السيف الدمشقي
في مقدمة كتابه «السيوف الإسلامية وصناعتها»(1) يتحدث المؤلف عن أقدم السيوف الدمشقية المحفوظة في متحف طوب كابي في اسطنبول، سيف يعود إلى نجم الدين أيوب (ت 1173م) ويمثل هذا السيف، الشكل التقليدي للسيف الدمشقي الذي نراه أكثر وضوحاً، في سيف السلطان منصور قلاوون (ت1290) وهذا السيف ذو مقبض من الأبنوس والنصل من الفولاذ الدمشقي وعليه كتابة مكفتة بالذهب تتضمن «عمل برسم السلطان قلاوون سنة 678هـ» وهو من صنع سالم بن علي.، وفي العصر المملوكي كانت دمشق تمد القاهرة بروائع الصناعات اليدوية ويتصف مقبض السيف الدمشقي في ذلك العصر إنه مصنوع من الخشب ومغلف بالجلد، ثماني المقطع، يتسع تدريجياً باتجاه طاقيته المعدنية التي تزيّنها زخارف كتابية محفورة ونرى على الواقية الحديدية المتعامدة الشكل رسوماً زخرفية أما النصل وهو الأهم، فهو مستقيم ذو حدين، والغمد من الخشب المغطى بالجلد الأسود تزيّنه زخارف بارزة، وحلقة التعليق معدنية من الفضة وفيها دوائر تضم شريطاً كتابياً ويليها شريط من وحدات زخرفية على شكل مراوح تخيلية، ورسم هندسي على شكل نجمة في الوسط.
وثمة سيف آخر مماثل عليه نقش يشير إلى أنه يعود للسلطان محمود بن قلاوون (ت1341م) وتبدو على نصل السيف رسوم الجوهر الخاصة بالسيف الدمشقي
وينفرد المتحف العسكري في اسطنبول باقتناء عدد من السيوف الدمشقية، التي تتميز عن غيرها من السيوف بمقابضها وبأوصاف سيف نجم الدين أيوب أقدم سيف في هذه المجموعة من السيوف الدمشقية.
وهذه السيوف الدمشقية ذات واقية صغيرة، ونصلٍ مستقيم من الفولاذ الدمشقي ذو حد واحد، وشطب ضيق يبدأ من الواقية وينتهي عند طريف النصل.
صناعة الفولاذ الدمشقي
تحدث الجلدكي الذي عاش في بلاد الشام، في شرحه لكتاب الحديد لجابر بن حيان عن صناعة الفولاذ. ولكن هذه المعلومات عن صناعة الفولاذ التي أوردها الجلدكي لم تكشف لنا بعد عن سر الفولاذ الدمشقي، لأنها لن تتناول في وصفها ذكر المواد العضوية التي تضاف إلى الحديد عند صهره.
ولتوضيح ذلك لا بد من الرجوع إلى كتاب «الجماهر في معرفة الجواهر، لأبي الريحان البيروني»(2) وهو يوضح بصراحة صناعة الفولاذ الدمشقي نقلاً عن كتاب ألّفه حداد دمشقي.
ويمكننا أن نستخلص مما ورد في مصادر عربية موثوقة، طريقة صناعة السيف الدمشقي الفولاذي بالنقاط التالية:
1- أن السيف الدمشقي يصنع من الفولاذ الدمشقي المصنوع محلياً. وذلك عن طريق تفحيم الحديد المستخرج من بلاد الشام أو المستورد من خارجها وبخاصة الحديد المستورد من الهند أو من نفايات الحديد كالحدوات والمسامير.
2- ثمة شبه بين الفولاذ الدمشقي والفولاذ الهندي Wootz ولكن لكل نوع منهما طريقة صنع مختلفة.
3- يصنع الفولاذ الدمشقي عن طريق تحمية الحديد في كور أو عن طريق صهر الحديد في بواتق وسكبه، ويضاف إلى البوتقة مواد معدنية كالمنغنيز وذلك لزيادة لمعانه ومنع تأكسده.
4- إضافة مواد عضوية نباتية كالاهليلج أو قشر الرمان أو قش الرز أو الخشب أو أوراق الشجر إلى الحديد في البوتقة أو الحديد المحمّى الليّن، هذه المواد التي تصبح فحماً يختلط بالحديد ليكون فولاذاً ذا خصائص متميزة من أهمها: ظهور تنسيمات على صفحة النصال يطلق عليها اسم الجوهر أو الفرند (أو الدمار أو الدبان أو الشرايين).
5- يطرق الخليط ليأخذ شكله النهائي وهو شكل السيف المستقيم ذي الشطب والتنزيلات الجميلة والكتابات. وقد يكون سيف أسد الله من أبرز نماذج السيف الدمشقي الذي انتشر في فارس منذ القرن السادس عشر.
