سورية في أثينا والرومتين؟! كيف يمكن أن يكون ذلك؟! ومتى كان ذلك إذا كان ممكناً أن يكون؟! وهل هذا ضرب من الخيال؟! أم إنه ضربٌ من التعصب القومي؟! وهل هو من قبيل الاتِّكاءِ والنوم على أرائكِ الماضي؟! وسأصدقكم القول إنني لست من الذين يدرسون التاريخ ليقولوا كنّا وكنّا. وأيضاً، أنا لست من الذين يذرفون دموع الحسرة والأسف على الماضي، بل من الآنيين والمستقبليين الذين ينظرون إلى الوراء ليصوّبوا حاضرهم ومستقبلهم لكي لا يقعوا في أخطاء الماضي، بل في صوابه. ثم إنه أليس رائعاً أن نكون في ذاكرة التاريخ، وأن تكون هي فينا؟ ومن هذه الذاكرة، سأحاول أن أستحضر في هذا البحث عدداً من الحقائق والوقائع التاريخية التي تثبت أن سورية كانت فعلاً في قلب أثينا، وفي قلب روما الغرب، وفي قلب روما الشرق (أي بيزنطة) في أوج عزّ هذه الحاضرات الثلاث ومجدها. فكيف كان ذلك؟ ومتى كان؟
لن أتناول في بحثي هذا كافة عطاءات سورية إلى الغرب، فبعض هذه العطاءات أصبح معروفاً جداً، ولا أرغب في ترديد ما أتخمنا الآخرون من كثرة ترداده، كالحديث مثلاً عن ابتكار الكتابة ثم ابتكار الأبجدية، على الرغم مما لهذين الابتكارين من دلالات حضارية عظمى لا تخفاكم، بل أكاد أضعهما في صف أهم الابتكارات التي نقلت التاريخ من حالة الأمية إلى حالة اللاأمية والتنور. أقول، على الرغم من كل هذا وذاك إنني سأختار الابتكارات والمساهمات التي قلّما سلّط أحدٌ الضوء عليها من قبل، أو أن الضوء المسلّط عليها كان خافتاً حتى تاريخه.
زينون الرواقي والفلاسفة الأفاميون:
زينون الرواقي المولود عام 335 ق.م في مدينة كيتيون بقبرص لأب صيدوني (أي من صيدون التاريخية التي تطورت إلى ما هو صيدا اليوم)، قُدِّرَ له أن يصبح مؤســس المدرســة الرواقيةStoicism في الفلسفة التي عُرِفَتْ بهذا الاسم نسبة إلى "الرواق المُذَوَّق أو الملوَّن" Stoa Poikilē = Painted Stoa على سفح الأكروبوليس في قلب العاصمة اليونانية أثينا حيث أسسها ونَشِطَ بها ليصبح أحد أهم أقطاب الفلسفة في التاريخ.
ومرجعنا الوحيد في التعرف إلى زينون الرواقي هو تلك الصفحات القليلة التي جاءت في كتاب للمؤرخ اليوناني ذيوغينيس لايرطيوس Diogenes Laertius عن الفلاسفة اليونانيين بعنوان "سِـيَـرُ حياة الفلاسفة البارزين" Lives of Eminent Philosophers.
من بين أعماله المعروفة "في الحياة حسب الطبيعة" و "في الطبيعة البشرية" و "في العواطف" و"الواجب" و "القانون" و "علم الأخلاق" و "في المسائل الفيثاغورية" و "الدولة"، إضافة إلى مذكراته وكتاباته عن التعليم.
