يُعد العود من أقدم الآلات الموسيقية الوترية، التي كان لها حظ ٌ كبيرٌ عند عدد كبير من شعوب وأقوام الممالك القديمة في الشرق القديم، ومازالت هذه الآلة تجد هذا الحظ عند شعوب هذه المنطقة بما فيها طبعاً شعبنا العربي.
يُجمع الباحثون المصريون وغير المصريين من آثاريين ومؤرخين وموسيقيين، على أن العود بنوعيه ذي العنق الطويل والآخر ذي العنق القصير عُرف أول ما عُرف في مصر الفرعونية قبل خمسمئة وثلاث آلاف سنةٍ، وبالتحديد في زمن الدولة الحديثة في ظل حكم الأسرة الثامنة عشرة عام 1600 قبل الميلاد.
إن تحديد هذا التاريخ تم بفضل العلماء والباحثين الآثاريين الذين قاموا بدراسة النقوش والمنحوتات التي عثروا عليها في آثار ومعابد تلك الدولة، التي يظهر فيها العود ذي العنق القصير كآلةٍ أساسيةٍ في الفِرق الموسيقية.
علماءُ الآثار الذين نقبوا في آثار مدينة " طيبة " الفرعونية، عثروا فيما عثروا عليه على آلة عودٍ ذات عنق قصيرٍ سلمت من عاديات الزمن إلى حدٍ ما، وعلى الريشةِِ الخشبية التي كانت تُستعمل في الضرب عليه، وهذا العودُ الذي عُثر عليه يعودُ تاريخه إلى عام 700 قبل الميلاد، وهو محفوظ اليوم في متحف في برلين في الجناحِ الخاص بالآلات الموسيقية المصرية القديمة...
كذلك يضم هذا الجناح بالإضافة إلى العديد من الآلات الموسيقية التي ترجع إلى ذلك الزمان والذي زرته بنفسي في خريف عام 1973 مع وفد من اتحاد الكتاب العرب، العديد من النقوش المنحوتة التي يمثل واحد منها عازفاً يعزف بالعود.
والعود - كما أثبت علماءُ الآثار والباحثون - ظهر كآلةٍ وتريةٍ بعد ظهور عددٍ من الآلات الوترية الأخرى، كالصنج والكنارة، وهما آلتان ذات أوتارٍ مطلقةٍ.
وهاتان الآلتان تقودانا في الوقت نفسه إلى تسميةٍ أخرى لهما قد يكون العودُ واحداً منهما.
فالصنج عرفت في بلاد فارس باسم " الجنك " وكلا الاسمين " الصنج والجنك " ينطبقان على آلة الهارب " الغربية التي أخذت عنهما، ولا نعرف بالتحديد فيما إذا كانت هذه الآلة ظهرت في مصر أولاً أم في بلاد فارس.
أما "الكنارة" فبالرجوع إلى أسماء العود ومنها "الكران" الذي يشبه العود، وإلى تصحيف هذه اللفظة، نجد أن كنار أو كِنار موجودة في اللغة العبرانية ونجد لفظة " كنورا " في اللغة النبطية، وهي لا تخرج عن كونها تسميات بلغات بعض الشعوب القديمة لآلة واحدةٍ تشبه آلة العود وإن اختلفت في أحجامها وأشكالها وعدد أوتارها، وهذا يعني أن الكنارة كآلة مصرية ذات أوتار مطلقة ربما ابتدع منها آلة العود، لأنها سبقت العود في ظهورها واستعمالها.
وبالرجوع إلى العهد القديم في الكتاب المقدس /التوراة / نعثر في سفر التكوين على اسم " يوبال " كمخترع للعود والمزمار حيث يقول:
".. واتخذ لامك " لنفسه امرأتين، اسم الواحدة " عادة " واسم الأخرى " صلة" فولدت عادة " يابال" الذي كان أباً لساكني الخيام ورعاة المواشي، واسم أخيه "يوبال" الذي كان أباً لكل ضارب بالعود والمزمار. " وصلة " أيضاً ولدت " توبال قايين" الضارب كل آلة من نحاس وحديد.
