في برنامج تلفزيوني أمريكي معروف، من نوع طبيب التلفزيون، كان المقدم (الطبيب) يستهل كل حلقة من حلقاته الأسبوعية برسم خمسة رموز بيده، مردّداً: رجل، امرأة، ولادة، موت.. لا نهاية. مفترضاً – عن حق – أن هذه الرموز الخمسة تختصر، بل تشمل كل ما يدور حوله علم الطب.
من جهة أخرى، يبدو أن هذه الرموز الخمسة نفسها يمكن أن تلخّص حكاية الكون، ولاسيما الرمز الأخير منها أي اللانهاية، الذي شغل ويشغل الفلاسفة والعلماء منذ أقدم العصور، وإذ يعتقد بعض علماء الفيزياء والكونيات أن نجاحهم في مقاربة مسألة اللانهاية يمكن أن يدعم بقوة قضية وجود أكوان متعدّدة، فلأنهم عموماً يوافقون على أن الكون يمكن أن يكون لا نهائياً، بعد أن استهلكوا في محاولة فهم ولادة الكون، ومشهد موته، وما إذا كان وجود رجال ونساء ضمنه أن يكون ذا أثر؟ مع التأكيد على أن مصطلح «رجال ونساء» هنا لا يعني بالضرورة وبشكل حصري البشر، لأن أي شكل من أشكال الحياة يتمتع بالوعي والحساسية، والقدرة على التأمل في الكونيات، قد يكون مؤثراً.
ولكن السؤال الذي يُطرح: هل تلعب الحياة دور البطولة أو النجومية في الدراما الكونية؟ أم إنها مجرد كومبارس؟.. وهل القوانين الفيزيائية والرياضية التي تحكم الكون القابل للمراقبة تعكس الحقائق، وتحدّد خواص الطبيعة دون النظر بعين الاعتبار إلى أيٍّ من الساكنين الأحياء؟، وهل الحياة، إذن، هي مجرد نتاج محظوظ لحوادث الصدفة في بيئة مضيافة، وليشت إشارة أو مفتاحاً لمعرفة ما الذي جعل تلك البيئات مضيافة بهذا الشكل لكي تبدأ بها الحياة؟
هذه ليست مناقشة جديدة من نوعها، فمنذ زمن طويل، تجادل علماء الفلك بشكل مشابه حول سبب دوران الأرض بسلاسة ورضا حول مصدر دفئها؟ وجزم معظم العلماء أن ثمة قانوناً رياضياً غير معروف تطلّب موقعاً محظوظاً، كهذا، بغض النظر عن عدم اكتشافه، ورأوا أنه كان هناك العديد من الكواكب، وببساطة استوطن الناس واحداً من تلك الكواكب، قدم لهم بيئة مناسبة للحياة.
وحالياً يعتقد كثيرون أن المبدأ نفسه يطبق على الكون الملائم للحياة، إذ يمكن أن لا يكون هناك قانون يحدّد خصائصه، وبالأحرى قد يكون هناك أكوان عديدة، شغلت الحياة واحداً منها ذا شروط ملائمة، بكلمات أخرى، إن خصائص الكون الذي يقيسه علماء الفيزياء والطبيعيات هي خصائص «انتقائية»، يفرضها الواقع الذي يعيشه أولئك العلماء ويبدؤون به، وهذا ما يعرف عموماً بالمبدأ الإنساني، وهي فكرة تلقى مقاومة عنيدة من قبل من ينتقدونها، وتحظى بالمقابل بحماسة وتعصب قويَين من قبل من يعتنقونها.
يحتج خصوم التفكير أو الاستنتاج بأنه غير قابل للقياس والاختبار، معتبرين إياه في أحسن الأحوال فلسفة ممتعة، إنما لا ترقى إلى مستوى العلم، لكن المدافعين عن التفكير الإنساني يردون بأن العلم يمكن أن يحتاج إليه للإجابة على بعض الأسئلة الهامة، وقد شرعوا حديثاً يبحثون عن قيم حسابية للخصائص الكونيّة لا يمكن للنظريات العلمية النموذجية أن تشرحها، ورغم كل العوائق يبدو أنهم مصممون على الوصول إلى نتيجة ترضيهم، وهم يعتبرون أنه يجب على العلماء أن يعرفوا كيف يقاربون اللانهاية إذا أرادوا أن يختبروا ما إذا كان الكون هو على ما هو لأنه مكان جيد للرجال والنساء لكي يولدوا ويموتوا.
ويستمر التمدد:
عُرّف «الكون» في السابق بأنه كل شيء يعيش، أما حالياً فيُشار به على الأغلب إلى واحدة من عدد لا نهائي من فقاعات الزمكان (الزمان – المكان). ويقول أحد علماء الكونيات: «ما كنا نسمية دائماً الكون universe، ربما يكون مجرد جزء في منتهى الصغر من نظام أكبر وأكثر إحكاماً، نفضل أن ندعوه الكون المتعدّد multiverse».
