مسرح العبث ونشأته:
ظهر مسرح العبث وازدهر في فرنسا كردة فعل على أهوال الحربين العالميتين، وإدانة صارخة على الوحشية، وغرف الغاز، والقنابل الذرية. كما عبّر هذا المسرح عن بؤس وعقم العالم، الذي بدا، آنذاك، بدون أهداف، في ظل حرب باردة وتوتر شديد في العلاقات بين الغرب والشرق، حتى غدا العالم بنظر العبثيين سجناً (لا يطاق).
ومن الأمور الاجتماعية التي عززت ظهور مسرح العبث، أن جيل رواد مسرح العبث كانوا منفصلين عن مواطنهم الأصلية، ومنغمسين في ثقافة مجتمع أجبرتهم الظروف على الانتماء إليه، فـ(بيكيت) أيرلندي، و(يونسكو) روماني، و(آداموف) روسي، و(آرابال) إسباني، و(جورج شحادة) لبناني، ولم يبق سوى (جان جينيه) الذي هو فرنسي الأصل والمولد. وهؤلاء الأعلام جميعاً يكتبون بالفرنسية، التي هي لغة ثقافة اكتسبوها، وليست لغتهم الأصلية، وإذا كانت اللغة وعاء للحضارة، وليست فقط وسيلة للتواصل، فإننا يمكن أن نفهم الشرخ والازدواجية التي يعيشها هؤلاء الكتاب الوافدون على لغة الآخر، وطقوسه، وخاصياته. ولعل هذا السبب الذاتي، أيضاً، كافٍ لكي ينحو هؤلاء الكتاب النخبويين هذا المنحى، ويعبّروا عن الإحساس العميق بتفاهة الوضع الإنساني، وفقدانه لمعناه وجوهره(1).
والعبثيون يفهمون الحياة كلها كعبث، أي أنهم يرفعونها إلى درجة المطلق. إن الحياة كلها، عند العبثيين، لا عقلانية، وسخيفة أزلية، وإن الوحدة والعزلة والاغتراب أشياء أزلية، وإن اللغة لم تعد وسيلة للتواصل بين الأفكار والمشاعر، وهي تتحول عند العبثيين إلى وسيلة للإذهال لإرباك المتفرج، أي أنها تصبح نوعاً خاصاً من المادة المسرحية(2).
ويقول بعض النقاد: إن مسرح العبث ما هو إلا امتداد لوجودية (سارتر) ومسرح القسوة عند (أرتو). وهذا غير صحيح، إذ إن المضمون عند بيكيت، وهو رائد العبثيين، متأثر بالوجودية، ولكنه أخذ من الوجودية جانبها القاتم المتشائم(3). أما القول بأن مسرح العبث مدين لمسرح القسوة فإن المنطق الملتوي للحماقة، والذي يمثل سمة فكرية أساسية في مسرحيات بيكيت ويونسكو، يجعلها بعيدة عن العاطفة المفرطة المميزة لمسرح (أرتو)(4).
مسرح العبث: المعنى والتعريف:
إن كلمة عبث في اللغة العربية تعني (اللعب) واللعب يكون عادة بلا مقصد أو هدف، سوى التسلية والحصول على المتعة العابرة. ومسرح العبث يختلف عن هذا المفهوم، بل إنه يتجه بالعبث إلى النشاز والنبو عن القاعدة، وانعدام المعنى. ومصطلح (مسرح العبث) لم يأت من كُتَابه، بل جاء من النقاد، وعلى الأخص من الناقد المسرحي (مارتن إسلين) الذي جعله عنواناً لكتابه عام (1962)، وقد تعددت تسميات (مسرح العبث) من قبل النقاد فمنهم من يسميه المسرح المضاد، واللامعقول، واللاوعي، أو مسرح الطليعة، أو المسرح الثوري، أو المسرح الاحتجاجي، أو مسرح الكوميديا السوداء، أو مسرح السخرية، أو المسرح التجريبي. ويرى أحد الباحثين أنه يمكن أن يطلق عليه اسم (مسرح الوضع الإنساني) لأنه يهتم بالإنسان بوصفه قيمة. ويناقش الدكتور (محمد غنيمي هلال) موضوع مسرح العبث، فيرى أنه ذو معنى مزدوج، فموضوعه من ناحية عبث الوجود أو رهبة الفراغ في الكون رهبة يعيا بها العقل، ومن الناحية الأخرى يقوم بتصوير الوعي الحاد بهذا الفراغ والعبث، لا عن طريق المنطق الأرسطي، بل عن طريق تجارب معزولة تتصل بأعماق النفس المرتاعة أمام مأساتها الهائلة اللامعقولة(5).