ولم يكن زينون إلا واحداً فقط من العديد من جهابذة الفكر السوريين الذين أسهموا في ترقية وتطوير الفكر الفلسفي اليوناني. أكتفي بمجرد ذكر البعض منهم لا لقلة أهميتهم، بل لأنه سبق لي وأن تعرضت لهم تفصيلاً في عدد سابق من "الباحثون"، وهم ﭙوسيذونيوس الفيلسوف الرواقي والمؤرخ والعالِم الطبيعي الأفامي في القرنين الثاني والأول السابقين للميلاد، والذي توقف القائد الروماني ﭙومـﭙيوس عند عودته من سورية ليستمع إلى محاضراته في جزيرة روذوس. كما أذكر نيومينيوس الأفامي أيضاً المؤسس الحقيقي للأفلاطونية الجديدة في القرن الثاني الميلادي، وأميليوس الأفامي الذي أسس مركز الأفلاطونية الجديدة في أفاميا تحت رعاية الملكة العظيمة زنوبيا، وأخيراً تلميذاه ﭙورفيريوس ويامليخوس.. ولن نسهب في الحديث عن هؤلاء الفلاسفة هنا لأننا سبق وتعرضنا لهم بالتفصيل في العدد 47 من مجلة "الباحثون" الصادر بتاريخ أيار 2011.
سورية صَدَّرَت المسيحية إلى أثينا وروما: 
كانت الخميرة الأولى للمسيحية، التي نشأت في أنطاكية(1)، العاصمة السورية وانطلقت إرهاصاتُها الأولى منها (ومن دمشق قبلها) لتنتقل إلى قلب الإمبراطورية الرومانية الوثنية، ولتصبح روما، فيما بعد، مقراً للكرسي الرسولي والبابوية. وغني عن القول مدى التأثير التاريخي العميق الذي أحدثه ذلك الحلول، ليس في روما وإمبراطوريتها فحسب، بل وفي العالم أجمع.
إذن، لقد صدَّرت سورية الإيمان المسيحي إلى روما على يد بولس الرسول الذي تحول من يهودي متعصب ناقم على المسيح وأتباعه ومضطهِداً لهم ليصبح رسولاً للمسيحية على يد القديس حنانيا الدمشقي(2) في قلب مدينة دمشق وخرج منها إلى أنطاكية مبشراً ثم انطلق إلى العالم الوثني الذي كانت تتزعمه روما. لقد بثت سورية روح الشرق التوحيدية في العالم الوثني، ثم صَدَّرَتْ الإسلام فيما بعد من دمشق الأمويين إلى العالم.
أبولّودور الدمشقي مُرَقّي العمارة في قلب روما:
على أن سورية لم يتوقف عطاؤها عند هذا العطاء، بل أتبعته بمساهمات مدنية هامة على يد أحد أبنائها المبدعين الذين خرجوا من دمشق وحملوا العلامة الدمشقية في اسمه الشخصي. وقد بلغت عبقرية هذا المبدع المعماري والمهندس حداً تمكّن معه من وضع اسمِه على عدد كبير من المنجزات أو المشاريع العمرانية النُصُبيَّة المعروفة جيداً للعالم الآن في قلب العاصمة روما وباتت هذه المعالم مكافئة للخلود في تميزها وروعتها. إنه أﭙولّوذوروس (أو أبولّودور) الدمشقي الذي لا تتفق المصادر على تاريخ ولادته المتأرجح والمرجح بين عامي 70 و80 للميلاد، بينما لا تختلف كثيراً على تاريخ وفاته المحدد بعام 135 للميلاد.
حمل هذا المعمار اسماً يونانياً جرياً على العادة والعرف في أيامه، حيث كانت الثقافة العالمية الرائجة آنذاك هي الهيلنستية، أي الشرقية المتأغرقة شأنها في رواجها شأن الإنكليزية اليوم. ولا عجب في هذا إذا عرفنا أن بعض أسماء مشاهيرنا السوريين في تلك الفترة ذاتها من أمثال زنوبيا والأباطرة سيـﭭيروس أليكساندروس الحمصي وفيليـﭙوس العربي من شهبا، كانت يونانية صرفة على الرغم من أنهم كانوا إما من الآراميين السوريين أوالعرب السوريين انتماءً ونسباً. وسنأتي على ذكر هذين الأخيرين في سياق هذا البحث. فمن كان أﭙولّوذوروس الدمشقي هذا؟ وماذا حقق من مآثر لروما؟
وُلِدَ أﭙولّوذوروس في دمشق نحو عام(70 للميلاد) وعاصر الإمبراطورَين الرومانيين ترايانوس
(تراجان) وأدريانوس (هادريان). واختص بالعمارة النُّصُبِيَّة الفخمة ونبغ معماراً ومهندساً. ولما طارت شهرته في أرجاء الإمبراطورية الرومانية، استدعاه أباطرة روما وكلفوه بالعديد من المنشآت والمشاريع العمرانية الكبرى التي خططها ونفذها في قلب روما.