وإذا كانت المراجع العلمية المدرسية، منذ عقد أو عقدين، لا تعترف بتلك الأكوان المتعدّدة التي اقتصر وجودها آنذاك على خيال العلماء، فإن الكون المتعدّد قد أصبح في أيامنا هذه موضوعاً ساخناً في المؤتمرات العلمية، ومنها ندوة «المصادر Origins» التي انعقدت مؤخراً في تيمبي في ولاية أريزونا الأمريكية، وتحدّث فيها خبراء كثر عن الدلالات الإنسانية لتعددية الأكوان، التي يعود الفضل في الاهتمام بها حديثاً إلى النظرية الفيزيائية الفلكية المبسّطة المسمّاة التمدّد inflation. وكان بين المتكلمين في تلك الندوة ألان غوث Alan Guth من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، وهو الذي ابتدع عام 1980 فكرة التمدّد، التي شرحت ألغازاً متعدّدة حول الانفجار الكوني الذي يعتقد العلماء أنه حصل قبل 13.7 مليار سنة وأدى إلى ولادة ما يُعرف اليوم باسم الكون.
وقد حاول غوث أن يشرح كيف ولماذا أصبح الكون المرئي حالياً منتظماً من حيث الحرارة والبنية، فاقترح أن الكون قد يكون تمدّد لجزء صغير من الثانية بشكل أسّي، مما مدّد الزمكان بشكل كاف لإزالة كل ما في الخليط الأصلي للمادة والطاقة، ما عدا التكتّل الأصغر والأدق حجماً، التي أنتجت وفقاً لاقتراح غوث سماوات اليوم الناعمة، كما أن التمدّد يفترض أن يكون قد دفع الكون لكي يصل إلى حجمه الحالي انطلاقاً من مصدره البالغ الصغر. إذن فالتمدّد وفق حديث غوث في مؤتمر أريزونا، يفسّر كيف أصبح الكون كبيراً بهذا الشكل، الأمر الذي يكاد يُعتبر من المسلمات، ولا توجد نظرية أخرى معروفة تقاربه بشكل واقعي.
ويتابع غوث شارحاً كيف أن التمدّد المفترض نتج عن شكل منقرض من الجاذبية، تولّد بواسطة حقل طاقة في الفضاء، وعندما تمدّد الزمكان، فقد جزءٌ من ذلك الحقل قوته، وهكذا استطاع قطاع محلي أن يتمدّد أكثر، سامحاً للنجوم والمجرات أن تتطوّر وتلتحم معاً، ولكن في نفس الوقت، استمرت قطاعات أخرى من الحقل المتمدّد في النمو بشكل أسّي، ويكون هناك دائماً مادة متمدّدة إضافية متاحة لإنتاج فقاعات زمكانية جديدة، سماها غوث «أكوان الجيب pocket universes»، معتبراً أن لا سبيل لهذه الحديثة للتوقف مطلقاً، فالتمدّد يستمر إلى الأبد بشكل حرفي ومتكرّر، وأكوان الجيب تنتج بشكل مستمر ولا متناه، وإذا صحت نظرية غوث فنحن نعيش في واحد مما سمّاه أكوان الجيب.
فقاعات الخصل الذهبية:
يعتقد معظم العلماء اليوم أن التمدّد هو أفضل شرح متاح لهيئة الكون المرئي ومحتوياته. وإذا كان هو التفسير الصحيح، فيفترض أن يكون هناك عدد لا متناه من أكوان أخرى، والسؤال الذي يواجه العلماء: هل تلك الأكوان الأخرى شبيهة بكوننا؟ وهل يمكن أن يكون لها قوانينها الخاصة بموازاة القوانين الخاصة في كوننا؟.
يبدو أن الأكوان المتعدّدة تشمل فقاعات تستضيف أنواعاً مختلفة من الفيزياء، وذلك بالاستناد إلى نظرية متتالية العناصر أو نظرية الجزيئات الأساسية string theory، وهي نظرية رياضية تشرح خصائص الجزيئات والقوى الأساسية، عبر إعطائها بنية موّحدة، وتعتبر – بالرغم من عدم دعمها بتجربة – الطريقة المفضلة لشرح كل قانون فيزيائي. وقد لاحظ أندريه ليند Andrei Linde من جامعة ستانفورد، وهو رائد آخر من رواد نظرية التمدّد، في أريزونا نفسها، أن تلك النظرية تتنبأ بوجود عدد ضخم من «حالات فراغ» متميّزة، أو فقاعات زمكانية ذات خصائص مختلفة (الثوابت الفيزيائية أو الكتل الجزيئية).