ولهذا اختلف النقاد في إيجاد تعريف محدد (لمسرح العبث). حتى كُتاب العبث أنفسهم لم يتفقوا على تعريف محدد، وإنما كل واحد منهم عرّفه بالشكل الذي يفهمه ويراه. فهذا (يونسكو) يعرّفه قائلاً: "العبثي هنا هو ما خلا من الهدف.. يشعر الإنسان أنه مفقود إذا ما فقد جذوره الدينية والغيبية والمتعالية. وتصبح كل أفعاله بلا معنى وسخيفة وعقيمة". كما يعرّفه (ألبير كامبو) قائلاً: "هو عالم يشرحه العقل ولو أخطأ تقديره. هو عالم مألوف، لكن في كون خلت منه الأوهام والضوء، للتو يشعر الإنسان بأنه غريب عن هذا الكون، وأنه في منفى خرب، وذلك أنه محروم من ذكريات الوطن المفقود، تماماً كافتقاره إلى أمل بأرض موعودة سوف يصل لها في نهاية المطاف. هذا الانشقاق بين الإنسان وحياته، بين الممثل ومكان وزمان مشهده المسرحي،هو ما يشكل بالتأكيد الشعور بالعبثية"(6). وهذا (صموئيل بيكيت) يقول عبارته المشهورة: والتي رفعها شعاراً لفلسفته: "إننا نخرج من ظلمات الرحم إلى ظلمات القبر مارين بظلمات الحياة"(7).
ويكتب (مارتن إسلين) ملخصاً هذه الحركة قائلاً: "في مطاف الأمر، إن ظاهرة مثل المسرح العبثي لا تعكس اليأس، أو اللجوء إلى قوى مظلمة وغير منطقية، بل تعبر عن محاولة الإنسان المعاصر أن يفهم العالم الذي يعيش فيه، إنها تحاول أن تجعله يواجه الوضع الإنساني كما هو عليه، وتحرره من الأوهام التي مآلها أن تسبب له عدم الانسجام وخيبة الأمل فكرامة الإنسان تكمن في قدرته على مواجهة الواقع. كما هو عليه، من خلو المعنى، وأن يقبله بطواعية، من دون خوف ومن دون أوهام، وأن يضحك في وجه هذا الواقع(8).
مسرح العبث؛ سماته وتقنياته:
عندما كتب رواد العبثية مسرحياتهم، لم يضعوا لها شروطاً معينة، أو منهجاً خاصاً، ولم يلتزموا بأهداف موحدة، وإنما كانت كتاباتهم كرد فعل على عبثية الحياة وتفاهتها كما يقولون، وخالفوا فيها كل ما هو مألوف ومتعارف عليه في عالم المسرح، حتى اسم (مسرح العبث) لم يكن من ابتكارهم، وإنما وضعه النقاد، كما ذكرنا، في ذلك الوقت. إلا أننا يمكن أن نجمل سمات (مسرح العبث) وتقنياته، بعد استخلاصها من دراسة هؤلاء الكتاب العبثيين بالأمور التالية: تقع المسرحيات العبثية ضمن التراث الرمزي، كما كانت خالية من أية عقدة منطقية، أو تشخيص بأي معنى تقليدي. فشخصياتها تفتقر إلى الدوافع الموجودة في الدراما الواقعية. وبهذا الشكل يتعمق إحساسها بالعبثية. كما يعمل غياب الحبكة على إبراز رتابة وتكرارية الزمن في القضايا الإنسانية. ولا يزيد الحوار، بشكل عام، على كونه سلسلة في (الكليشيهات) المفككة التي تحجِّم المتحدثين إلى مجرد آلات ناطقة، وهذه المسرحيات لا تناقش الظرف الإنساني، بل تحاول ببساطة تصويره في أسوأ أحواله، من خلال صور ساخطة بقصد تحرير الساذج من أوهامه وتوجيه صدمة للقانع بواقعه"(9). وقد تمردت المسرحية العبثية على المسرح الأرسطي، فلم يعد هناك زمان ومكان وحدث، وبالتالي لم يعد هناك بداية ووسط ونهاية، بل اختلط كل شيء وتشابك وتعقد. وليست هناك حكاية ذات حبكة، بل هناك عرض لمواقف متضاربة ومتناقضة. كما أفرغوا اللغة الكلامية من كل محتوياتها الدلالية وتحويلها إلى أصوات مجردة لا معنى لها. والشخصيات في مسرح العبث لا تملك أي وجود مستقل، وأي أبعاد سيكولوجية، أو اجتماعية، أو ثقافية واضحة، فهي لا تعدو أن تكون مجرد دمى أو عرائس. كما لجأ رواد مسرح العبث إلى المزج بين الكوميديا والتراجيديا لتتوالد عن ذلك (التراجيكوميديا) أو الملهاة السوداء، وهي المسرحية التي تدفع المتفرج قدماً بإثارة العقل، أو القلب، ثم تشتته وتحيِّره، بحيث يضطر مرة تلو الأخرى إلى أن يعيد النظر في فاعليته الخاصة في مشاهدته للمسرحية. وقد استخدم رواد مسرح العبث، أيضاً، ديكورات خفيفة جداً، توحي أكثر مما تقرر، وتزين أكثر مما تكدس، وكمثال عن ذلك مسرحية (في انتظار غودو) التي كان ديكورها يتكون فقط من شجرة نخرة يستظل بفيئها البطلان (فلاديمير) و(إستراغون) في حين ظل الفضاء خالياً من أي نوع من أنواع الزينة(10).