استدعاه الإمبراطور ترايانوس ( أو تراجان 98 - 117 م) إلى روما وعهد إليه بتنفيذ الأبنية التالية:
• بسليقة ترايانوس عام 98 م.
• فوروم ترايانوس أو السوق العامة عام 114 م.
• عمود ترايانوس وموقع فوروم وعمود ترايانوس على خارطة العاصمة الإيطالية روما.
ثم جاء أدريانوس (أو هادريان117– 138م) بعد ترايانوس على عرش الإمبراطورية. فتمسك بأﭙولّوذوروس وعهد إليه هو الآخر بتصميم وتنفيذ الأبنية التالية: هيكل ﭭينوس وروما (123- 135م)، موسوليوم أدريانوس (كاستل سان أنجيلو)، قبة البانثيون (وهو المعبد المخصص لكافة الآلهة)، جسر ميسيا على نهر الدانوب قرب Dobreta وهو أضخم جسر أنشئ في تاريخ روما، وكان معجزة هندسية رائعة وبازيليك أدريانوس Basilica Adriana ومبنى الأوديون وقصر العدل ومكتبتان وبازيليك أولبيا Basilica Ulpia وجمنازيوم وحمامات عامة وأقواس النصر في Beneventum وAncona .

أباطرة أمهاتهم من أسرة حمصية يحكمون روما:
تبدأ قصتهم نحو أواخر القرن الثاني الميلادي، وتستتب لهم السدة الإمبراطورية أوائل القرن الثالث الميلادي. والظاهر أن ما حذّر الشاعر الروماني جوﭭينال من أنه خطر سوري على روما بمقولته التهكمية الشهيرة: Iam pridem Syrus in Tiberim defluxit Orontes. ---Juvenal Sat. III 62 "لقد أصبح نهر العاصي منذ زمن يصب في نهر التيبر ... الأهكومة الثالثة 62" قد وقع ما هو أخطر منه، إذ لم يقتصر الخطر السوري على البعد الثقافي فقط، بل تعداه إلى استيلاء السوريين على السلطة استيلاءً حقيقياً بكل ما في الكلمة من معنى. وإليكم مختصر الحكاية:
قبيل العام 173 للميلاد، تصل إلى روما صبية سورية من حمص اسمها جوليا دومنا [الشكل 5] من أسرة شمشغرام النبيلة القائمة على خدمة وسدانة معبد الشمس وكهانته. ويلتقيها سـﭙطيميوس سيـﭭيروس الضابط الرفيع الرتبة آنذاك من مدينة لبدة الكبرى Lepcis Magna أو Leptis Magna من أسرة تنحدر من سلالة فينيقية الأصول (أي سورِيَّةٍ ساحلية) قُدِّرَ له أن يحكم روما (ما بين عامي 193– 211م). ولما افْتُتِنَ سيفيروس بذكائها فإنه تزوج منها عام 173 لتصبح زوجته الثانية. وفي عام 188 تنجب جوليا دومنا ولدها الأول الذي سيصبح في المستقبل الإمبراطور كركلا [الشكل 7]. وفي السنة الثانية تنجب ولدها الثاني Geta الذي قُدِّرَ له أيضاً أن يصبح إمبراطوراً. ولما كانت جوليا دومنا بارعة الذكاء، فإن زوجها الإمبراطور كثيراً ما كان يستشيرها في الشؤون الهامة ويأخذ بمشورتها. وفـي عام 217م بعد مقتل ولدها كاراكَلاّ (أو كَرَكَلاّ)، اعتبرت أن حالتها يائسة وانتحرت بالامتناع طوعاً عن الطعام. وينسب إلى جوليا دومنا الفضل في إنشاء معبد الشمس في بعلبك (هيليوﭙوليس) وأيضاً كلية الحقوق في مدينة بيروت، وفي هذا الدليل الساطع على السوية التي ارتقى إليها تفكير هذه الأميرة الحمصية السورية. كما قامت بإعادة إنشاء هيكل الـﭭيستا في روما عام 191م بعد الحريق المدمر الذي أتى عليه.
