إن الغاية من التربية في نزعتها المثالية هي تقديم العلم والحث على طلبه، والاهتمام الدؤوب بالفضائل الخلقية وانتهاج سبيل المرونة في طرق التحصيل واصطباغها بروح الديمقراطية بإعطاء الأفراد فرصاً متساوية في هذا المجال..
إن للأسس السيكولوجية للتربية الخلقية طريقين: أولهما الاهتمام بالوسائل الدافعة المتمثلة في القدوة الحسنة، والبيئة الصالحة، والتشجيع والترغيب والملاينة؛ والأمر الثاني: هو الاهتمام بالوسائل المانعة، كالاتعاظ بالغير، والعقاب عند الضرورة.
إن كثيراً من دوافع السلوك لدى الطفل-كما تقرر التربية الحديثة- يتكون عن طريق الخبرة والتفاعل مع البيئة. ونحن إذا ما هيأنا للطفل المجال الصالح، فنحن بذلك نزوده بعدد كبير من الدوافع التي تتطلب منه الرغبة في التفكير والعمل. وواجب المدرس أن يبذل اهتماماته لتنمية دوافع الطفل ليستطيع بذلك أن يحقق الأهداف التي يبتغيها من التربية.
المدرس... الركن الأساس في عملية التربية ولكن استغلال الدوافع عند الأطفال ليس أمراً يسيراً، فإنه يقتضي توفر قدرة وموهبة خاصة في المدرس.
وقد رأينا العناية البالغة التي دعت إليها التربية الحديثة في اختيار المدرس، والإفاضة في رسم ملامح شخصيته بدقة، والتشدد الذي يفضي أحياناً إلى المبالغة لاستخراج مثالية معينة في المدرس لكي يستطيع أن ينهض بواجبه كاملاً، وبمسؤولياته الجسيمة في تنشئة التلاميذ وتهذيبهم.
وإن دعوة المدرسين إلى ملاحظة الفروق الفردية بين التلاميذ، ومراعاة الاستعدادات المختلفة عندهم، تشكل دعوة هامة وضرورية في هذا المجال، فإن المعلم إذا لم يكن مزوداً بقدرات ومواهب معينة لا يمكن أن يكون له التأثير النافع في تحقيق الغايات التربوية.
ذلك لأن كثيراً من الصعوبات التي تواجهه نتيجة للتباين والاختلاف في خبرات التلاميذ السابقة، وتداخل العوامل النفسية وتعقدها... كل ذلك يتطلب منه قدراً كبيراًً من الذكاء وحسن التصرف.
إن الإفراط في الثناء أو المدح قد يفضي بالطفل إلى حالة من الثقة تؤدي به إلى الاكتفاء بما عنده، وعدم الرغبة في بذل أي مجهود مما تكون نتيجته بالنسبة للطفل انحطاط مستوى التحصيل لديه.
ومثل ذلك يكون في الإفراط في العقاب أو اللوم الذي قد يفضي بالطفل إلى حالة من اليأس أو عدم الاكتراث، وبذلك تصبح البواعث لدى كل منهما معطلة، وليس لها أي قوة دافعة.
كما إن للمدرس شأناً كبيراً في إثارة دوافع التلاميذ، ويكون ذلك عن طريق تأسيس روح الوئام والحب بينهم، والاجتماع لتبادل الرأي فيما يعرض لهم من مشكلات. في الواقع إن حب التلميذ لمعلمه يدفعه إلى الجد في مادته لكي يفوز برضاه، وهذا ما تقرره التربية الحديثة.
يقول الرشيد لمؤدب ولده الأمين:« لا تمرّن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقوّمه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإنْ أباهما، فعليك بالشدة والغلظة». ويتحدث «إخوان الصفا» عن تأثير القدوة في التربية وفي تكوين العادات الطيبة حين يقولون: «واعلم أن العادات الجارية بالمداومة عليها تقوّي الأخلاق المشكلة لها، كما أن النظر في العلوم والمداومة على البحث عنها، والدرس لها، والمذاكرة فيها، يقوي الحذق بها والرسوخ فيها، وهكذا حكم الأخلاق والسجايا».