بعد هذه اللمحة السريعة عن (مسرح العبث) وموضوعاته، وآليات اشتغاله، نتوقف عند أحد أهم رواده، وفي رأي بعضهم، رائد مسرح العبث، وهو صموئيل بيكيت وسوف نستعرض بإيجاز سيرة حياته وأعماله وأفكاره.
بيكيت؛ حياته وأعماله:
ولد (صموئيل بيكيت) في (13) نيسان من عام (1906) في ضاحية (فوكس روك) من ضواحي العاصمة (دبلن) في (أيرلندا)، كان والداه (وليم وماري بيكيت) من البروتستانت، تعلم بيكيت عند (إيداستر)، وكانت أسست مدرسة مع شقيقتها، وهي مدرّسة صارمة وتدعو إلى التقيد بالأنظمة والتقاليد ومقاومة النزعات والأهواء. وفي عام (1913) انتقل إلى مدرسة (إيرسفورد هاوس). وقدر لبيكيت أن يشهد مذبحة قامت بين الكاثوليك والبروتستانت عام (1916) وما نتج عنها من الخراب الذي خلفته، وانتقل بعدها إلى مدرسة (برتورا) في عام (1918)، وهي المدرسة التي تخرج منها (أوسكار وايلد)، وقد تعلم بيكيت فيها اللغة الفرنسية، وبقي فيها حتى عام (1923)، وتخرج منها بتميز وتفوق، ثم دخل مباشرة إلى كلية (الترينتي كولدج) في دبلن، ونال فيها بكالوريوس الآداب، كما نال منحة للدراسة في معهد الآداب العليا في فرنسا، وكان أستاذه فيها (ريد موز براون) والذي كان صديقاً لبعض الأدباء الفرنسيين المشهورين، وقد جعله يكتشف الأدب الفرنسي والشعر الفرنسي.
بعد ثلاث سنوات قام بيكيت بزيارته الأولى إلى فرنسا، ثم أتبعها بعد سنة بزيارة إلى إيطاليا. وقد شغف بالفلسفة واللغات الرومانشية (الفرنسية، الإيطالية، الإسبانية). وفي عام (1928) درس في (كومبل كوليج) في (بلفاست)، ثم عاد إلى (باريس) حيث عُين مساعد مدرس للغة الإنكليزية في دار المعلمين العليا، وفي هذه الفترة أصبح صديقاً لـ(جيمس جويس)، الروائي الأيرلندي المشهور، واستمرت هذه الصداقة متينة حتى وفاة (جويس). بدأ في عام (1929) بنشر نصوص قصيرة في مجلة (ترانزيسيون) التجريبية، كما بدأ بالاهتمام بدراسة الأديبين (رامبو) و(باسوريالبيني)، وتعمق في دراسة (ديكارت)، ووضع دراسة عن (جيمس جويس). ومما يذكر أنه كتب في هذا العام قصيدة بعنوان (هدروسكوب) وقد نال عليها جائزة. كما كتب دراسة عن (مارسيل بروست) عام (1930)، ثم عاد إلى دبلن حيث عُين مساعد مدرس للغة الفرنسية في كلية (الترينتي كولدج)، وتعرف على الشاعر (ج.ب. بيتس)، وتسلم بعد عام، في نفس الكلية شهادة الماجستير. وفي عام (1932) استقال من التدريس وقام برحلة إلى ألمانيا، ثم استقر بعدها في باريس، ونشر ترجمات لبعض الكتَاب في مجلة (دس كارتر).
في عام (1933) مات والده، فاضطر إلى الذهاب إلى إنكلترا، واستقر في (لندن) حيث عانى من أزمات مالية، مادية ومعنوية، إلا أنه كتب بعد عام قصائد (عظام الصدى، وقصائد أخرى) والتي نُشرت في باريس عام (1935)، وكذلك كتب روايته الأولى (مورفي).