كذلك ورد ذكر العود في سفر التكوين في الإصحاح الواحد والثلاثين وفي سفر الأيام الأولى في الإصحاح السادس عشر، وفي المزمور الحادي والثمانين:
" ارفعوا نغمةً، وهاتوا دفاً وعوداً حلواً مع رباب "
ويقول الدكتور العالم "محمود أحمد الحفني" في مقال نشره في مجلة الفنون في العدد الأول المجلد الأول في بحث " تطور الآلات الموسيقية " يسند فيه إلى شاعر الخليفة المعتمد بالله "عبد الله بن خرداذبه" قوله:
إن أول من استعمل العود هو"لامك بن متوشالح بن محوئيل بن عياد بن أخنوخ بن قايين بن آدم" وكان " للامك" ولد يحبه حباً شديداً، اختطفه الموت فعلق جثته بشجرة، فتقطعت أوصاله، ولم يبق إلا الفخذ والساق والقدم مع الأصابع، فأخذ " لامك " قطعة من الخشب وهذبها وصقلها بعناية وصنع منها عوداً جاعلاً صدره بشكل الفخذ، وعنقه بشكل الساق، ورأسه بشكل القدم، والملاوي مثل بها الأصابع، والأوتار مثل بها العروق، حتى إذا انتهى من ذلك عزف عليه وأخرج منه أصواتاً موسيقية وأنشد نشيداً مستصحباً العود.
أما العالم والمؤرخ أحمد باشا تيمور فذهب في كتابه الموسيقا والغناء عند العرب إلى الآتي:
"وجدت في إحدى الكتب القديمة عن لسان صفي الدين عبد المؤمن أن أول من أظهر العود واستنطقه وأخرج منه الأنغام "نوح عليه السلام" وأنه عُدم أثناء الطوفان ثم في عهد " داوود " عليه السلام استُخرج وهُذب وضُرب به. وأما إجماع أهل هذه الصناعة على أن أول من أحدث العود " داود عليه السلام "، فلم يثبت بعد، وذكر العلماء أن العود الذي كان يضرب به لم يزل بعد وفاته معلقاً ببيت المقدس إلى حين وصول " بختنصّر" وإخرابه البيت.
لا يختلف العود المصري بنوعيه عن الأعواد أو العيدان الأخرى التي عرفتها الممالك القديمة إلا في فروق بسيطة. وإن كان العود ذو العنق القصير يشبه كثيراً العود الحالي، والمملكة الآشورية التي كان لها دور حضاري بارز في هذه المنطقة، عرفت في أوج استقرارها وازدهارها صناعة الآلات الموسيقية والضرب عليها ومن هذه الآلات العود ذو الرقبة الطويلة، وتمتاز آلة العود الآشورية عن مثيلتها المصرية بدساتينها الوفيرة. وتدل النقوش المحفوظة في متحف برلين في الجناح الخاص بالشرق القديم للآثار الآشورية والبابلية، على أن عدد أوتار العود الآشوري لا يزيد عن الوترين بخلاف العود المصري الذي قد يصل عدد أوتاره إلى أربعة، وهو على هذا الأساس أي العود الآشوري بصندوقه الصغير ودساتينه الكثيرة يشبه آلة الطنبور، إلى حدٍ بعيدٍ في مواصفاته وخصائصه. وإذا كانت آلة العود المصرية قد لعبت دوراً بارزاً في طقوس المعابد وفي الحياة الدنيوية فإنها عند الآشوريين اقتصرت على الحياة الدنيوية، وكان أغلب الناس يعزفون عليها ولاسيما الرعاة، ولم تعرف طريقها إلى المعابد على الإطلاق.
وإذا تجاوزنا الحضارتين الفرعونية والآشورية إلى الحضارة الفارسية، فإننا نجد الغلاة من الباحثين الفرس يقولون: إنهم كانوا السباقين إلى ابتداع آلة العود قبل غيرهم من الشعوب، وإذا ما رجعنا إلى الآثار الفارسية وإلى الآثاريين الذين درسوا النقوش والصور والمنمنات والمنحوتات والتماثيل الفارسية فإننا نجد أقدم مشاهد للعود ترجع إلى تماثيل "الجانداهارا" في كشمير المتنازع عليها اليوم بين الهند وباكستان.
ويعود تاريخ هذه التماثيل والصور الأخرى والنقوش للعود والعازفين عليه إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وهذا يعني أن الفراعنة المصريين وحتى الآشوريين سبقوا الفرس في ابتكار آلة العود.
والفرس هم الذين استطاعوا أن يجعلوا من آلة العود آلة متقدمة جداً بعد أن بلغت حضارتهم من الازدهار شأواً بعيداً.
