للأغنية الوطنية في سورية تاريخ طويل بدأ مع بدايات خوض سورية نضالها من أجل التحرر والاستقلال، منذ أواخر عهد الدولة التركية ومرحلة الاستعمار الفرنسي. واستمرت بعد ذلك تواكب الأحداث الوطنية والقومية العربية. واصطبغت الأغنية الوطنية السورية بألوان عربية قشيبة، جعلتها فرعاً هاماً من الأغنية الوطنية العربية. وازدهرت الأغنية الوطنية عموماً في فترات النضال ضد الاستعمار، أو خلال تعرض البلد لعدوان خارجي، كما هو الحال خلال فترة خضوع سورية للاحتلال الفرنسي، وخلال حرب فلسطين عالم 1948، وأثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1958. كما تتنشط الأغنية في الأحداث الوطنية والقومية الكبيرة، منها- على سبيل المثال- قيام الوحدة بين سورية ومصر عام 1958. وفيما خلا ذلك تنحسر الأغنية الوطنية لصالح الفروع الغنائية الأخرى.
وفي هذه الدراسة سأتناول الأغنية الوطنية في سورية من مطلع القرن العشرين حتى عام 1947، وهو العام الذي احتفلت في سورية بالعيد الأول للجلاء. واقتصرت الدراسة على هذه المرحلة لأنها تمثل مرحلة هامة للأغنية الوطنية، وحتى لا أضطر إلى المرور مرور الكرام على هذه المرحلة. على أن تتبعها دراسة أخرى عن الأغنية الوطنية في المرحلة التالية، وهي مرحلة مهمة.
والأغنية الوطنية في سورية بدأت إرهاصاتها الأولى ببعض الأهازيج الشعبية التي تناقلتها الذاكرة الوطنية دون أن يعرف كاتبها أو ملحنها. ومن أوائل الأهازيج التي وصلتنا أهزوجة رددتها جماهير دمشق أثناء اقتياد الأبطال المناضلين ضد الاحتلال التركي إلى ساحة المرجة لإعدامهم يوم السادس عشر من أيار عام 1916. وتقول الاهزوجة:
زينوا المرجة
والمرجة لينا
شامنا فرجة
وهيّ مزينة
هذه الأهزوجة تحولت فيما بعد إلى أغنية شعبية على يد الموسيقي عدنان قريش. ومرت هذه الأغنية بمرحلتين. فقد لحنها قريش عام 1963 بمناسبة زيارة الرئيس العراقي عبد السلام عارف إلى دمشق، فأخذ الاهزوجة وأكمل لها كلمات تتضمن ترحيباً بالرئيس العراقي. ويقول المقطع الخاص بذلك:
ياشام جاييكي سلام
جايي من دار السلام
من بغداد العروبة
جايي مع عبد السلام
وعندما رحل عدنان قريش عام 2004. قام التلفزيون العربي السوري بانتاج فيلم وثائقي عن عدنان قريش شاركتُ في إعداده. وتم تقديم الأغنية في الفيلم بعد أن قام الفنان رفيق سبيعي بتغيير المقطع الخاص بعبد السلام عارف لتصبح أغنية عن الشام.