عاد بيكيت إلى باريس عام (1935)، وكتب نصوصه الفرنسية الأولى (قصائد) وهناك في باريس أقدم رجل مجهول على طعنه في وسط الشارع بعد أن طلب منه الصَّدَقة. وقد زاره (جيمس جويس) في المستشفى. وتعرف بعدها على (سوزان دومنيل) والتي ستصبح زوجته فيما بعد، ونشر بيكيت، بمعاونة (هربرت رد) روايته (مورفي)، ولكنه لم يبع منها إلا العدد القليل جداً. وفجأة اندلعت الحرب عام (1939) وكان بيكيت في (إيرلندا) فعاد إلى باريس مؤثراً العيش فيها: "أفضل فرنسا في الحرب على أيرلندا في السلم". وقد استقر في باريس وعاون صديقه (جيمس جويس)، وانضم، بدءاً من عام (1941)، إلى المقاومة لكراهيته الشديدة للنازية. وكان مع صديقته الفرنسية (سوزان) منغمسَين، خلال تلك الفترة، في العمل لصالح المقاومة الفرنسية، حيث انخرط في معركة لم يتوقع أن يخوضها وهي المقاومة التي عملت على صقل شخصيته، وكانت بمثابة مرحلة حاسمة في حياته، وقد أوشك (الغستابو) أن يقبضوا عليه ففرَّ مع صديقته (سوزان) إلى مدينة (روسيون) في منطقة ( الفوكلوز)، والتي يذكرها في مسرحية (في انتظار غودو). وفي هذه السنة كتب روايته الثانية (وات) بالإنكليزية.
عاد بيكيت عام (1945) إلى باريس بعد أن تحررت من الاحتلال، وعمل في منظمة الصليب الأحمر أميناً للصندوق في مشفى (سان لو)، وكتب في هذه الفترة قصته (الحب الأول) بالفرنسية، ولكنه اضطر للعودة إلى (دبلن) ليتفقد أهله. وعاد إلى باريس عام (1946) ليتحول إلى الكتابة بالفرنسية بالكامل. فكتب روايته (مرسييه وكامييه) ثم (المطرودون) و(المهدي)، كما نشر بعض القصائد في (الأزمنة الحديثة). وفي عام (1947) تحول إلى الكتابة للمسرح فكتب (إيلوتيريا) ثم أتبعها بعد ذلك على التوالي، وعلى مدار السنوات بأشهر مسرحياته (في انتظار غودو) و(نهاية اللعبة)، و(ياللأيام السعيدة) وغيرها من المسرحيات، وكذلك الروايات والقصص مثل: (موللوي، مالون يموت، اللامسمى، شريط ورقصات صاخبة، المنفى إلى روسيون) وغيرها من الروايات والقصص.
تزوج بيكيت من (سوزان دومينيل) عام (1949)، وأصبح فجأة من الكتاب المشهورين في كل أوروبا. وكان كاتباً متعدد المواهب، وقد ترك بصمات عميقة على صعيد المسرح العالمي، وعُرف بأنه رائد مسرح العبث. وقد نال على مجمل أعماله المسرحية والقصصية والشعرية المكتوبة باللغة الإنكليزية والفرنسية، جائزة (نوبل) للآداب عام (1969). وصارت مسرحياته تُعرض على خشبات المسارح في أوروبا وأمريكا وبقية العالم، وتحولت بعض أعماله إلى (أوبرا) كما قُدم بعضها في الإذاعة والتلفزيون والسينما. وفي 22/كانون الأول عام (1989) توفي بيكيت في باريس عن عمر (83) عاماً.
لقد أجمع النقاد، آنذاك، وحتى اليوم، على ما قاله صديق بيكيت (ديتويت): "إن بيكيت هو أديب كوميدي ساخر بامتياز، لكنها سخرية سوداء، ويكفي المسرح هذا الوصف لبيكيت ليتوج عراب مسرح العبث، أو اللامعقول!! (11).