وزعم ليند أنه قد يكون هناك 10500 مجموعة مختلفة، من بين عدد لا متناه من الفقاعات، ورغم أن أي قانون فيزيائي أساسي سوف يبقى هو نفسه، فإن الفقاعات يمكنها أن تُظهر تنوعاً فيزيائياً ضخماً، حيث قوانين الفيزياء الأساسية هي هي، ولكن تطبيقاتها هي التي تختلف: فبعض تلك الفقاعات سوف لن تستمر طويلاً بما يكفي لأجل الحياة، ورغم تمدّدها فإنها تنكمش قبل بدء أي تفاعل كيميائي مهم. بينما سوف تتمدّد فقاعات أخرى للأبد، كما هي حالة الفقاعة التي يشغلها البشر. وبينما ترحب القوانين الفيزيائية المحلية في بعض الفقاعات بالأشياء الحية، فإن فقاعات أخرى سوف لن تسمح بوجود أيٍّ من الجسيمات الدقيقة والقوى التي تتضافر لبناء الذرّات والجزيئات والأجهزة الاستقلابية، وهكذا يبدو الأمر في المحصلة كما لو أن الأكوان تكون بجميع القياسات والنكهات، والفقاعة البشرية هي نسخة الخصل الذهبية، وهي الوحيدة الملائمة للحياة.
طبعاً ليست هناك أية طريقة واضحة لإثبات أن الأكوان المتعدّدة يمكن أن توجد بعيداً عن توازنات التمدّد، لأن أيّاً منها لا يحتمل أن يعبّر عن نفسه فيزيائياً، لكن غوث وآخرين يحاولون تطبيق مبدأ الاستنتاج الإنساني على الأكوان المتعدّدة بما يسمح بحساب بعض الخصائص، القابلة للمراقبة، للكون المعروف، وعدا ذلك فهي غير قابلة للتفسير، وإذا نجحت حساباتهم فسيكون من الثابت واقعياً أن هناك أكواناً متعدّدة، لكن بعض العلماء يستبقون النتائج ويجزمون «بأننا ربما نعيش في كون متعدّد». ومن هؤلاء اليكس فيلينكن Alex Vilenkin من جامعة ترافتس، الذي يعبّر عن اقتناعه، على عكس علماء آخرين، بأن الاستنتاج الإنساني قابل للتجربة والاختبار، مرتكزاً في ذلك على كون الناس ليسوا مميزين بكلمات أخرى، لو كانت الأكوان المتعدّدة تعرض العديد من الفقاعات التي تسمح بتطور الحياة، فإن الناس سوف يعيشون غالباً في الفقاعة المتوسطة/المعتدلة. على سبيل المثال: إذا ركنّا جانباً كل الفقاعات التي لن تسمح بالحياة فيها بأية طريقة، ومن ثم حسبنا معدل درجة حرارة الفضاء في الفقاعات التي بقيت، فإن درجة الحرارة الكونية التي يقيسها الإنسان لن تكون بعيدة عن ذلك المعدّل.
لكن الأمر ليس بهذه البساطة – بحسب المعترضين على كلام فيلينكن – لأن احتساب ذلك المعدل ليس بسيطاً بحيث يمكن أن يقوم به إنسان الكهوف!. وحتى بعد استبعاد الأكوان السيئة، يبقى عدد لا متناه من الأكوان الجديدة، وبالتالي سوف يستلزم الأمر قسمة عدد لا متناه من المشاهدات على عدد لا متناه من الأكوان، وهذه مشكلة عويصة.
لكن فيلينكن وغوث وآخرين حاولوا التحايل على مشكلة اللانهاية باستنباط «قياسات» تسمح بتقييم الخصائص حتى في أكوان متعدّدة لا نهائية. ومن الأفكار التي بدت واعدة في البداية، أن يتم تحديد عيّنة لا متناهية من الأكوان المتعدّدة، تقتصر على فترة زمنية محدّدة، ولنتخيل ساعة في كل نقطة من الفضاء ولنسمح لتلك الساعات بأن تدور حتى نهاية الوقت المحدد. فبهذا الشكل من المراقبة يمكن إلى ما لا نهاية، استقراء الحسابات المرتكزة على منطقة لا متناهية من الفضاء، لكن العلماء يخشون هنا من وجود نسبة من الخداع في تلك القياسات، فهناك فقاعة كونية جديدة تظهر كل 10-37 ثانية، وبناءً عليه أينما أُوقفت الساعات، فنصف الفقاعات تماماً سيكون عمرها 10-37 ثانية، كما ستكون فقاعات أخرى كثيرة فتيّة جداً، و«نزعة الشباب» هذه تشوّه الحسابات، لكون معظم الأكوان التي كبرت بالعمر بما يكفي لتطور الحياة سوف تبقى أكثر شباباً من الكون المشغول بالبشر، وبما أن الكون يبرد كلما تمدّد، فالأكوان الأكثر شباباً تكون أسخن، وفي هذا السيناريو ستكون درجة الحرارة المرجحة للأكوان القابلة للسكنى أعلى مما لوحظ.