وبعد رحيل الدولة التركية عن سورية وقيام المملكة السورية بزعامة الملك فيصل، ظهرت أول أغنية ملحنة يقول مطلعها:
سيروا للحرب طراً
سيروا للمجد
واستعيدوا بالمواضي
أيام العرب
بعد احتلال سورية من قبل الاستعمار الفرنسي ظهرت بعض الأهازيج التي تتحدث عن نضال شعبنا ضد المستعمر، من أشهرها أهزوجة عن المناضل إبراهيم هنانو، ظهرت عند اعتقال هنانو من قبل سلطات الاحتلال الفرنسي في ثلاثينيات القرن العشرين، وكنا نرددها صغاراً. ولهذه الأهزوجة صيغ عديدة حسب المناطق السورية. وهي بصيغتها الدمشقية كما يلي:
طيارة طارت بالليل
فيها عسكر فيها خيل
فيها إبراهيم هنانو
راكب على حصانو
فرنساوي يا ابن الكلب
مين قلك تنزل ع الحرب
لما شفت السوريين
صرت تعوي متل الكلب
عوّي عوّي ياكلبي
مالك حسرة بقلبي
بقلبي لوز وسكر
بقلبك دق الخنجر
ومن الأهازيج التي ارتبطت بنضال السوريين ضد الاستعمار الفرنسي أهزوجة يقول مطلعها:
يابو عيون اللويزة
تجرحني بحد قزيزة
على كتفه في بارودة
على خدّه في غميزة
وأيضاً هذه الاهزوجة أخذها عدنان قريش وحولها إلى أغنية شعبية ذات مضمون غزلي ولحنها وغنتها المطربة كروان.
أول نشيد وطني ظهر في سورية وعُرف ملحنه، كان للموسيقي مصطفى الصواف عام 1921. ففي ذاك العام كان الصواف طالباً في كلية الطب المؤسسة حديثاً. وكان موسيقياً هاوياً. وكانت سورية في تلك الآونة قد خضعت للاحتلال الفرنسي. فانتشرت بين أبناء الشعب موجة من الغليان، ووصل هذا الغليان إلى صدر مصطفى الصواف، فقام مدفوعاً بروحه الوطنية بتلحين نشيد وطني يهاجم فيه المستعمر الفرنسي. ويقول مطلع النشيد:
نحن لا نرضى الحماية
لا.. ولا نرضى الوصاية
نحن أولى بالرعاية
لبني العرب الكرام
وقدم مصطفى الصواف هذا النشيد مع الفرقة الموسيقية في حفلة للكلية.
النشيد الأهم الذي ظهر مباشرة بعد هذا النشيد. ولاقى رواجاً كبيراً بين أبناء الشعب هو نشيد (ياظلام السجن خيّم). وهذا النشيد نظمه المناضل الصحفي نجيب الريس عام 1922 عندما كان معتقلاً في سجن السيلول بقلعة أرواد مع ثلة من المناضلين ضد المستعمر الفرنسي. ولحنه الموسيقي الحلبي أحمد الأوبري عام 1925 بأسلوب النشيد وغناه المطرب صالح المحبك، وتم إعادة تسجيله بصوت المجموعة. وأحمد الأوبري لحن غير هذا النشيد عدة أناشيد وطنية أخرى، كلها ضد فرنسا. ومن هذه الأناشيد (حق الدفاع عن الحرم)، والحرم مقصود به هنا الوطن، وأناشيد (نحن يوم الروع أنصار الوطن) و(أنت سورية بلادي)، ونشيد (أوطاننا وهي الغوالي) للشاعر العراقي معروف الرصافي. وأحمد الأوبري سبق الأخوين فليفل بسنوات في تلحين نشيد (في سبيل المجد والأوطان نحيا ونبيد)، وهو من نظم عمر أبو ريشة. وعندما توفي المناضل إبراهيم هنانو رثاه عمر أبو ريشة بقصيدة عنوانها (هنانو) ومطلعها (إنه مات فداء العلم)، وقام أحمد الأوبري بتلحين القصيدة وتحويلها إلى نشيد، كما لحن الأوبري نشيداً آخر بعنوان (احفظوا عهد هنانو).
في نفس الفترة تقريباً وهي أواخر العشرينات ومطلع الثلاثينات من القرن العشرين لحن الشيخ علي الدرويش عدة أناشيد هاجمت المستعمر الفرنسي، من أهمها نشيد (الزعيم) عن إبراهيم هنانو. وعقاباً له على تلك الأناشيد منعته سلطات الاحتلال الفرنسي من المشاركة ضمن الوفد السوري في مؤتمر الموسيقا العربية الذي انعقد في القاهرة عام 1932. لكن المؤتمرين رفضوا بدء المؤتمر إلا بحضور علي الدرويش، الأمر الذي اضطر الديوان الملكي المصري إلى إرسال دعوة خاصة لعلي الدرويش باسم الملك فؤاد لحضور المؤتمر.
