اسم «المدرسة العثمانية» وكان مركزها القصر الملكي، لأن الأغلبية من المخطوطات التي زُينت بالرسوم في تركيا كانت تنتج للمكتبة الإمبراطورية، ويوجد في مكتبة تشيستر بيتي عدة مخطوطات من المحتمل أنها أُنجزت للسلاطين ولعل أشهرها «سليمان نامه» و«زبدة التاريخ».
أما كتاب «سليمان نامه» فتأريخ لفتوحات السلطان سليمان القانوني، وقد كتبه «لقمان عشوري» عندما كان شاهنامه جي السلطان، أي «مؤرخه الرسمي» ويحتوي الكتاب على 25 صورة رائعة تظهر جميع تفاصيل عمليات سليمان العسكرية، وفي الحقيقة فقد تخصص المصورون الأتراك في هذا النوع من المخطوطات، ويبدو كتاب سليمان نامه في كثير من الوجوه كسجل فوتوغرافي للعصر.
أما الكتاب الثاني «زبدة التاريخ» فقد ألفه «لقمان عشوري» وهو يشتمل على تأريخ العالم من آدم حتى العهد الإسلامي، وقد قام بتزيين هذه المخطوطة المؤرخة عام 1581م بالرسوم المصور الشهير «صنعي» الذي يحتمل إنه رسم كذلك خريطة العالم الرائعة التي تظهر في المخطوطة أيضاً.
* المخطوطات المغولية الهندية – 74 مجلداً وسجلاً مصوراً:
كان من نتائج غزو «بابر» لهندوستان تغلغل الحضارة الإسلامية في الهند، وكان «بابر»، حفيد تيمور، وأخلافه رعاة كبار للفن والأدب وقد شجع كثير منهم فن الرسم بوجه خاص، ولعل أهمهم في هذا الحقل الإمبراطوران أكبر (1556-1605م) وجهانكير (1605-1628م). وكان أحد أهداف «أكبر» إحياء مدرسة للرسم، ولتحقيق هذه الغاية فقد أنشأ معهداً ضمَّ أكثر من مئة فنان هندي يعملون تحت إشراف فنانين من إيران، وكان المعهد يحتوي كذلك على عدة مخطوطات فارسية مزينة برسوم كبار الرسامين أمثال «بهزاد».
وفي نهاية القرن السادس عشر نشأت مدرسة وطنية حقيقية للرسم في الهند المغولية كنتيجة للتأثير الذي مارسه فنانو كشمير وكجرات والبنجاب.
ومن المخطوطات التي زينها بالرسوم فنانو بلاط الملك «أكبر» كتاب «أكبر نامه» أي سيرة أكبر، وتوجد نسخة منه في مكتبة تشيستر بيتي. وهناك احتمال كبير أن النسخة الرائعة الموجودة في المكتبة تم إنجازها للإمبراطور نفسه.
وخلال حكم «جهانكير»، ابن أكبر، ازدهر فن تصوير الشخصيات، وهناك عدة رسوم شخصية لجهانكير، إما وحده أو محاطاً برجال بلاطه.
وكان الكثيرون من رجال الحاشية يقلدون الإمبراطور بحيث أخذوا يكلفون الرسامين بعمل صور شخصية لهم أيضاً، ويوجد في مكتبة تشيستر بيتي ألبوم يحتوي على عدة رسوم رائعة وصور من بلاط «جهانكير» أتمّها كبار رسامي العصر أمثال: بدارث وبجتر وفرخ بيكك وكوردهان وأبو الحسن، ويوجد في الألبوم صورة رمزية بديعة رسمها أبو الحسن الذي منحه جهانكير لقب «نادر الزمان». وتظهر هذه الصورة الإمبراطور واقفاً على كرة موضوعة على ظهر ثور، ويرتكز الثور على سمكة كبيرة.
ويوجد فوق رأس الإمبراطور ملاكان أحدهما يحمل سيفاً، والآخر يحمل ثلاثة سهام، وفي هذه الصورة يمكننا أن نرى براعة الفنانين الهنود الممتازة في حقل رسم الصور الشخصية، وهو حقل كانوا أسياده بدون منازع.
ورغم أن إيلخانيين المغول الذين حكموا إيران كانوا أجانب، إلا أنهم بذلوا ما في طاقتهم لتشجيع ازدهار الرسم في تلك البلاد. وكانوا يكلفون الفنانين بتزيين كتاب الفردوسي العظيم الشاهنامه بالرسوم، وهو مؤلف ظل بعد ذلك مصدر الإلهام الرئيسي للرسامين الفارسيين.
وأشهر نسخة من كتاب الشاهنامة تدعى «ديموت شامه نامه» كانت قد نسخت حوالي عام 1340م وربما في تبريز، التي تعتبر رسومها من روائع الفن العالمي، ويوجد حوالي ستين صفحة من هذه المخطوطة النادرة، منها تسع صفحات في مكتبة تشيستر بيتي، وقد يكون من الجدير أن نذكر في هذا المجال أن صفحة واحدة من هذه المخطوطة بيعت عام 1969 في لندن بثلاثين ألف جنيه.
وفي نهاية القرن الخامس عشر بدأ عهد جديد في الرسم الإسلامي تحت رعاية «حسين ميرزا» حاكم هرات في شرق إيران، وكان أحسن رسام في ذلك العهد كمال الدين بهزاد.