الإمبراطور المقطب الجبين الجهوم الذي لا يعرف الضحك، كاراكلاّ (حَكَمَ مابين 211-217م) [الشكل 7] الولد البكر لسـﭙطيميوس سيـﭭيروس لأمه جوليا دومنا، من مواليد لندن في السادس من نيسان عام 188م. العام 196م يحصل باسيانوس أو ماركوس أﭭريليوس أنطونينوس، وهو الاسم الحقيقي لكاراكلاّ، يحصل على رتبة القيصر ولما يبلغ الثامنة من عمره بعد، وبعد ذلك بسنتين، أي في العاشرة من عمره، يرقى إلى مرتبة الأوغسطس. وكان كاراكلاّ يرافق والده سـﭙطيميوس سيـﭭيروس وأخيه غيتا في حملاته على بريطانيا عام 208م، وفي عام 210م قاد الحملة شخصياً وهو في الثانية والعشرين.
العام 211م يخلف كاراكلاّ والده المتوفى مع أخيه غيتا حسبما رتب لهما والدهما ذلك. ولكنه يوعز بقتل أخيه في العام التالي كما يوعز بقتل العديد من الرومانيين المتميزين والبارزين بغية الاستئثار الكامل بالسلطة ولتعزيز موقعه كإمبراطور. وقد تم اغتياله، أي اغتيال كاراكلاّ، آخر الأمر بإيعاز من ماكرينوس أحد كبار موظفي السلطة القضائية في البلاط الإمبراطوري. كان ذلك في الثامن من نيسان لعام 217م فيما هو ينتقل مسافراً بين مدينة إيذيسا السورية (أورفا اليوم) وكاليروهي السورية أيضاً أو الرُّها. من أبرز منجزاته أنه أعطى كافة السكان الأحرار في الإمبراطورية اسم وامتيازات المواطنين الرومانيين. أما اسم كاراكلاّ الذي عُرِفَ به، كان كنية مشتقة من القفطان الطويل الذي اتخذ منه رداءه المفضل. ومن الأوابد الخالدة في روما اليوم حمامات كاراكلاّ.
لم تكن جوليا دومنا أماً لإمبراطورين فقط، بل هي التي مهدت الطريق وفتحت الباب أمام المزيد من أبناء أسرتها للوصول إلى السُدَّة الإمبراطورية في روما فكان لها أخت اسمها جوليا مايسا أصبحت جدة للإمبراطورين إيلاغابالوس Elagabalus وسيـﭭيروس أليكساندروس Severus Alexandros . الأول، إيلاغابالوس (حَكَمَ ما بين 218-222 م) ، كان ابناً لابنتها جوليا سوايمياس من أبيه سيكستوس ﭭـاريوس مارتشيللوس. وكان اسمه الأصلي: Varius Avitus Bassianus وفي طفولته عُيِّن كاهناً للإله الشمس إيلاغابالوس = إِلا جابال = إِلا جَبَل أي "إله الجبل" في حمص وعرف بهذا الاسم أكثر ما عُرِف. وفي السادس عشر من أيار عام 218م نودي به إمبراطوراً من قبل القوات المتمركزة حول حمص، وسرعان ما انتشر الانقلاب إلى بقية الجيش السوري. وكانت جوليا مايسا جدته هي من وراء هذا العصيان المسلح مستفيدة من تدهور شعبية ماكرينوس. فقد نشرت الإشاعة بين الجند بأن إيلاغابالوس إنما هو ابن كركلا الذي ما برحت ذكراه عزيزة جداً في نفوس الجند. وبعد هزيمة جيش ماكرينوس، تم قبول إيلاغابالوس من قبل مجلس الشيوخ على أنه الإمبراطور، وبدأ رحلة ممتعة إلى روما. وعند اغتياله هو وأمه جوليا سوايمياس في السادس من آذار عام 222م في المعسكر الـﭙريتوري، كان ثمة ارتياح عام لدى كافة الأوساط وسحبت جثتيهما في شوارع روما وألقيتا في نهر التيبر. 