والعود الفارسي من العيدان ذوات العنق الطويل، ودساتينه تفوق في عددها دساتين العيدان المصرية والأشورية، وأوتارها مصنوعة من الجلد والمعدن، والريشة التي تستخدم في الضرب عليه صنعت من أصداف السلاحف، ويطلق الفرس اسم "البربط" على العود، و" تار" من "وتر"، وإذا كان العود يتألف من وترين سمي "دوتار"، وإذا كان يتألف من ثلاثة أوتار سمي "سيتار" ومن أربعة أوتار "كارتار" اختصار لكلمة "جهار" التي تعني أربعة، وبنمتار إذا كان يتألف من خمسة أوتار.
والعود الفارسي ذو الرقبة الطويلة يشبه الطنبور، ويمتاز عن العود ذي الرقبة القصيرة بإمكانية الحصول وفق طول الوتر على أنغام عديدة بسبب عدد دساتينه، بخلاف العود ذي العنق القصير الذي لا يمكن للعازف عليه من الحصول على سلم كامل إلا باستخدام عدد من الأوتار لافتقاره إلى ذلك العدد الوفير من الدساتين التي يحتويها العود ذو العنق الطويل في كل وتر من أوتاره.
يقول ابن عبد ربه في العقد الفريد عن الغناء والموسيقا عند العرب ما يلي:
".. كان أصل الغناء ومعدنه، في أمهات القرى من بلاد العرب، ظاهراً فاشياً، وهي: المدينة، والطائف، وخيبر، ووادي القرى.. وهذه القرى مجامع أسواق العرب."
وهذا يعني أن الحجاز بالإضافة إلى مركزها التجاري الهام، كانت مركزاً ثقافياً تتبارى في أسواقه مختلف الفنون السائدة آنذاك وفي مقدمتها الشعر والغناء.
كذلك كانت الحيرة مركزاً ثقافياً هاماً، إذ منذ استقر العرب في بلاد مابين النهرين في القرن الثالث سموا تلك الأرض بالعراق العربي، وجعلوا عاصمتهم "الأنبار" ثم "الحيرة"، وقد أصبحت "الحيرة" في زمن الأسرة "اللخمية" من أزهى مدن الشرق وأبعدها ذكراً على الرغم من خضوعها للفرس.
ويقول المسعودي في مروج الذهب ما يلي: لم تكن أمة من الأمم بعد فارس والروم، أولع بالملاهي والطرب من العرب، وكان غناؤهم النصب، وهو ثلاثة أنواع "الركباني، والسناد، والهزج الخفيف" وكانت الجرادتان أول من غنى في العرب وكانتا قينتين على عهد "معاوية بن بكر العلقمي" وكانت العرب تسمى القينة – وهي المغنية – الكريمة، والعود، المزهر، وكان غناء أهل اليمن بالمعازيف وإيقاعها جنساً واحداً وغناؤهم جنسين، حنفي وحميري، ولم تكن قريش تعرف الغناء إلا النصب، حتى قدر للنضر بن الحارث بن كندة، وأخذ على أسرى بالحيرة فتعلم ضرب العود والغناء عليه، فقدم مكة.. وصلح أهلها واتخذوا القينات وشاع فيهم الغناء.
ويحدثنا "الطبري" عن النعمان الثالث الذي حكم مابين /580 وعام602م/ وهو آخر ملوك اللخميين في الحيرة، أن من بين عيوب هذا الملك ولعه وتعلقه بالموسيقا والغناء.
كان تأثير الحيرة على حضارة جزيرة العرب قوياً، ففي مجال الموسيقا، أخذ أهل الحجاز عن الحيرة نوعاً من الغناء أرقى من النوع السائد فيها، هو جنس" النصب "واستبدلوا المزهر ذي الصدر الجلدي بالعود ذي الصدر الخشبي، وكانت الحيرة أول مدينة عربية يظهر فيها من الآلات الموسيقية غير العود، الجنك، والطنبور، وكانت بلاد الشام آنذاك قد استوطنها العرب الأنباط الذين أمتد نفوذهم حتى "تدمر" إلى أن قضى " تراجان "عام 106 ميلادية على دولتهم، فانتقلت الزعامة إلى تدمر التي قضى عليها الرومان عام 272م، وبعد سقوط تدمر بسط الغساسنة القادمون من الجنوب نفوذهم على الدولة النبطية القديمة بمباركة من أباطرة بيزنطة، وكان هؤلاء -أي الغساسنة- يستقدمون إلى بلاطهم الموسيقيين والمغنيات من مكة والحيرة وبيزنطة، وقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني أن الشاعر "حسان بن ثابت" حضر ليلة طرب من ليالي بلاط الملك الغساني "جبلة بن الأيهم" الذي حكم مابين عام 623م وعام 637م ووصف ما شاهده بقوله: ".. لقد رأيت عشر قيان، خمس روميات يغنين بالرومية، بالبرابط، وخمس يغنين غناء أهل الحيرة، أهداهن إليه " أياس بن قبيصة ".