بيكيت الشاعر:
عُرف بيكيت كمسرحي أكثر مما عُرف كشاعر وقاص، ولكن هذا لم يمنع من أن يشتهر في كل هذه الأنواع الأدبية، علماً أنه بدأ حياته الأدبية كشاعر وقاص في البداية، وقد كتب في رسائله يقول بأنه لم يكوِّن أي فكرة عن المسرح سابقاً، ولم يعرف أي شيء عن هذا الفن قبل أن يخوض تلك التجربة، كتابة (في انتظار غودو) التي جلبت له الشهرة الواسعة(12). لقد كان بيكيت شاعراً بطبعه، واهتم بكتابة الشعر منذ طفولته. وهذا يدل على نبوغه في الشعر وتمكنه منه. وكتب أول ديوان شعري له عام (1934) بعنوان (عظام الصدى وقصائد أخرى)، وكان باللغة الإنكليزية، ثم كتب ديوانه الثاني بعنوان (قصائد) عام (1937)، ولكن هذه المرة باللغة الفرنسية. ثم عاود كتابة القصائد ونشرها في مجلة (الأزمنة الحديثة) عام (1968) حيث نشر بعض (القصائد) باللغة الفرنسية. ويبدو أن انشغاله بالكتابة للمسرح والقصة والرواية، هو الذي ألهاه عن كتابة الشعر إلى نهاية حياته. ولكن الروح الشعرية، والخيال الساحر والجمل الموسيقية ظلت تتواثب في كل أعماله المسرحية والقصصية، وتعطي إشراقات مضيئة رائعة بين الحين والآخر في كل ما يكتب.
بيكيت القاص:
قبل أن يبدأ بيكيت بكتابة القصة والرواية، كتب الدراسة الأدبية أولاً، مثل دراسته عن (بروست) وعن (جيمس جويس) وغيرهما. وهذه الدراسات الأدبية مهدت له الطريق لكتابة الرواية والقصة، فكانت أشبه ما تكون بالتمرين والخبرة. وفي عام 1934 كتب مجموعة أقاصيصه الأولى في عشرة فصول، والتي تُرجمت بعنوان (شريط ورقصات صاخبة) وهي مجموعة تتجلى استمراريتها شيئاً فشيئاً، حيث تترابط أوقات حياة طالب جامعي في مدينة (دبلن) مع نهاية مراهقته إلى زواجه المتتالي، وموته في المستشفى إلى جنازته. وبعدها بعام أي عام 1935 كتب روايته الأولى (مورفي) والتي نشرت عام 1938، ولكنها لم تلق نجاحاً يذكر، ولم يبع منها إلا نسخاً قليلة، لذلك لم يعاود كتابة رواية أخرى إلا عام 1941 وهي بعنوان (وات)، وقد نشرت عام 1953. وما بين عامي 1942 و1944 كتب روايته (المنفى إلى روسيون) القرية الصغيرة في منطقة (فوكلوز)، حيث التجأ بيكيت عام 1942 بعد تدمير شبكة المقاومة التي كان ينتمي إليها. وفي عام 1945 كتب في باريس روايته (الحب الأول) باللغة الفرنسية، وهي تحفة فنية صغيرة، يذكّر عنوانها بالأديب الروسي (تورغنيف). وبعدها بعام يكتب أيضاً روايته القصيرة (مرسييه وكامييه) وهي هروب من أحادية قصصه الأولى وولادة الثنائي عنده، ومن ثم ولادة الحوار الثنائي. فهذه الرواية تبدو كما لو أنها رسم أولي لمسرحية، وبصورة أدق، كما لو أنها رسم أولي لمسرحية (في انتظار غودو). فـ(مرسييه وكامييه) الشخصيتان الوحيدتان في القصة، يمثلان (فلاديمير واستراغون)، كما يمثلان أيضاً (هام وكلوف) وربما (لاكي وبوز). والديكور فيها (طريق عبر أرض بور)(13)، وفي نفس العام 1946 يكتب قصصه القصيرة (المطرود، الحبوب المهدئة، النهاية) ضمن كتاب (أقاصيص ونصوص من أجل لاشيء)، وهي ثلاثية صغيرة تعرض وضعاً نموذجياً حقيقياً سيظهر من جديد في جميع نصوص هذه المرحلة، حيث يطرد البطل بقسوة من مكان إلى مكان، ثم تكون المعاناة، ونلاحظ أن عملية الطرد تنتقل من طرد مفروض إلى طرد اختياري مثمر، أي من ولادة إلى أخرى.
ما بين عامي 1947 و1953 كتب ثلاثيته الروائية المشهورة (موللوي، موت مالون، اللامسمى) والتي نلاحظ أن شخصياتها ليست لها سيرة ذاتية، ولاجسد، ولا وجه، ولا حدود. الانتقال إلى المسرح هو، بمعنى ما، سير إلى الوراء، وعودة إلى البدايات من أجل إمكانية البدء من جديد. وهكذا نرى، أنه بفضل المسرح وصل بيكيت إلى نهاية هذا المشروع الذي كان يسعى، من رواية إلى أخرى، لاختصار المسافة ما بين لحظة الكتابة ولحظة المغامرة، وقد يسَر له المسرح الوصول إلى التوافق المستحيل ما بين الرواية والحدث المروي. كما يسّر له أن يهدم ضمير (الأنا) المستحيل، وأن يسمح له أن يخلق الآخرين باختبائه خلفهم، ويجسدهم من جديد بزواله هو، وباختصار، أن يتحدث من جديد من خلال صمته الطويل(14).