الإمبراطور الأخير من العائلة السورية هو أليكساندروس سيـﭭيروس (حَكَمَ ما بين 222-235م) [الشكل 12] وكان ابناً لجوليا ماميا [الشكل 13] أخت جوليا سوايمياس أي ابن خالة إيلاغابالوس وحفيداً لجدة جوليا مايسا. اسم أبيه Gessius Marcianus جيسيوس مارقيانوس. في عام 221م تبناه إيلاغابالوس ابن خالته وأعطاه لقب القيصر. وبعد اغتيال إيلاغابالوس تم الاعتراف بأليكساندروس إمبراطوراً من قبل الحرس الـﭙريتوري. وفي اليوم التالي أعطى مجلس الشيوخ مُصادقته على ذلك. وقد حكم أليكساندروس الإمبراطورية بحكمة واتزان، وتحسنت في عهده أحوال الدولة إلى حد بعيد. وخلال السنين التسع الأولى من ولايته، لم تتعرض الإمبراطورية إلى خضّات بسبب الحروب الخارجية. ولكن، في عام 232م كان على أليكساندروس مواجهة أرداشير الساساني الذي كان قد أطاح لتوه بالمملكة الأرشاقية للفرتيين، وبات يهدد الآن سورية وكـﭙدوكيا. ولم تلاق حملتُه هذه الكثير من النجاح. وسرعان ما عاد أليكساندروس إلى الغرب حيث نشأت اضطرابات على الجبهة الجرمانية استدعت حضوره. ولكن، وقبل أن يبدأ القتال فعلاً، أعلن الجند ماكسيميانوس، أحد قادتهم، إمبراطوراً على روما. واغتيل أليكساندروس وأمه جوليا ماميا في معسكرهم قرب مدينة ماينز في الثاني والعشرين من آذار عام 235 ميلادية.
لم يكن سيـﭭيروس أليكساندروس هو آخر الأباطرة الذين أعطتهم سورية لروما بل آخر أباطرة الأسرة السيـﭭيرية فقط، فبعد مقتله بتسع سنوات فقط يعتلي عرش الإمبراطورية الرومانية، التي كانت القوة العظمى في العالم آنذاك، إمبراطور سوري آخر وهو ماركوس يوليوس فيليـﭙّـوس أو فيليـﭙوس الأول بن يوليوس مارينوس المولود في بصرى الشام عاصمة الولاية العربية أو إقليم العربية، وقد اشتهر أكثر باسم فيليـﭙـّوس العربي أو فيليب العربي (حَكَمَ ما بين 244-249م) نسبة إلى هذا الإقليم الذي كان يضم جنوب سورية وحوران وشرقي الأردن والبتراء أيضاً. اعتلى فيليـﭙوس سدة الإمبراطورية عام 244م، ولعل أبرز ما ميز فترة ولايته هو الاحتفال الضخم الذي رعاه بمناسبة العيد الألفي لتأسيس روما. واشتهر باتزانه وتمسكه بالفضائل وتخفيف الضرائب عن كاهل المواطنين. كما عرف بعطفه الكبير على المسيحيين بعد الاضطهادات المتتالية عليهم إلى الحد الذي جعل بعض المؤرخين يقولون إنه أول أباطرة روما المتنصرين كالمؤرخ الإسباني هوروشيوس في القرن الخامس. وإن أكثر ما يذكرنا به هنا في سورية هو الآثار الباقية التي مازالت ماثلة في مدينته (فيليـﭙوﭙوليس) أي مدينة