إن هذه المبادئ تبقى كافية لإيجاد الطريقة الحاسمة في صناعة السيوف الدمشقية، إذن التجربة والممارسة قمينة بكشف أساليب هذه الصناعة كشفاً نهائياً. ونحن ندعو مراكز الأبحاث في العالم للعمل على إنتاج الفولاذ الدمشقي ومن ثم السيف الدمشقي.
والجوهر: مجموعة تمشيحات على نصل السيف تدخل في صناعة الفولاذ دون تدخل من الصانع أو النقاش, وتبدو هذه التمشيحات على شكل خطوط حرة ذات ألوان قزحية، أو على شكل خطوط وبقع دائرية أو متعرجة وغالباً ما تبدو على شكل أمواج أو غيوم لونية. وقد يطلق عليها اسم «السفسفة» أو «الفرند» أو «ماء السيف».
وسبب تنوع صيغ الجوهر كيفي يفاجئ الصانع إلا إذا ستطاع التحكم في نسب الشوائب التي تختلط بالفولاذ كالكربون والسيلسيوم والكبريت والفوسفور وقشر الرمان، أو التحكم في درجات الحرارة عند الإسقاء والإحماء.
انتشار جوهر السيف الدمشقي
انتقلت صناعة السيف الدمشقي إلى حلب، يشهد على ذلك سيف السلطان حسام الدين لاجين (ت1299م) كما انتقلت هذه الصناعة إلى مصر، إذ اعتادت دمشق في العصر المملوكي أن تمد القاهرة بالسيوف الدمشقية وكان من أشهر صناع السيوف إبراهيم المالكي، وفي متحف طوب كابي سيف رائع مصنوع نصله المقوس من الفولاذ الدمشقي صُنع للسلطان الظاهر قانصوه الغوري (ت 1515م) ومقبض هذا السيف حلزوني والواقية من الفضة متعامدة الشكل مطلية بالذهب وعلى وجهي النصل رسوم خرافية ونباتية محفورة ومكفته بالذهب. وفي متحف طوب كابي سيف للسلطان قايتباي(ت 1496) ويبدو الجوهر متآكلاً فيما عدا التكفيت الذهبي.
وانتقل السيف الدمشقي إلى الغرب عن طريق الصليبيين تحت اسم Damascinage.
انتشار السيف الدمشقي
ومن أبرز نماذج هذه السيوف، تلك التي كانت للخلفاء الأمويين وهي سيوف متميزة صنعها العمال الدمشقيون، مازال بعضها محفوظاً في متحف طوب كابي سراي في اسطنبول من أهمها:
1- سيف معاوية وهو سيف مستقيم.
2- سيف عمر بن عبد العزيز مؤرخ في عام 100? ومنقوش عليه اسمه واسم الصانع ولكنه غير مقروء.
3- سيف منقوش عليه تاريخ 105? مع اسم هشام بن عبد الملك.
4- سيف مستقيم عليه اسم سعد بن عبادة من الصحابة مع كتابات ودمشقة متأخرة.
5- سيف عليه نقوش متتابعة لأسماء عمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد والسلطان قايتباي.
ولقد استمرت صناعة السيوف الدمشقية رائجة معروفة في العهد العباسي تحدث عنها الكندي ووصف صناعته تحت اسم الجوهر. ولكن هذا الوصف لم يكن كافياً للتعرف على أسرار الصناعة.
وانتقلت السيوف الدمشقية وطريقة صناعته إلى الأندلس، ولقد عُني عبد الرحمن الثاني (822-852 م) بتشجيع صناعة السيوف في طليطلة وفي الميريا التي قطنها الدمشقيون خاصة، وتحدث عن سيوفها المقري، وقال إنه خلال القرن الثاني عشر فإن الميريا كانت من أشهر المدن في صناعة السيوف والأسلحة وكذلك الأمر في إشبيلية، فيما عدا قرطبة.
وهكذا انتقل السيف الدمشقي إلى الغرب عن طريق الصليبيين كلمة Damascening لكي تعني السيف الدمشقي، كما اشتهرت صناعة السيوف الدمشقية تحت اسمDamascinage.
ولقد تعرضت صناعة السيف الدمشقي منذ عام 1400 إلى الانحطاط بفعل ثلاثة عوامل هي:
غزو تيمورلنك وانتقال الصنّاع السوريين المهرة إلى سمرقند ووفرة الفولاذ الصناعي.
صنّاع السيف الدمشقي
لا بد أن نقف عند إبراهيم المالكي صانع السيف الدمشقي الشهير في نهاية العصر المملوكي، والذي انتقل إلى اسطنبول بعد امتداد السلطان العثماني على سورية ومصر في العام 1517.