بيكيت المسرحي:
اشتهر بيكيت، كما ذكرنا سابقاً، بمسرحياته العبثية أكثر مما اشتهر كروائي وكشاعر، وأصبح واحداً من المسرحيين القلائل في عصره، ولقبه النقاد بعراب مسرح العبث. والحقيقة أن بيكيت كان من الذكاء والحنكة أن استطاع أن يوجد طريقاً في عالم المسرح، بطريقة جديدة، وبأسلوب جدي، وبأفكار جديدة تناسب عصره المضطرب، والذي كان قد عانى من حربين عالميتين، تركتا دوامة من الآراء والأفكار المتضاربة. لقد عرف بيكيت كيف يشق طريقه بتكنيكه الخاص في عالم المسرح، فقد اعتمدت مسرحياته المتكررة على مضمون وتقنيات الإيماء ومسرح المنوعات (ميوزيك هول)، والسيرك، والكوميديا الارتجالية (الكوميديا ديلارتي) في تصويرها لنشاط الحياة اليومية، فجميع شخصيات بيكيت (غودو) و(نهاية اللعبة) من (فلاديمير واستراغون، وبوزو ولاكي، وهام وكلوف، حتى ناغ ونيل) هي أزواج من الكوميديين أو المهرجين، تلهي نفسها، وبالتالي مشاهديها، بالحركات وتداخل الحوار، والبراعة البهلوانية، والاسترخاء حتى النوم، واختطاف القبعات (ثلاث قبعات لرأسين)، وهكذا يتقاتل هذان المتسكعان اللذان ينتظران (غودو)، ويأكلان، ويحاولان النوم، إلى درجة أنهما يحاولان الانتحار على طريقة ممثلي هذه الأنواع من الدراما(15).
والأمكنة عند بيكيت هي اللامكان. والشخصيات بلا هويات، وبلا ملامح، وإذا كانت ذات هويات كـ(بوزو) وحتى (هام) فإن هذه الهويات تتساقط في التباساتها الداخلية وفي اللعبة المسرحية نفسها. من هذه المفارقات تطلع حقيقة المسرح (البيكيتي) أو لا حقيقته، ومنها، وباعتبارها (مختلقات)، أصلاً، تتشابه كل مسرحيات بيكيت، حتى نكاد نقول إنه كتب مسرحية واحدة، بل نكاد نقول إنه كتب مونودراما واحدة بأصوات عديدة طالعة من بعضها رقيقة ومزخرفة ومجوفة إلى بعضها، ولهذا بالذات لا تتحرك مسرحياته من مكان إلى مكان، أو من زمن إلى زمن، تماماً كالقصيدة. إنها لا تتحرك كي تصل، ولا تصل كي تستشرف وصولاً آخر. إنها تراوح مكانها وزمانها، ثم لا تصل، لكن (تبتكر) أو (تختلق) مسافة ما، أو بالأحرى حيزاً زمانياً أو مكانياً.