أردنا من هذه اللمحة الموجزة، التأكيد على أن العرب عرفوا الموسيقا والغناء والآلات الموسيقية في جاهليتهم، وإن لليمن والحجاز والحيرة موسيقاها وأغانيها، وإنهم تأثروا بموسيقا الحضارات التي سبقتهم كالحضارة المصرية والآشورية واليونانية والفارسية، مذ أجلوا تلك الأقوام عن البحرين والحجر وبلاد مابين النهرين وديار الشام، وإنهم أخذوا من الموسيقا الفارسية واليونانية والبيزنطية ما يلائم موسيقاهم وغناءهم النابع من بيئتهم وأسلوب حياتهم، وكان العود واحدة من الآلات الموسيقية التي أخذوها من تلك الأقوام.
العرب والعود
عرف العرب في جاهليتهم العديد من الآلات الوترية وغير الوترية منها:
" المعزف" في اليمن - يشبه الكتيار– "والمعزفة " في الحجاز– تشبه الهارب – و"المزهر" وهو عود ذو بطن من الجلد، دخل الجزيرة العربية، وشاع استعماله في القرن الذي سبق الهجرة النبوية الشريفة.
كذلك عرفوا "الطنبور" والجنك" والمزمار" المستقيم المعروف بالقصبة – الناي- والقضيب وهو آلة من آلات النقر والإيقاع وضبط الوزن، وكان استعمالها شائعاً عند المغنين الذين كانوا يغنون ارتجالاً. والصنوج الصغيرة وكانت هذه جزءاً من أدوات الراقصين والراقصات و" المربع " أو القيثار، وهو آلة وترية ذات صدر مسطح، مربع الشكل و" الدف" و" الطبل " الذي كان آلة الأسرة المفضلة.
أطلق العرب على العود، العديد من الأسماء، منها "بربط " وهي لفظة فارسية عرّبوها لتغدو فيما بعد من مفرداتهم، ولفظة "بربط" التي هي العود بالفارسية، مؤلفة من مقطعين" بر" وتعني " صدر "وبط" تعني طائر البط، وسمي كذلك لأن شكل العود يشبه البطة.
و"المزهر" وهو شكل من أشكال العود يصنع صدره من الجلد و"الموتر" من- وتر– ومعناه آلة من الأوتار، وهو يشبه العود ولكنه أقرب إلى " المزهر" لأن بطنه هو الآخر مصنوع من الجلد و"الكران" أو "الكيران" وهو أيضاً يشبه العود.
القاموسيون العرب أجمعوا على تسميته بالعود لأنه يصنع من الخشب وكان العازفون العرب يضربون عليه بالإبهام.
كانت المغنية "عزة الميلاء" من أشهر العازفات بين العازفين العرب على" المعزفة" ثم تعلمت فيما بعد العزف على "المزهر" والغناء بمصاحبته، كذلك كان المغني "سائب خائر" الذي بدأ الغناء باستعمال "القضيب" قبل أن يستبدله بالعود الفارسي الذي تعلم الضرب عليه من الأسير الفارسي " نشيط"، فكان أول من غنى في المدينة بمرافقة العود.
تراجعت صناعة الموسيقا تراجعاً ملموساً في صدر الإسلام والعهد الراشدي (39هجري/622-661 ميلادي) وإن ظل بعض أعلام الغناء والعزف في مكة والمدينة.. من أمثال "الميلاء" و"سائب خائر" و"طويس" وهو أول مغنٍ في الإسلام، يمارسون الغناء والعزف بالعود والمزهر والقضيب في ظل حماية بعض سادة قريش وخاصة "عبد الله بن جعفر" الذي كان كلِفاً بالغناء، كذلك مارسه عدد آخر من المغنين الذين عاشوا في عهد الخلفاء الراشدين والدولة الأموية.
وبعيداً عن مسائل التحريم والتحليل، فإن صناعة الموسيقا والغناء. شهدت في العصر الأموي /661-750م/ ازدهاراً كبيراً منذ تولى "الوليد بن عبد الملك" الخلافة، ولغاية سقوط الدولة الأموية في عهد مروان بن محمد/744-750م/.