لذلك يعكف غوث وزملاؤه حالياً على محاولة إجراء قياس فضاء لا نهائي يتفادى بشكل كبير نزعة الشباب، وبدلاً من مراقبة نمو الأكوان المتعدّدة كل الوقت، ابتكروا طريقة تُسمى «حد عامل القياس» (scale-factor cutoff) تراقب الأكوان عندما تصل إلى حجم معين، وبهذا تخف نزعة الشباب، على أن قليلاً من الشباب ليس سيئاً، لأنه إذا كان معدل عمر الكون قديماً جداً، فقد لا يكون البشر أشكال المادة الواعية الأكثر احتمالية، وربما يكون هناك أدمغة بولتزمان Boltzmann أخرى عديدة، غير بشرية.
أدمغة في الفضاء..
سُميت أدمغة بولتزمان نسبة إلى عالم الفيزياء لودويغ بولتزمان Ludwig Boltzmann من القرن التاسع عشر، وهو رائد في شرح الحدثيات الفيزيائية الافتراضية، كان يعتقد أن كل الأشياء تبدو محتملة في الكون اللانهائي، حتى التراكم العشوائي للذرّات التي تقلّد بدقة الأشياء التي تتطور بحدثيات السبب والنتيجة، مثل الأدمغة. وفي مكان ما من الأكوان، أدى خلط عشوائي للجزيئات إلى إنتاج دماغ مطابق لدماغ إنسان ما من جميع الوجوه، مع عصبونات وذواكر وإدراكا، ويمكن أن تصبح أدمغة بولتزمان كثيفة تماماً، إذا وجدت قربها مادة وطاقة بما يكفي لصنعها، مما يجعلها المراقبات النموذجية للأكوان، وإذا سيطرت أدمغة بولتزمان على الأكوان، فسيصبح البشر نادرين، لذلك فإن وجودنا الفعلي يدل ضمناً على أن الكون الصالح للسكنى المعتدل يجب أن يكون شاباً بما يكفي لكبح بقايا تركيبة أدمغة بولتزمان.
وبحسب غوث وشركائه فإن مقاربة «حد عامل القياس» المقترحة يمكن أن تنجح في التخفيف من أدمغة بولتزمان المزيفة. كما أنها تسمح بحسابات مرتبطة بإحدى المشاكل المعقّدة التي يواجهها علماء الفيزياء حالياً: كمية الطاقة في فراغ الفضاء، فهذه «الطاقة المظلمة» تبذل تنافراً لقوتها، أما الكون المتعدّد وفقاعاته المختلفة ومقاربة «حد عامل القياس» فيمكن – بحسب غوث وفيلينكن وآخرين – أن تفسر تلك القوة، وأن تعطينا توقعات تتوافق مع الواقع لحد بعيد، مما جعلهم يعتبرون ذلك أول شاهد على وجود أكوان متعدّدة في الواقع، رغم اعترافهم أن حساباتهم ما تزال خاماً وتفتقر إلى المزيد من النضج والاكتمال.
بالطبع تلقى مجمل هذه الأفكار انتقادات حادة من خصوم عنيدين، مثل ديفيد غروس David Gross حائز جائزة نوبل، الذي لا يترك فرصة متاحة دون أن يُهاجم بعنف التفكير الإنساني، وقد قال في أريزونا: «التمدّد الأبدي غير جدير بالثقة تقنياً ومفاهيمياً، ونظرية متتالية العناصر مشروع غير مكتمل، ومازلنا نجهل ماهيتها على وجه التحديد». ولاحظ غروس في مناسبة أخرى أن هناك مظاهر فيزيائية لم تكن مفسرة بوضوح، وقد خضعت أخيراً إلى محاولات لإيجاد إجابة واحدة صحيحة، بدلاً من اللجوء إلى المقاربة الإنسانية، وهو يقترح أن النظريات التقليدية قد تفتقر إلى شيء من التبصّر العميق في قواعدها، وذلك التبصّر – بحسب غراس ومؤيديه – سوف يؤدي يوماً ما إلى إيجاد حلول رياضية صارمة لأحاجي الطبيعة وألغازها.
لكن من يدري؟ لعل ذلك التبصّر المفقود سوف يؤكد الحاجة إلى ضرورة إخضاع عوائق اللانهاية من أجل حل الأحاجي الكونية، وقد يكون عدد لا نهائي من الأكوان هو تماماً ما أشار إليه الطبيب التلفزيوني من يدري؟!..
المصدر: www.sciencenews.org
المصدر : الباحثون العدد 60 حزيران 2012