إن مثل هذه المسرحيات تقدم، في أحسن أحوالها، نوعاً من الشعر والإيقاع، في شكل كوميدي، وأسلوب هزلي خاصين بها، وهذه الطريقة الكوميدية بالذات هي التي جعلت مسرح العبث أكثر انتشاراً من المسرحيات الخاصة والسريالية. إلا أن الكوميديا، عند بيكيت ناتجة عن البؤس، ولهذا البؤس سلاح يكاد يكون وحيداً وهو الفكاهة. فالبؤس والفكاهة متصلان اتصالاً مصيرياً. وكما يقول بيكيت: "لاشيء يثير الضحك والسخرية أكثر من البؤس". وهذه الفكاهة أساسية في الكتابة (البيكيتية) شكلاً ومضموناً، في الكلمة والعبارة والفكرة، وهي تفضي إلى ما يعبر عنه بيكيت أيضاً: "لا شيء أكثر واقعية من اللاشيء، ولا شيء جوهرياً كاللاجوهري، فمواجهة هذا اللاشيء تتم بشكل أساسي بالفكاهة. اللاشيء الوجودي، هو وجود الإنسان البائس، وفي قمة هذا البؤس الفكاهة بعناصرها اللازبة. ولا يخضع القدر عند بيكيت لأي تنبؤ، ولذلك يصبح كل شيء متوقعاً، وهذا ما يبدو عالم لا عقلاني، ففي (غودو) يظهر صبي فجأة ليعلن أن (غودو) سيفي بوعده غداً، وحين يأتي غد يظهر الفتى ثانية ليعيد نفس المعلومات، ولكن هل هو الغد، وهل الصبي هو الصبي نفسه؟ ومع ذلك فإن ما تراه عيوننا يشير إلى مرور الزمن، ما دامت قد ظهرت ورقة أو اثنتان على الشجرة الذابلة. ففي مثل هذه الظروف من التكرارية الفظيعة، والتماثل يبرز أي اختلاف بسيط بشكل واضح، وهذا هو شأن تلك الأوراق القليلة البائسة على الشجرة(18). إننا نفهم من خلال مسرحيات بيكيت على أنها محاولة لوضع النص في مكانه الصحيح، وتأكيد المنطق الحتمي لدى بيكيت إلى جانب العبث، وفكرة الغياب إلى جانب الوجود الكثيف للأجسام والأشياء، والتوحد أو عدم القدرة على التواصل إلى جانب الإصرار الكثيف للأجسام والأشياء، والتوحد أو عدم القدرة على التواصل إلى جانب الإصرار على الاتصال. وإن ظهرت مؤلفات بيكيت متشائمة وموالية لمنحى ينزع إلى الأقل، فهي تظل على مزيد من القوة بالأجزاء الجوهرية. وعالمه هو التعبير عن سويداء لا حد لها، عن العذاب البشري لكائن منعزل في عالم العبث، ولكن تتلمع في هذا العالم (شمس سوداء) وينبجس منها نور خاص تماماً – منارة(20).
إن العظمة والإنسانية عند بيكيت، ليستا في إنكار الحياة والإنسان، ولكن في تلك الدعوة الدائمة، لكي لا ندمر أنفسنا... وبيكيت ليس نداء يتردد في صحراء، إنه يبحث عن صدى يتردد في كل جنبات الأرض، حيث تتوفر القدرة والإرادة على الحياة. عُرف عن بيكيت غزارته في كتابة المسرحيات، والتي من الصعب أن نذكرها كلها في هذه المقالة. إلا أن أهم مسرحياته على الإطلاق هي: (في انتظار غودو، نهاية اللعبة، الشريط الأخير، آه من الأيام الجميلة، فعل بلا كلام، كلمات وموسيقى، كل الذين يسقطون كوميديا، قل يا جو). وإذا نظرنا إلى كل هذه الأعمال، والأعمال التي لم نذكرها، لوجدنا وكأنها عمل واحد، وبلغة واحدة تقريباً، وبمناخات واحدة، وبشخصيات تخرج من بعضها وتتشابه حتى التطابق أحياناً، وإن كانت بعض المسرحيات لها ميزة خاصة كمسرحية (فصل بدون كلام) عام 1975، وهي تصوير من خلال الباليه لرجل وحيد في صحراء بيضاء حارة، تتحكم به هبات حادة غير محددة من الصفير فوق الطبيعي، وكأنه شخص آلي. وكمسرحية (شريط كراب الأخير) وهي مكونة من منولوج يؤديه عجوز، مستجيباً فيه لشريط تسجيل، كان قد سجله قبل ثلاثين عاماً، ومثلها مسرحية (الأيام السعيدة) وغيرها(22). ومما يذكر عن بيكيت أنه أخرج بنفسه بعض مسرحياته مثل: (نهاية اللعبة، شريط كراب الأخير، الأيام السعيدة، في انتظار غودو). وقد كان في عمله كمخرج يبدو محترفاً تماماً، دقيقاً، وشديد الاهتمام بضبط أية إيماءة أو حركة أو نبرة، كما يصر في جميع مسرحياته على الأداء السريع الرشيق، ولكي نأخذ فكرة عن مسرح بيكيت العبثي سوف نستعرض ملخصاً لأهم مسرحية له وهي(في انتظار غودو):
وترينا هذه المسرحية، في الفصل الأول، متشردين هما (فلاديمير) و(استراغون) ويعرفان في المسرحية باسم التحبب (ديدي) و(جوجو). يجلسان تحت شجرة جرداء على طريق في الريف والوقت مساء. وقد التقيا في هذا المكان بانتظار المدعو (جودو) والذي لم يرياه من قبل أبداً، ولكنهما يظنان أنهما على موعد معه. يمضيان الوقت باستذكار الآبهة القديمة والحديث عن بؤسهما الراهن. أحدهما يعاني آلاماً في قدميه والآخر آلاماً في المثانة. يتناقشان حول الانتحار. يلتهم (استراغون) آخر جزرة معه. بدلاً من (جودو) يصل رجلان غريبان، مقرونان بحبل طويل، هما (بوزو) و(لاكي) يبدو أن الأول هو سيد الثاني، الذي ينحني تحت ثقل الحقائب. يجلس (بوزو) على كرسي قابل للطي ويأكل قطعة دجاج، ويدخن غليوناً، قبل أن يشرع في محاضرة عن الغسق، ويجبر (لاكي) على الرقص، ثم على التفكير، أي أن ينطلق في مونولوج فلسفي علمي طويل.