وفي العهد الأموي مال عرب الحجاز للألحان الفارسية التي كان يتغنى بها الأسرى الفرس الذين جيء بهم من العراق لتشييد الأبنية في مكة، وأول موسيقي استفاد من هذه الألحان ونسخها أو نقلها وغناها بالعربية هو"ابن مسجح" الذي لم يكتف بذلك فرحَل أولاً إلى بلاد الشام فأخذ ألحان الروم والضاربين على "البرابط" والنظريات الموسيقية من الروم والعرب ومن ثم رحل إلى بلاد فارس، فأخذ من موسيقييها أنواع الغناء وأساليب الضرب، وطرح منها ما استهجنه بذوقه العربي، وأبقى منها على ما يلائم الموسيقا والغناء العربيين وكذلك فعل بعده تلميذه "ابن محرز". ونتيجة لهذا الاحتكاك الفني اقتبس العرب العديد من الكلمات والألفاظ الفارسية مثل كلمة " دستان "– جمعها دساتين- وهي تسمية مواضع الأصابع في عنق العود والطنبور، وكلمة "بم" وهي اسم الوتر الأعلى في العود، وكلمة "زير" وهي الوتر الأول من الأسفل في العود، بينما احتفظوا باسمي" المثنى" والمثلث" اللتين أطلقوهما على الوترين الثاني والثالث من الأعلى للأسفل في العود "بم، مثنى، مثلث، زير".
لقد نأى العرب بموسيقاهم عن التأثيرات الفارسية والبيزنطية التي اقتصرت على التسميات والألفاظ ونقل الألحان والعلوم الموسيقية إلى الموسيقا العربية بما ينفعها، وإذا كان "ابن مسجح" وتلميذه "ابن محرز" قد حققا نقلة بما قبساه من موسيقا وعلوم الروم والفرس، فإن "ابن سريج " هو أول من أخذ عن الفرس في عام 648م العود الفارسي، وهو أول من ضرب عليه أنغاماً عربية في مكة، وقد ظل هذا العود يحتل مركز الصدارة بين العيدان حتى منتصف القرن الأول من الحكم العباسي الموافق لنهاية القرن الثامن الميلادي، إلى أن ابتكر الموسيقي العبقري "منصور زلزل" ما يعرف بعود الشبوط.
عندما تولى" بشر بن مروان " – أخو الخليفة عبد الملك بن مروان – ولاية الكوفة خلفاً "لخالد بن عبد الله القسري" الذي كان قد أصدر أمراً بتحريم الغناء والموسيقا، وكان محباً للموسيقا، ألغى هذا الأمر، واستدعى "حنين الحيري"– من عرب بني الحارث– وكان من أشهر المغنين ومن عازفي الطبقة الأولى على العود، فأكرمه ورفع من مكانته، وفي زمن هذا الوالي عُرف نوع من العيدان يتألف من وتري "البم والزير" وقد استخدم هذا العود للمسايرة – أي للغناء – على نحو ما جاء في الأغاني، وقد شاع استخدام هذا العود في الحجاز وبلاد الشام، وعثر الباحثون في قصر الحير الغربي على صور لهذا العود تزيّن بعض جدران وقاعات هذا القصر.
يمكن القول إن الازدهار الحقيقي لصناعة الموسيقا من النواحي كافة تم في العصر العباسي /750-945م/ إذ برز عدد كبير من المغنين والمغنيات والعازفين والعازفات على مختلف الآلات السائدة والعود والطنبور خاصة. وكانت قصور الخلفاء مرتعاً للأدباء والشعراء والفلاسفة والعلماء وأهل الطرب والفن.
في عهد هارون الرشيد /787-809م/ الأسطوري في كل شيء،التقى سادة الموسيقا والعزف والغناء منهم: حكم الوادي، إبراهيم الموصلي، ابن جامع، منصور زلزل وغيرهم، وكان منصور زلزل أبرع أهل زمانه في العزف على العود، وإليه يعود الفضل في صناعة "العود الكامل" أو ما يعرف" بعود الشبوط" الذي فاق العود الفارسي جمالاً وصوتاً، وسمي بالشبوط لأنه في شكله يشبه سمك الشبوط بوسطه العريض، ورأسه الصغير، وملمسه اللين الناعم، وهو لا يختلف عن العود الفارسي في عدد أوتاره.
....عود منصور زلزل هذا، احتل بسرعة مكانة العود الفارسي الشائع في ذلك العهد.
ومنصور زلزل المتوفى عام 791م، هو الذي علم "إسحق موصلي بن إبراهيم موصلي" العزف بالعود بطلب من أبيه، حيث بلغ من المهارة حداً جعلت الخليفة "الواثق بالله" /832-847م/ يمنحه لقب "أمهر العازفين" بعد اختبار مرير لبراعته وقد أسس "إسحق كأبيه" مدرسة لتعليم الغناء والعزف ولُقب بإمام الموسيقيين.