كما نجد الإمام الغزالي قد دعا إلى تعديل العادات الضارة، واقتلاع جذورها من النفس، مسايرة منه لفلسفته في مجاهدة النفس، فيذكر في رسالة «أيها الولد» الحاجة إلى المربي الذي يستطيع أن يخرج بتربيته أخلاق السوء من نفس تلميذه، ويجعل مكانها خلقاً حسناً. ومعنى التربية يشبه فعل الفلاّح الذي يقلع الشوك ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع ليحسن نباته ويكمل ريعه. ثم يتحدث عن تأثير القدوة وأنه ليس كل مُربٍ صالحاً للتأثير في تلاميذه. فإن المربي الفاضل هو من يستطيع أن يجعل من خلقه وسلوكه نموذجاً للاهتداء به، لأنه كما يقول الغزالي: «من اشتغل بالتعليم فقد تقلد أمراً عظيماً وخطراً جسيماً، فينبغي أن يأخذ نفسه بالشفقة على المتعلمين، وأن يجريهم مجرى بنيه، وأن لا يدع من نصح المتعلم شيئاً، وكذلك أن لا يُقبِّح في نفسه العلوم التي لا يقوم بتدريسها، وأن يكون المعلم عاملاً بعلمه فلا يكذّب قولُه فعلَه، لأن العمل إذا خالف العلم مُنع الرُشد. ومَثَلُ المعلم المرشد من المسترشدين مثل الظل من العود، ومتى استوى الظل والعود أعوج؟!. أبداً لا يستوي.
المستويات العقلية وزمن الدرس
وفي مراعاة المستويات العقلية للطلاب يقول النووي: وينبغي أن يكون المدرس باذلاً وسعه في تفهيمهم، وتقريب الفائدة إلى أذهانهم، حريصاً على هدايتهم، ويفهم كل واحد بحسب فهمه وحفظه؛ فلا يعطيه مالا يحتمله، ولا يقتصر به عمّا يحتمله بلا مشقة، ويخاطب كل واحد على قدر درجته، وبحسب فهمه وهمته. فيكتفي بالإشارة لمن يفهمها فهماً محققاً، ويوضح العبارة لغيره، ويكررها لمن لا يحفظها إلا بتكرار. ويذكر الأحكام موضحة بالأمثلة من غير دليل لمن لا يتحفظ له الدليل، فإن جهل دليل بعضها ذكره له ويذكر الدلائل لمحتملها».
وفي زمن الدرس المتوسط والمناسب للمادة العلمية يقول السمعاني: «وينبغي للمعلم ألّا يطيل المجلس الذي يرويه، بل يجعله متوسطاً، حذراً من سآمة السامع وملله، وأن يؤدي ذلك إلى فتوره عن الطلب وكسله، فقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرّد فيما بلغني: من أطال الحديث وأكثر القول فقد عرّض أصحابه للملال وسوء الاستماع، ولإن يبقى من حديثه فضلة يعاد إليها، أصلح من أن يفضل عنه ما يلزم الطالب استماعه من غير رغبة فيه ولا نشاط له».
العقوبة... حدودها وضوابطها
أما العقاب وأضراره، فقد شغل حيزاً كبيراً من اهتمام التربويين؛ فلم يسمحوا به إلا عند الضرورة، لأنهم رأوا في الضرب المبالغ نوعاً من الانتقام والتشفّي، وقد نهى المربون عن الضرب والتشفي. وقد عقد ابن خلدون في مقدمته فصلاً عن أضرار الشدة على المتعلمين، لأنه رأى أن« إرهاف الحدّ بالتعليم مضرّ بالمتعلم لاسيما في أصاغر الولد، لأنه من سوء الملكة. ومن كان مَرباهُ بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر، وضيق عن النفس في انبساطها وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وعمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً.
وبعد أن يحلل ابن خلدون هذه المضار التي تنشأ عن الشدة في تكوين الصبي واكتسابه للعادات الضارة يتقصّى الأضرار الاجتماعية التي تتأثر بإيجاد هذا السلوك عند الطفل كنتيجة للعقوبة والشدة؛ فيرى أن نتائج هذه التربية النامية في مجالات القوة تؤدي إلى إفساد المعاني الإنسانية للصبي. "من حيث الاجتماع والتمرّن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله"، فيصبح بذلك على حد تعبير ابن خلدون" عيالاً على غيره في ذلك"، لأن الغرض الذي ينبغي أن تهتم به التربية من توجيه سلوك الفرد لمواجهة الحياة يخبو بتأثير هذه الشدة، وينحرف عن مجاله السديد. ثم يمضي في تبيان الأضرار التي تصيب نفس الصبي، فتشلّها عن اكتساب الفضائل والأخلاق الطيبة، وبذلك تنقبض عن غايتها ومدى إنسانيتها ويصيبها الارتكاس.