إلا أن العطاء الأهم في مجال الأغنية الوطنية في مرحلة الاستعمار الفرنسي لسورية، كان للفنان الكبير سلامة الأغواني الذي قدم بصوته الكثير من المونولوجات التي هاجم فيها المستعمر الفرنسي بشدة. ومن أوائل تلك المونولوجات مونولوج (الجراد). ففي عام 1927 تعرضت سورية لموجة كبيرة من جراد. فاستغل الأغواني تلك المناسبة بشكل ذكي، ونظم مونولوجاً هاجم فيه المستعمر الفرنسي. يقول مطلعه:
شو جايي تعمل ياجراد
مافينا واحد حبك
بيكفينا جراد البلاد
ارحل لاتتعب قلبك
ارحل حاجه تعذبنا
صرنا منك ممنونين
أنت جايي تساعدنا
لما تزيد البلة طين
ثم توالت مونولوجاته التي منها (أنا قلبي دايب) و(كنا صغار وصرنا كبار) و (البيت بيتنا). وفي مطلعه يخاطب الفرنسيين فيقول لهم:
البيت بيتنا والأرض لأبونا
وبأي عين جايين تنهبونا
لكن أكثر مونولوجات سلامة الأغواني ازعاجاً للفرنسيين كان مونولوج (لعند هون وبس) الذي يقول مطلعه:
لعند هــون وبـــس شـــبعتونا...... رص
شافنا الدكتور وقال منضاين يومين وبس
فالأغواني لم يتهجم فيه على الاستعمار الفرنسي فحسب، وإنما تهجم فيه على كل الدول الاستعمارية الأخرى وهي بريطانيا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية. وجاء هذا المونولوج رداً على بعض ضعفاء النفوس الذين وصفوا الاستعمار الإنكليزي أنه أرحم بالشعوب التي تستعمرها من الاحتلال الفرنسي، فجاء جواب الأغواني أن المستعمرين يقصان بنفس المقص:
جــبنا دكتور إنكليزي وجبنا طبيب فرنساوي
تنين قصوا بفرد مقص بيكـــفي لـهون.. وبس
وهذا المونولوج منعته سلطات الاحتلال الفرنسية بموجب قرار أصدره المفوض السامي الفرنسي دي مارتيل في أيلول عام1934، وحمل القرار الرقم /25/. وبسبب هذه المونولوجات دخل الأغواني سجن المزة عدة مرات، ونفي مرة إلى أفغانستان. ولابد من التنويه أن جميع المونولوجات التي قدمها الأغواني كتبها هو ولحنها له الموسيقي صبحي سعيد.
الفنان عبد الغني الشيخ قدّم بدوره مونولوجات عديدة هاجم فيها المستعمر الفرنسي. منها مونولوج يقول فيه:
حِلّي يا فرنسا حِلي
عن سورية وتخلّي
لا تهدّي بأرض لبنان
على مرسيليا ولّي
وفي مونولوج (بلا معاهدات) أظهر عبد الغني الشيخ وعياً سياسياً متقدماً، حين فنّد مزاعم الدول الاستعمارية حين توقع معاهدات مع الدول الأخرى، وكيف أن تلك الدول المستعمرة تنقض معاهدتها، وتنقض على الدول التي وقعتها معها. كما فعلت مع الشريف حسين. ويقول المونولوج في مطلعه:
بلا معاهدات بلا محالفات
بلا اتفاقات وبروتوكولات
متى مالمدفع طرق والبارود احترق
كل المعاهدات بتصفي قصاصة ورق
وعبد الغني الشيخ لاقى من عنت الفرنسيين مالاقاه الأغواني. فقد غضبت منه سلطات الاستعمار الفرنسي، وأصدرت عليه حكماً غيابياً بالإعدام عام 1932. ووصله الخبر وهو يقيم بعض الحفلات في حلب، فهرب إلى العراق. وكانت الموصل محطته الأولى لفترة قصيرة، انتقل بعدها إلى بغداد، وأمضى فيها أربع سنوات. وعاد إلى دمشق بعد العفو عنه بمناسبة توقيع اتفاقية عام 1936، بين سلطات الاحتلال الفرنسي والحكومة السورية آنذاك.