وفي عهد الرشيد أيضاً ظهر"زرياب" واسمه أبو الحسن علي بن نافع مولى المهدي العباس، وكان تلميذاً نجيباً ومتفوقاً لإسحق موصلي، وعمل كمنصور زلزل على تحسين العود..
والعود الذي صنعه لا يختلف عن عود زلزل، لا في حجمه ولا في خشبه، وإنما في وزنه الذي بلغ ثلث وزن عود زلزل، وفي أوتاره الحريرية التي تختلف في حريرها عن أوتار العيدان الأخرى، كما أن الوتر الأول والثالث من الأعلى إلى الأسفل صنعهما من مصران بعض الحيوانات المفترسة، وهي لا تتأثر بتقلبات الطقس وتدوم أكثر من غيرها.
وإذا تركنا تطوير العود وأعلامه جانباً فإننا نجد أن الفيلسوف العربي أبا يوسف يعقوب الكندي/790-874م/ الذي عاصر عدداً من الخلفاء العباسيين يبحث بإسهاب وتفصيل نظريات قدماء اليونان والبيزنطيين التي تتفق كلها على ".. أن كل كائن أرضي يكون متأثراً بكائن آخر سماوي" ومن هنا ربط الكندي نغمات السلم السبع، بالكواكب السيارة السبع، والبروج الاثني عشر بملاوي العود الأربعة، ودساتينه الأربعة، وأوتاره الأربعة.. وأوتار العود الأربعة بالطبائع الكونية القديمة وهي:الرياح، والفصول، والأمزجة والقوى العظيمة، والألوان والعطور، وأرباع دائرة البروج والقمر والعالم، وهذا المبدأ أو المعتقد الذي كان سائداً آنذاك كان معروفاً في الأندلس ويعتقدون به.
كان الكندي من عازفي العود المعدودين، وهو أول من فكر في إضافة الوتر الخامس للعود، وسماه بالزير الثاني، غير أن تمسكه بأن كل شيء يخضع للعدد أربعة، جعله يحجم عن ذلك عملياً واكتفى بما توصل إليه نظرياً عن طريق تسويته الخاصة للأوتار، شأنه في ذلك، شأن الفارابي، وابن سينا اللذين جاءا بعده.
والكندي، خصَّ كل وتر بستة أصوات، بما في ذلك الوتر الأول العلوي بخلاف ما هو متبع اليوم.
أما الفارابي– أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان/ 239- 260 هجري/ الموافق في/ 874– 950 ميلادي/ الذي مات عن ثمانين عاماً، والذي دعاه سيف الدولة الحمداني إلى حلب (929-1079م) فكان أبرع عازفي زمانه بالعود، وشغفه بهذه الآلة جعله يتعمق في دراستها فيخصص صفحات طوال في كتابه "الموسيقي الكبير" لها ولدساتينها وأوتارها، التي اتفق فيها مع الكندي..
كذلك فكر مثل الكندي في إضافة الوتر الخامس نظرياً ومسماه "بالحاد" تمييزاً له عن الوتر الأول من الأسفل"الزير".
الشيخ الرئيس الطبيب الفيلسوف الموسيقار"أبوعلي الحسن بن عبد الله بن سينا"/370-428هجري/الموافق/980-1037م/.. الذي رعاه شمس الدين الهمذاني /997-1021م/ وعينه وزيراً وقضى آخر اثني عشر عاماً من حياته عند "علاء الدولة " في "أصفهان" مُكباً على العلوم التي كتب فيها، اهتم هو الآخر بالعود وتاريخه وبالنظريات الموسيقية واستخدم العود ذا الأربعة أوتار في أبحاثه كسلفيه الكندي والفارابي، وفكر مثلهما في إضافة الوتر الخامس من أجل الحصول على ديوانين كاملين، وأطلق عليه مثل الفارابي اسم "الحاد" ولكنه لم يطبقه عملياً بسبب المعتقدات السائدة عن علاقة أوتار العود الأربعة، بأرباع الفلك والبروج والقمر وطبائع البدن الأربعة (الصفراء،الدم،السوداء، البلغم) وما إليها مما سبق الإشارة إليه آنفاً.
أبحاث ابن سينا الموسيقية في كتابيه "الشفاء" و"النجاة" تلقي نظرةً عميقةً شاملةً على الموسيقا العملية في القرن الحادي عشر الميلادي.