المربي الحصيف... قمة في صناعة التربية
لقد أفاض المربون في شرح طرق معاملة الصبيان وتأديبهم، واهتموا اهتماماً بالغاً بالتنويع في طرق التهذيب ومقتضياتها فقد دعا الغزالي إلى تكريم أخلاق الصبيان الحميدة ومدحها، كما دعا إلى التغافل عن أخلاقهم، فإذا ما تكررت عوتب الطفل عتاباً رقيقاً، وعُدَّ ذلك من دقائق صناعة التعليم، فإن التصريح يهتك حجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم، ويهيّج الحرص على الإصرار.
إن هذه الألوان المنوعة التي دعوا إليها في معاملة الصبيان لا تحتاج إلى بيان أهميتها في تربية شخصياتهم، وتنمية النوازع الطيبة في نفوسهم. وهذه الدعوات المستفيضة في رعاية الصبيان وبثّ الخير في نفوسهم، إنما تنبثق من فهمهم الناضج لطبيعة الأطفال، وكذلك رغبتهم المخلصة إلى أبعد الحدود في نشر العلم والترغيب فيه، واحتمال الجهد في سبيل تقريبه من النفوس، وإذاعته بين الناس، وأخيراً شدة استمساكهم بالأخلاق القويمة التي طبعت سلوك هؤلاء العلماء والمربين، وضربهم الأمثلة الرائعة في التضحية بملذات الحياة، والاعتزاز بكرامة العلم إيثاراً للحياة البسيطة على ابتذال ثقافتهم ومثلهم وأخلاقهم التي كانت أعظم ما يتحلون به. معتبرين أن أصل السعادة في الدنيا هو العلم فهو إذن أفضل الأعمال وإن من أبرز الصفات التي ينبغي أن يتصف بها المربون التواضع والتواصل مع المتعلمين، ومن أبرز دلالاته إنه يتعين على المعلم إذا غاب بعض الطلبة غياباً زائداً عن العادة، فإنه يجب عليه أن يسأل عنه وعن أحواله وعما يتعلق به، فإن لم يُخبر عنه أحد أرسل إليه، فإذا كان مريضاً عاده، وإن كان في غم خفض عليه. وإن كان ثمة ما يحتاج إليه أعانه. وإن لم يكن شيء من ذلك تودد له وتمنى له الخير والفلاح.
وقد ذهب المعلمون والمربون من ذوي الخبرة والتجربة إلى القول بأننا إذا أردنا بناء الإنسان السليم فإن هذه المهمة ليست سهلة، ولا بد من الابتكار والتجديد والإبداع في هذا المجال حتى يمكن النهوض بالأجيال من خلال النبتات الصغيرة، والتي تحتاج إلى أساليب خاصة في رعايتها وتنميتها بالشكل السليم.
لذلك ينبغي على من يتصدى لهذه المهمة أن يتحلى ببعض الأساليب المستمدة من التجارب حتى نصل إلى النجاح في القيام بهذا الدور العظيم.
وهذه بعض الأساليب التي توصل إليها المهتمون بشؤون التربية مدعومة بالتجارب ومشفوعة بالخبرات التي مرت بأولئك المربين خلال عملهم في هذا المجال، ويمكن إدراجها تحت البنود الآتية:
1- ليكن ما يتوقعه المربي من طالب العلم إيجابياً: فالتوقع الإيجابي يؤدي إلى تحسين الأداء وإلى مزيد من الثقة في النفس فإذا توقع المربي من المتعلم النجاح فسوف ينجح، وإن توقع عدم التحسن فلن يتحسن. ولا بد من بث الثقة في قدرات المتعلم وجلاء إمكاناته حتى يعتقد أن لديه ما يمكّنه من التفوق والتميز، فإذا اكتسب المربي ثقة المتعلم فإن ما يتوقعه منه التفوق، فلا بد أن تكون النتيجة مبهرة. فالسلوك يتغير بتغير وجهة النظر سواء أكانت سلبية أم إيجابية.