* مخطوطات ولوحات فنية نادرة:
كانت مكتبة تشيستر بيتي تضم في فترة ما عدداً كبيراً من المخطوطات العربية إلا أن أغلبها بيع بعد وفاة السير تشيستر بيتي عام 1968..
والباقي منها له أهمية قصوى، فعلى سبيل المثال يوجد «كتاب الساعات» الرائع الذي كُتب بأمر من عاشق الكتب الكبير الأميرال كوتيفي الفرنسي حوالي عام 1845م.
وهذا الكتاب عبارة عن 144 لوحة جميلة في حجم صغير جداً قام برسمها كبار فناني بدفورد. ويقال إن الأميرال كوتفي كان يأخذها معه في رحلاته..
كذلك تضم مجموعة تشيستر بيتي مخطوطات أرمينية لها وضع خاص لدى المؤرخين نظراً للمركز الذي كانت تحتله أرمينيا بين بيزنطة والعالم الإسلامي، وقد نجح القادة المسلمون فعلاً في نقل الرسم البيزنطي إلى مراكز التأليف والمخطوطات في عواصم العالم الإسلامي..
وتعود روائع هذه المخطوطات إلى القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وقد زين بعضها برسوم أعظم الرسامين، ومن بينها أيضاً عدد كبير من المخطوطات من أصفهان، وفيها أيضاً خمسون مجموعة من المخطوطات الأثيوبية التي زينت برسوم «منمنمة» كثيرة وكلها ذات طابع إفريقي قوي..
وهناك مجموعة صينية عبارة عن 170 صحيفة منها 3 مجلدات من موسوعة قديمة كانت قد ألفت بأمر من الإمبراطور العالم «تشيين لونج» «1756-1795» وبلغ عدد مجلداتها ألفي مجلد، وقد حفظت هذه المجلدات في المكتبة الإمبراطورية في بكين إلى أن قامت ثورة البوكسر عام 1900 عندما أحرقت البناية أثناء المعارك، وبعد الحريق تم إنقاذ بعض المجلدات ونقلها من الصين، وبالتالي استطاع تشيستر بيتي أن يشتري ثلاثة مجلدات منها.
وهناك أيضاً تعويذة سحرية بوذية من القرن الثامن عشر كتبت على ورق وأحيطت بمعبد مصغر، ولها أهمية كبيرة حيث إنها أقدم نموذج معروف لنص مطبوع.
والمجموعة اليابانية تحتوي على مئة صحيفة ملفوفة من الرسوم، ولبعضها قيمة صناعية خاصة لأنها تحتوي على تسجيل لعمليات زراعة الشاي وصناعة الحرير وكذلك معلومات عن التعدين والمناجم.. وهنا تنعكس اهتمامات تشيستر بيتي الأصلية، إذ إنه بدأ حياته كمهندس تعدين..
وهناك ما يقرب من الألفي عمل مطبوع باليابانية بالإضافة إلى عدد من الكتب المطبوعة بالكليشيهات الخشبية، وتمثل هذه الكتب جميع عظماء فن الطباعة اليابانيين من أمثال هوكوزاي، وهيروشيجي، وأوتامارو وغيرهم..
* جواهر المصاحف الشريفة:
إضافة إلى كل الكنوز السابقة تحتوي المكتبة على نخبة بديعة من المصاحف النفيسة من أنحاء العالم الإسلامي ابتداءً من الأندلس حتى الصين، ومن أغلب العصور التاريخية.
ولا شك أن أشهر المصاحف الموجودة في المكتبة، النسخة التي نسخها الخطاط العظيم «ابن البواب» في بغداد عام 391هـ/1000م، كما يتضح من الخاتمة: «كتب هذا الجامع علي بن هلال بمدينة السلام سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، حامداً لله تعالى على نعمه ومصلياً على نبيّه محمد وآله ومستغفراً من ذنبه». وقد قال منظم فهرس مجموعة المصاحف، المستشرق آربري: إن مجموعة المصاحف في مكتبة تشيستر بيتي الفائقة في الحجم والجودة والتنويع، تضم نماذج مدهشة من كل قرن وكل أسلوب بحيث توضح بكمال يثير الدهشة تاريخ النسخ الفني للقرآن الكريم.
* كان تشيستر بيتي مشهوراً بالكرم خاصة فيما يمس الكتب والمخطوطات، ولكن قمة كرمه وسخائه إنه عندما توفي عام 1968 وهب مكتبته بأكملها للأمة الأيرلندية.. هذه المكتبة التي تضم الآن أكثر من اثني عشر ألف مخطوط وعمل فني..
وستظل بطبيعة الحال كنزاً عظيماً للحضارة الإسلامية وترحب دوماً بالباحثين من جميع أنحاء العالم ليقوموا بدراسة ثروة الآداب العربية المحفوظة بين جدرانها، ويفيدوا من معينها الثر، بعد أن يعيدوا إليها الألق ونبض الحياة.
المصادر:
- كنوز مكتبة تشيستر بيتي: ديفيد جيمس - ترجمة: محمد علي حشيشو
- نوادر المخطوطات الإسلامية في مكتبة دبلن: د. حسين مؤنس – مجلة الهلال القاهرة.
المصدر : الباحثون العدد 60 حزيران 2012