وبينما كان هؤلاء الفلاسفة يفكرون بإضافة الوتر الخامس، كان زرياب الذي رحل عن بغداد، بعد حادثته الشهيرة مع "اسحق الموصلي" وهاجر إلى الأندلس التي وصلها في زمن الخليفة الأموي عبد الرحمن الثاني /832-852م/ الذي أكرمه إكراماً لا حدود له، قد حقق عملياً إضافة الوتر الخامس للعود، واستعاض عن الريشة الخشبية والأخرى الجلدية في الضرب على أوتار العود بريشةٍ صنعها من قوادم النسر بعد أن صقلها وهذبها. وكان إضافة إلى كونه مغنياً وموسيقياً عظيماً، عالماً كأستاذه "اسحق الموصلي" ومتعمقاً بسائر العلوم وبعلاقة أوتار العود الأربعة بالمعتقدات السائدة لذا نجده عندما أضاف الوتر الخامس، قال إنه بمثابة النفس في الجسد، متمماً بذلك أركان البدن الأربعة (الصفراء،الدم، السوداء، البلغم) ولم يكتف بذلك، إذ قام بصبغ الأوتار بألوان معينة، فصبغ الزير الثاني– أي الوتر الخامس الذي أضافه - باللون الأحمر، والزير الأول بالأصفر ليكون بمثابة الصفراء في الجسد، والمثنى باللون الأحمر ليكون بمنزلة الدم، وترك المثلث على لونه الطبيعي الأبيض ليكون بمنزلة البلغم، أما الرابع – وهو أغلظ الأوتار- فصبغه بالأسود ليكون بمنزلة السوداء من الجسد.. على أن عمله العظيم يكمن في تأسيسه لمعهد قرطبة الموسيقي الذي شعّ على أوروبا بكل المعارف الموسيقية التي لم تكن تعرفها قبلاً، وفي هذا المعهد درس أولاده الأربعة: عبد الله وعبد الرحمن ومحمد وقاسم وابنتاه عالية وحمدونة الذين تابعوا جميعاً رسالة أبيهم في الموسيقا والغناء.
وفي عهد الدولة البويهية /946-1075م/ نبغ جماعة من الفلاسفة والموسيقيين النظريين عرفوا باسم " إخوان الصفا" وقد ورد في كتاب "رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا" ص 202 الآتي:
"... أن أتمَ آلة استخرجها الحكماء وأحسنوا صنعها، الآلة المسماة بالعود. وأهل هذه الصناعة، قالوا: ينبغي أن تتخذ الآلة التي تسمى العود، خشباً طوله وعرضه وعمقه يكون على النسبة الشريفة، وهي أن طوله مثل عرضه، ومثل نصفه، ويكون عمقه مثل نصف العرض، وعنق العود مثل ربع الطول، فتكون ألواحه رقاقاً، متخذةً من خشبٍ خفيفٍ، ويكون الوجه رقيقاً من خشب صلب خفيف يطنُ إذا نُقر..."
بعد تدمير بغداد ونهبها وحرق مكتباتها، التي كانت تضم كنوزاً في سائر العلوم على يدي هولاكو عام 1258م التحق به آخر أعلام عازفي العود وعلماء الموسيقا، "صفي الدين عبد المؤمن بن يوسف بن فاخر الأرموي" الذي أعجب بعزفه بالعود، فألحقه بخدمته، وضاعف راتبه السنوي الذي بلغ خمسة عشر ألف دينار، كانت تدفع له من الجزية المفروضة على بغداد...
وفي زمانه ظلّ العود ذو الأربعة أوتار يحتل مكانته، كما ظل في الأندلس يتمتع بالمكانة نفسها على الرغم من انتشار وشيوع العود الكامل ذي الأوتار الخمسة، وخلال هذه الحقبة وما بعدها ظهر العديد من الآلات الموسيقية الجديدة، مثل آلة النزهة" التي تشبه القانون والتي ابتكرها "الأرموي".
كذلك ظهرت عيدان ذات حجوم مختلفة وضخمة منها: الشحرود" الذي ظهر في أوائل القرن الخامس عشر، وهو عود منحنٍ، طوله ضعف طول العود، و"القوبوز" و"الأوزان" وهما عودان تركيان، دخلا مصر في زمن الأيوبيين. صدر عود "القوبوز" أصم غير مجوّف يشد عليه خمسة أوتار مزدوجة، أما الثاني فيتألف من ثلاثة أوتار مزدوجة.
يمكن تلخيص تاريخ العود وتطوره بما ذكره أستاذنا الموسيقار العربي السوري الحلبي الكبير"توفيق الصباغ" في كتابه " الدليل الموسيقي العام".