2- ينبغي الكف عن المقارنة السلبية، إذ لا يسوغ للمربي أن يقارن تلميذه برفاقه أبداً، فإن هناك فروقاً فردية بين البشر، ولكن يمكنه أن يُقارن تلميذه بذات نفسه، أي ما كان عليه سابقاً وما أصبح عليه الآن، وهذا سيساعد المربي على تربية المتعلم وتنمية مهاراته بشكل كبير.
3- يتعين منح التلميذ فرصاً للنجاح؛ فالنجاح يولد النجاح، والفشل يضعف ثقة الطفل بنفسه ويجعل تقديره لذاته ضعيفاً.
4- يحسن تكليف التلميذ بمهام بسيطة يستطيع أن ينجح فيها؛ فذلك يجعله قادراً على إنجاز مهام أكثر صعوبة. ولا تسمح أن تمر بالطفل خيبات فشل متلاحقة حتى لا تنخفض دوافعه تجاه العمل بصفة عامة وربما العزوف عنها تماماً.
5- لا بد من التركيز على أساليب الثواب أكثر من العقاب؛ فإثابة الطفل على السلوك يجعله حريصاً على تكراره ويُشعره بالسعادة والرضا، والأهم من ذلك أن الطفل يرتبط بمشاعر إيجابية تجاه مصدر التعزيز والإثابة.
أما العقاب فإنه يؤدي إلى كف السلوك ولا يعطي للطفل السلوك البديل المناسب، ونتائج العقاب تستعصي على التنبؤ. لذلك لا بد من أن تُستخدم الإثابة أكثر من العقاب، وعندما تأمر طفلك أن يكف عن سلوك قدم له البديل المقبول.
6- الحرص على الروابط الذهنية الإيجابية؛ فإذا أردت أن يحرص ابنك على عمل معين فلا تربطه أبداً بالعصا والوجه المتجهم، بل بالوجه البشوش والخبرة السارة وكلمة التعزيز حتى يكون ابنك حريصاً عليه وعلى تكراره. فكلما كنا حريصين على إكساب أبنائنا الكثير من المهارات والمعلومات كان ذلك أجدى وأنفع، ولا بد من الربط بين الانفعالات الإيجابية وما يتعلمه أبناؤنا وطلابنا، فيجب أن يقرن التعليم أو التربية دائماً بمشاعر مثل"السعادة والتقبّل" فذلك يساعد على سرعة التعليم والاستمرار في السلوك المرغوب فيه.
وهناك واقعة يمكن أن يستخلص منها ما تخلفه الشدة والغلظة من آثار سلبية في التلاميذ ذلك إنه بدت ظاهرة غريبة في إحدى المدارس الابتدائية حيث كان أغلب التلاميذ في صفوف بعينها يعانون من آلام شديدة بالبطن وشعور بالغثيان، وذلك في أوقات معينة أيضاً. وعند توقيع الكشف الطبي عليهم لم يظهر أن لديهم أية مشكلات عضوية. وبتتبع هذه الظاهرة وجد أن أحد مدرسيهم يعاملهم بشيء من الغلظة والشدة وأحياناً يعاقبهم عقاباً بدنياً مفرطاً. وبعلاج هذا الأمر انتهت الظاهرة تماماً.
نخلص من ذلك إلى القول إنه ينبغي استخدام المهارات التربوية والخبرات التي تساعدنا على تربية أبنائنا في إطار من المشاعر الإيجابية، والتي تصل بهم إلى تحقيق النجاح والسعادة على حد سواء.
ولا بد من أن نتذكر أن استخدام الأساليب التربوية الخاطئة لها تأثير سلبي على النمو النفسي للأطفال، وأنها وراء الكثير من عيوب الشخصية ومشاكل التحصيل الدراسي. ولا معدى من أن نكون أكثر حرصاً ونحن نربي أبناءنا حتى نصل بهم إلى برّ الأمان، وشاطئ السلامة، وموئل الفلاح.
المراجع:
- د.بركات محمد مراد – أستاذ الفلسفة - كلية التربية جامعة عين شمس/ مصر
- إحياء علوم الدين- للإمام الغزالي
- المقدمة لابن خلدون
- التربية عند العرب- لمحمد فوزي العنتيل
- في التراث العربي التربوي نذير حمدان
- منهج القرآن في التربية لمحمد شديد
- مجلة حراء نيسان 2007
المصدر : الباحثون العدد 60 حزيران 2012