فيليـﭙـّوس جنوبي دمشق بتسعين كيلومتراً، وهي بلدة شهبا اليوم. فقد أراد لها فيليـﭙوس أن تكون شاهدة أبدية لعظمة هذه الأرض ولأبنائها فأنشأها من جديد على مستوى مستوطنة كبيرة، وجهزها بجميع المرافق والخدمات التي للمدن الرومانية الكبرى، فأضحت عاصمة إقليمية، وكأنها روما مصغرة. وينتصب تمثل إمبراطورنا السوري فيليـﭙوس هذا الذي نراه أمامنا الآن في مقر عمدة مدينة روما اليوم، وهو يرمز بحق إلى الاتحاد الحضاري بين الشرق والغرب وإلى الألفية الأولى لمدينة روما، وربما رَمَزَ أيضاً إلى ابتداء أفول الوثنية وحلول المسيحية بالنسبة للبعض.
الأُرْغُن آلة موسيقية سورِيَّةُ المنشأ:
يقول الباحث الأميركي Curt Sachs "إن بداية الأرغن يمكن تجميعها من تمثال صغير terra- cotta figurine يرجع إلى القرن الأول قبل المسيح حَظِيْتُ بشرف اكتشافه في أحد مستودعات متحف برلين وهو يمثل شاعراً مطرباً جوالاً سورية يغني ويعزف في آن معاً على الأرغن. ولما كان الشاعر المطرب لا يستطيع الغناء والنفخ معاً، فإنه قام بوصل الأرغن، وهو آلة نفخ في الأصل، بخرطوم والخرطوم بمنفاخ على هيئة ضرف جلدي يدوسه بقدمه. "ويتابع Sachs قوله" وإن هذا هو بدون أدنى شك الجهاز الذي آلَ إلى الآلة الموسيقية المعروفة بالأرغن" (أي الأورغ) ولكن هذه الوثيقة ليست هي دليلنا الوحيد إلى حقيقة المنشأ السوري لهذه الآلة الموسيقية لأنه لدينا إثبات آخر لا يقل عنها أهمية، وهو لوحة الفسيفساء المتفردة الرائعة هذه من محفوظات متحف حماه الوطني و المكتشفة في قرية مريمين على مسافة 30 كيلومتراً إلى الشمال الغربي من حمص. وتعود إلى أواخر القرن الثالث الميلادي وهي تمثل بكل تأكيد الأرغن.
حتى الآن استعرضنا بعضاً من إسهامات سورية و السوريين في ترقية أثينا وروما الغرب، والآن سنأتي إلى روما الشرق أو روما الجديدة أو بيزنطة فماذا قدمت لها سورية؟ أو بعضاً مما قدمته:
هل سمعتم بالنار اليونانية؟
لا بد وأن بعضكم سمع أو قرأ عنها. فما هي هذه النار؟ وهل كانت يونانية فعلاً؟
النـار اليونانية أو الإغريقية = Greek Fire Pyra Hellinika وما أدراك ما هي، نار حامية، كانت تَبْثُقُها السفن البيزنطية على السفن المعادية ما بين أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن قبل اختراع البارود. وكانت تُضَخُّ من خلال أنابيب ثم تُقْذَفُ بشدة من فوهات يمكن توجيهها أو تسليطها باتجاه السفن المعادية. وكان وقودها يتكون من مستقطر نفطي يذاب فيه القطران والكبريت ومواد أخرى ملتهبة.