"...العود آلة قديمة جداً، وهو أقدم الآلات الوترية العربية، ويرجع عهده إلى الفرس وكان مستعملاً عندهم بأربعة أوتار يشدّونها بموجب الأبعاد الرباعية – أي كما نشده الآن- بينما العود العربي كان "دوزانه" يختلف عن العود الفارسي في الوترين الأول والرابع اللذين كانا لا يفرقهما عن الأوتار المجاورة لهما سوى درجة صوتية واحدة، كان العرب يسمونها "البعد الطنيني" – أي مقام كامل- ولكن العرب اتبعوا فيما بعد طريقة الدوزان الفارسي في أواخر القرن الأول للهجرة، وكانوا يضعون على رقبة العود دساتين لتعيين الدرجات الصوتية في السلم الموسيقي، وقد تغيرت وتبدلت كثيراً تلك الدساتين، فمن الموسيقيين العرب من كان يزيد عليها، ومنهم من كان يقدمها أو يؤخرها حسب ما يراه لنظريته في السلم الموسيقي غير المتفق عليه في ذلك العهد –كما في يومنا هذا – وبعد ذلك أدخلوا على العود وتراً خامساً دقيقاً "رفيعاً " سمّوه الزير الثاني" ثم أبدلوا اسمه بلفظة "حاد" وظلت التغييرات والتبديلات تجري، وكلما ظهر موسيقي عربي جديد، أدخل تعديلاً على الدساتين حتى وصلوا في النهاية إلى ما اعتبروه أكمل سلّم عربي في ذلك العهد، وهو /سلم السبعة عشر بعداً/، وقد حددت دساتين العود بموجب هذا السلّم حوالي القرن السابع الهجري، وكانت الأبعاد بين هذه الدساتين تختلف عن بعضها بعضاً، وبعد ذلك رفعت دساتين العود، وأصبح من الآلات التي لا تحديد فيها لدرجات الأصوات..."
العود الشائع اليوم على ثلاثة أنواع:
العود الكبير: وطوله من الكعب للأنف – قطعة رقيقة من السن لرفع أو سند الأوتار-73 سم وطول الوتر 63 سم – وهو سلطان الآلات، وأصواته تتفق وأصوات المغنين القوية.
العود المتوسط: وطوله من الكعب للأنف 66 سم وطول الوتر 58 سم، وأصواته تصلح لأصحاب الأصوات الناعمة والرقيقة.
العود الصغير: وطوله من الكعب للأنف 59 سم وطول الوتر 52 سم وتصلح أصواته لأصحاب الأصوات الحادة من المغنيات.
على أن أكثر هذه الأعواد استعمالاً هو العود الكبير...
انتقلت آلة العود إلى أوروبا منذ القرن الثامن الميلادي، عندما جلبها الفاتح العربي معه إلى الأندلس، غير أن ذيوعها وانتشارها ظل مقصوراً على الأندلس وما جاورها في شبه الجزيرة الخضراء، حتى إذا هلّ القرن الثالث عشر، وجدنا أن هذه الآلة قد عمّ انتشارها في أوروبا كلها عن طريق معهد زرياب في قرطبة في الأندلس الذي كان يُدرّس هذه الآلة لطلبة أوروبيين وعن طريق "صقلية" التي كان يحتلها العرب، وعن طريق الحروب الصليبية التي شاركت فيها كل شعوب أوروبا تقريباً.
غدت آلة العود،الآلة الرئيسة بين الآلات الموسيقية الأوربية، والآلة الأساسية في الفرق الموسيقية، وآلة الصالونات التي قلّما خلا منها بيت من البيوت وقد تطورت هذه الآلة وعرفت عصرها الذهبي منذ القرن السادس عشر، فصنعت إيطاليا وإنجلترا وألمانيا وفرنسا وغيرها أنواعاً مختلفة منها لتلائم أنواع الغناء والطبقات الصوتية الحادة والمنخفضة عند النساء والرجال على حد سواء، وظلت كذلك حتى القرن الثامن عشر حين قضى عليها البيانو الذي استُكملت صناعته وغدا كآلة موسيقية مناسباً أكثر من العود في الموسيقا الأوروبية.
إن الحديث عن العود العربي في أوروبا، والعيدان الأوروبية التي انبثقت عنه يحتاج إلى وقفة مطولة قد يكون موعدنا معها في دراسة قادمة عن العود في أوروبا.
المصدر : الباحثون العدد 60 حزيران 2012