بعد ذهاب (بوزو) و(لاكي) يصل صبي مبعوثاً من (جودو) ليعلن أن سيده لن يأتي اليوم لكنه سيأتي غداً بالتأكيد، يهبط الليل فجأة. يفتح الفصل الثاني على اليوم التالي وفي نفس الساعة والمكان. نرى الشجرة وقد نبتت عليها عدة أوراق. يغني (فلاديمير) أغنية بانتظار (غودود)، بينما يبدو (استراغون) وكأنه أمضى ليلة قاسية جداً. لقد نسي كل شيء عن البارحة، وبدلاً من الجزر يأكل الفجل، ويعود (بوزو) و(لاكي) ولكنهما تحولا، حيث نرى (لاكي) يقود (بوزو) إذ صار أعمى. يتدحرجان على المنصة. بعد مشاورات طويلة يقرر (فلاديمير) و(استراغون) مساعدتهما، لكنهما يسقطان بدورهما.
أخيراً ينهضان، وينصرف الآخران ثم يسقطان من جديد في الكواليس. يدخل الصبي مرة ثانية، ويدعي أنه يأتي لأول مرة، ويتلو (فلاديمير) رسالة قبله: لن يأتي (جودو) هذا المساء، لكنه سيأتي غداً بكل تأكيد. يهبط الليل فجأة. يقرر (جوجو) و(ديدي) أن يشنقا نفسيهما بالحبل الذي صار حزاماً لـ(جوجو)، ولكن الحبل ينقطع. يرفع (استراغون) بنطاله سوف يأتيان غداً.
الهوامش والمصادر:
1- مسرح العبث – عوض إبراهيم العتزي – المجلة العربية – العدد (425) – الرياض – 2012 – ص88.
2- أنطون تشيخوف في المسرح – ن.س. يغوروف – ترجمة نوفل نيوف – الحياة المسرحية – العدد (6) – وزارة الثقافة – دمشق – 1978 – ص12.
3- مسرح العبث – مصدر سابق – ص89.
4- الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق – ج.ل. ستيان – ترجمة محمد جمول – وزارة الثقافة
دمشق – 1995 – ص349.
5- مسرح العبث – مصدر سابق – ص88.
6- أي مسرح هو العبثي؟ - إدوارد إلبي – ترجمة عهد صبيحة – مجلة شرفات – العدد (98) – وزارة الثقافة – دمشق – 2011 – ص26.
7- مسرح العبث – مصدر سابق – ص89.
8- أي مسرح هو العبثي؟ - مصدر سابق – ص26.
9- الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق – مصدر سابق – ص346.
10- مسرح العبث – مصدر سابق – ص89.
11- أخذت المعلومات عن حياة بيكيت وأعماله من المصادر والمراجع التالية:
في انتظار غودو: دراسة عن أدب صموئل بيكيت – آلان ساتجيه – ترجمة قيس خضور – وزارة الثقافة – دمشق – 2002.
في انتظار غودود – صموئيل بيكيت – ترجمة بول شاوول – سلسلة من المسرح العالمي –
العدد (270) – الكويت – 1993.
ج- تاريخ الأدب الأوروبي – ج2 – مجموعة مؤلفين – ترجمة موريس جلال – وزارة الثقافة – دمشق 2007.
د- صموئيل بيكيت: عراب مسرح العبث – ترجمة خديجة القصاب عن الاندبندنت – جريدة الثورة – الملحق الثقافي – العدد (769) – 2011 – دمشق.
12- صموئيل بيكيت: عراب مسرح العبث – مصدر سابق.
13- في انتظار غودود: دراسة عن أدب صموئيل بيكيت – مصدر سابق – ص49.
14- في انتظار غودود: دراسة عن أدب صموئيل بيكيت – مصدر سابق – ص53.
15- الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق – مصدر سابق – ص347.
18- الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق – مصدر سابق – ص348.
20- تاريخ الأدب الاوروبي – ج 2- مصدر سابق – ص 172 .
22- الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق – مصدر سابق – ص354 .
المصدر : الباحثون العدد 62 آب 2012