إضافة إلى هذين المونولوجَين لحن عبد الغني الشيخ العديد من الأناشيد الوطنية التي نالت شهرة واسعة حتى على الصعيد العربي، منها نشيد (أمجاد ياعرب أمجاد) الذي اتخذته إذاعة صوت العرب المصرية شارة افتتاح لبثّها، ونشيد (بكرة التار) الذي غنّاه المطرب كارم محمود، وله نشيد ثالث غنّاه الكورس، يقول:
أخي في العروبة أخي في الحياة
أخي في المبادئ أخي في الخطوب
أخي في العوايد أخي في الصلاة
أخي في النوائب أخي في الحروب
مع خروج آخر جندي أجنبي من سورية واحتفالاتها بالاستقلال، أبدع الشعراء والملحنون العديد من الأغنيات التي شاركت الشعب في احتفالاته بالجلاء، واستذكرت في نفس الوقت نضالات شعبنا وتضحياته خلال فترة الاستعمار الفرنسي لسورية. وكما شارك سلامة الأغواني في النضال ضد المستعمر بمونولوجاته، حق له أن يشارك شعبه في احتفالات الجلاء. وأول مونولوج عن الجلاء كتبه وغنّاه ولحنه له صبحي سعيد: مونولوج (اليوم العيد وبكرة العيد) وأذيع في العيد الأول للجلاء عام 1947. ويقول مطلعه:
اليوم العيد وبكرة العيد
والأفراح كل يوم بتزيد
تتهنّي ياسورية
من عام خلقتي من جديد
وأتبع الأغواني هذا المونولوج بعدة مونولوجات عن الجلاء في الأعياد المتتالية للجلاء.
وفي العيد الأول للجلاء قدمت إذاعة دمشق أغنيتين رائعتين عن الجلاء الأولى قصيدة (جلونا الفاتحين) للشاعر الكبير بدوي الجبل، لحنها محمد محسن بأسلوب سنباطي بديع وغنّتها سعاد محمد بأسلوب كلثومي أبدع. ويقول مطلعها:
جلونا الفاتحين فلا غدواً
نرى للفاتحين ولارواحا
إذا انقصفت أسنّتنا وصلنا
بأيدينا الأسنّة والصفاحا
إذا خرس الفصيح فقد لقينا
من النيران ألسنة فصاحا
والأغنية الثانية (ياعروس المجد) قصيدة الشاعر عمر أبو ريشة وأدتها باقتدار المطربة سلوى مدحت. أما اللحن فهو للموسيقي اللبناني العبقري فيلمون وهبي. ويتصف اللحن بالقوة والجمال والانسيابية. ويبدأ بهدوء عندما تشدو سلوى بالمطلع الذي يقول:
ياعروس المجد تيهي واسحبي
في مغانينا ذيول الشهب
لن تري حبة رمل فوقها
لم تعطر بدِما حرّ أبي
درج البغي عليها حقبة
وهوى دون بلوغ الأرب
ويتصاعد اللحن إلى أن يصل إلى قمته في الحماسة والحيوية في المقطع الذي يقول:
كم لنا من ميسلون نفضت
عن جناحيها غبار التعب
كم نبت أسيافنا في ملعب
وكبت أجيادنا في ملعب
وغير هاتين الأغنيتين ظهرت في العيد الأول للجلاء عدة أغنيات أخرى عن الجلاء. لكن تبقى هاتان الأغنيتان قِمتين بين تلك الأغنيات التي كانت عادية في كلماتها ولحنها وأدائها.
المصدر : الباحثون العدد 62 آب 2012