وتؤكد المصادر التاريخية أن مخترع هذا السلاح الفعّال الذي كان بمثابة أكثر الأسلحة الفتاكة تطوراً وسرّيةً في زمانه إنما هو المعمار السوري كالينيكوس الذي هاجر إلى مصر من مدينة بعلبك (التي هي في سورية التاريخية أو بلاد الشام) ثم اخترع هذا السلاح في القسطنطينية نحو عام 680 الميلادي. وقد حققت بيزنطة بفضله تفوقاً عسكرياً ساحقاً مَكَّنَها ولفترة طويلة من الدفاع عن القسطنطينية وصد كافة المحاولات لفتحها.
تمثل الصورة في [الشكل 16] وثيقةً تاريخية نادرة تأتي من مخطوط يرجع إلى القرن الثالث عشر محفوظ اليوم في المكتبة الوطنية في مدريد، ويظهر التصوير زورقاً حربياً شراعياً مطقوماً بِسَدَنَتِهِ الستة (إلى اليسار) يباغت زورقاً معادياً بفتح النار اليونانية عليه من فوهة باثقة للَّهب. وتعلو الرسم كتابة يونانية قديمة تمكنتُ، شخصياً، من قراءتها و تعريبها كما يلي:
" … (كذا) من (أصل) خمسين وثلاثمائة سفينة حربية معبأة و(سفينة) تموينية أيضاً والتي تخص الأسطول الملكي تقدمت هذه الزوارقَ المستدرجةَ الأصغرَ منها لمحاصرة (السفن) المعادية ليلاً وتُرسيها في الميناء لتباغتها جميعاً ولتفاجئ جميع من كانوا فيها حقيقة وبكل ما عليها وأيضاً أحرقت بالنار أياً من اللائذين بالفرار "ويقرأ التعليق فوق السفينة المهاجمة" نيران قاذفي اللهب. "
والإمبراطورة ثيوذورا كانت سورية الأصل أيضاً:
ومن سلسلة المشاهير السوريين الذين وصلوا إلى السدة الإمبراطورية امرأة سورية من مدينة هيرابوليس (أي المدينة المقدَّسَة) وهي مدينة منبج اليوم في الشمال السوري، اسمها ثيوذورا [الشكل 17]، التي لم تكن مـجرد قريـنةً للإمـبراطور البـيزنطي جوستنيان الأول الذي حكم في القرن السادس ما بين عامي 527-565 م، بل كانت شريكة فعلية له في الحكم.
يُذْكَرُ عن ثيوذورا كيف أنها دعمت زوجها ضد الثورة الشعبية التي قادها أحد الطامعين بالسلطة في الثالث عشر من كانون الثاني عام 532 م وكاد ييأس جوستينيان لولا مساندتها له، بل وتوليها بنفسها قيادة الجيوش لإخمادها. وقد سقط ما يربو على 40,000 ضحية في الهيـﭙودروموس حيث انطلقت هذه الثورة. ومن مآثرها المعروفة أيضاً الدعم الذي قدمته للسريان حين زار الملك الغساني الحارث الثاني القسطنطينية حيث قابلها الحارث ونجح في الحصول منها على دعمها وتأييدها للكنيسة السورية الوطنية الناطقة بالسريانية والقائلة بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح لأنها هي أيضاً كانت من أتباع هذا المذهب المعروف "بالمونوفيزي" وحصل منها على صك بتعيين "يعقوب البرادعي" أول أسقف لهذه الكنيسة في سورية.
ومن أعمالها أيضاً أنها حولت مقر كلية الحقوق في بيروت ونقلته إلى القسطنطينية العاصمة وكذلك أغلقت مدرسة الإسكندرية . ويذكر أن كلية الحقوق في بيروت التي سبق وقلنا أن مؤسستها هي جوليا دومنا قبل زمن ثيوذورا بقرنين وثلث القرن. وبذلك استأثرت بالمؤسسات العلمية وجعلتها حكراً للعاصمة بيزنطة دون غيرها. ولعل هذا الاستئثار هو الذي أسهم في مأثرة جوستينيان الحقوقية المعروفة بـ Corpus Juris Civilis أو "منظومة التشريع المدني" التي كلف حقوقيين بارزين بوضعها لعل معظمهم استُقْدِموا من كلية الحقوق في بيروت.
الموسيقى البيزنطية التاريخية أصولُها سوريَّة:
إسهام آخر لسورية والسوريين وهو ما ندعوه الموسيقى الكنسية البيزنطية حين الإشارة إلى الموسيقى أو التراتيل الكنائسية التي تجلجل في الكنائس الوطنية السورية. فهذه لم تكن بيزنطية الروح أو الملامح ولو أنها وُضِعَت وطُوِّرَت في الدور البيزنطي واكتسبت، تاريخياً، صفة "البيزنطية" وعُرِفَتْ بها. فواضعو هذه الطقوس والليتورجيات والألحان وكلماتها كانوا سوريين أبرزهم القديس يوحنا فم الذهب الأنطاكي في القرن الرابع الذي طَوَّرَ القداس الإلهي المعتمد في كنائسنا عن سَلَفِه القديس ﭭـاسيليوس (أو باسيليوس) الكبير المولود في قيصرية كاﭙادوكيا. كما أنه كان يُعتقَد خطأ بأن الموسيقى البيزنطية كانت تنحدر من الموسيقى اليونانية القديمة، غير أن الدراسات أثبتت أن تراتيلنا المدعوة بالبيزنطية تنحدر أساساً من الموسيقى السورية ولا علاقة لهذه التراتيل بالنظريات الموسيقية اليونانية لا من قريب ولا من بعيد. وأيضاً فإن الفنون الشعرية التي اعتمدتها هذه التراتيل كالطروﭙاريات والقناديق والكانينات هي الأخرى سورية المنشأ وقد استُمِدَّت من الأشكال الشعرية السريانية الثلاثة المعروفة بالميامر (جمع ميمر) والمداريش (جمع مدراش) والسوغيثات (جمع سوغيث) ومن أشهر واضعي القناديق القديس رومانوس المرنم الحمصي المتوفى عام 530 للميلاد والكانين القديس يوحنا الدمشقي المتوفى عام 760 م.
وبعد أيها القارئ الكريم، فهذا موضوع واسع لا يمكننا الخوض فيه أكثر في إلمامة سريعة كهذه. ولكن ما لا ينبغي إغفاله هنا هو حقيقة أن عطاءات سورية ما برحت تسهم في ترقية أوروبا، الوريثة التاريخية لحضارات أثينا والرومتين المُستَمِدَّةِ أصولها من شرقنا. واستمر هذا العطاء فيما بعد أيضاً بوتائره وآثاره المعروفة جيداً للغرب وللعالم .
فلنكن اليوم فاعلين في حضورنا على الساحة الحضارية في عالَمِنا المُعَولَم لكي لا نضيع أو نذوب في خضم الطغيان الثقافي والاقتصادي والسياسي الجامح للعولمة ولنتمسك بثقافاتنا لأنها أقدس مقدساتنا، ولكن دون أن نخسر، بالتعصب لها، قدرتنا على المحاكمة العقلية المجردة على أي حال، وأقصد هنا بلا شك أو مواربة الذهنية العلمية ولا شيء آخر.
حواشي:
(1) صحيح أن السيد المسيح عاش وبَشَّرَ في فلسطين (التي هي جزء لا يتجزأ من سورية التاريخية أو بلاد الشام)، غير أن المسيحية، بمعنى العقيدة التي حملها أتباع السيد المسيح فيما بعد، والذين اكتسبوا اسم "المسيحيين" (الذي باتوا يُعْرَفون به منذئذٍ)، خرجت من أنطاكية (التي كانت عاصمة سورية الأولى آنذاك) على ما ورد في سفر أعمال الرسل بالإنجيل حيث" دُعِيَ التلاميذُ مَسيحِيّيْنَ في أنطاكيّةَ أولاً." (أع 11: 26 ).
(2) انظر (أع 9: 1-20 ).
المصدر : الباحثون العدد 60 حزيران 2012