وكان إبراهيم المالكي قد ترك لنا عدداً من السيوف الدمشقية للسلطان المملوكي قانصوه الغوري وغيره، وكان اسمه منقوشاً على نصال هذه السيوف ومختوماً على سيلاناتها.
ومن صناع السيوف (يوسف سنقر) الذي صنع سيفاً من الفولاذ الدمشقي في العام 1585م للسلطان العثماني قدم للسلطان بايزيد الثاني (ت 1511) عشرة سيوف وأربعة خناجر في اثنتي عشرة مناسبة مختلفة، وتعود عائلة سنقر في سورية إلى جدهم الكبير حاجي صونقور الصانع المملوكي الشهير الذي ترك لنا أكثر من أربعين سيفاً تحمل اسمه، وكان له مصنع خاص في اسطنبول يمد السلاطين بإنتاجه. وفي اسطنبول حصل على إنعامات تتراوح بين 1500-2000 أقجة وخلع عليه السلطان ذات مرة، قفطاناً مصنوعة من قطيفة بورصة(2). ولم يكن هذا الصانع الماهر محسوباً على الصناع العثمانيين الأتراك، بدلالة عدم ذكر اسمه في سجلات الأرشيف العثماني. ونظراً لشهرة هذا الصانع، فلقد حملت بعض السيوف اسمه مزوراً على إنه حاجي صونقور.
ومن الواضح أن حاجي صونقور انتقل من الشام إلى اسطنبول وأقام منها فترة، وكان قد صنع في الشام مجموعات من السيوف منها سيف للسلطان الغوري من الفولاذ الدمشقي.
البحث عن سر الجوهر الدمشقي
مازالت صناعة الجوهر سراً لم يكتشف تماماً وتحاول مصانع اليوم التعرف على طرائق صنع الفولاذ الدمشقي ونتائجه الزخرفية الطيفية القزحية. فرأت أنها تمر بمراحل متعاقبة:
1- تشكيل مادة الحديد أو الفولاذ على شكل نصل بواسطة الطرق على السندان.
2- وضعها في نار كور مرتفع الحرارة لتحمئتها ومتابعة طرقها لتكوين شكلها كنصل مستقيم أو منحنٍ.
3- مسح النصل وتنظيفه بحجر الجلخ والمبرد ليضع الحد القاطع في النصل من جهة واحدة أو من جهتين.
4- تنظيف النصب بالأحماض ودهنه بمادة «الشحيرة» لتثبيت لون المعدن وحمايته من الصدأ.
5- التحمئة ثانية وسقاية النصل بالماء إذا كان من الحديد فيتخذ صلابة الفولاذ أو سقايته بالماء والزيت بنسبة متكافئة إذا كان النصل من الفولاذ أصلاً.
6- الوصول إلى مرحلة الجوهر، وهي مرحلة مازالت خاصة بالصانع وسراً عنده تختلف بمعايير ونسب مواد السقاية ودرجات التحمئة.
وليس بين أيدي المؤلفين الذين تحدثوا عن ا لسيوف العربية معلومات كافية عن مشاغل السيوف هذه، وعن طريق الدمشقة، مما دفع بعض الباحثين إلى الاعتقاد أن هذه التسمية لا تعني صناعة السيوف بل تجارتها.
غياب السيف الدمشقي:
يتحدث الكندي(4) عن السيوف الدمشقية فيقول، عرفت تلك بجودتها منذ القدم. وامتازت نصالها بقطعها الجيد، إذا كانت على سقايتها الأصلية.. والسيوف الدمشقية أقطع جميع السيوف المولدة. وتتراوح أثمانها بين خمسة عشر درهماً إلى عشرين.
استمرت صناعة السيوف الدمشقية رائجة معروفة في العهد العباسي تحدث عنها الكندي ووصف صناعتها تحت اسم الجوهر.
ثم تعرضت صناعة السيف الدمشقي منذ عام 1400 إلى الانحطاط بفعل غزو تيمورلنك وانتقال الصناع السوريين المهرة إلى أصفهان ووفرة الفولاذ الصناعي. ومع ذلك فلقد استمرت صناعة السيوف والنصال في دمشق حتى القرن الماضي، ثم انقرضت هذه الصناعة عندما بدأ الفولاذ الأوربي الرخيص الثمن والذي تقل جودته عن الفولاذ الدمشقي بغزو أسواق الشرق.
وانقرض صناع الفولاذ والسيوف الدمشقية وانطوى سر هذه الصناعة الشريفة التي تميزت بها دمشق عبر العصور.
هوامش:
*باحث في الجمالية العربية وتاريخ الفن
(1) أونصال يوجل: السيوف الإسلامية وصناعتها نشر مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باسطنبول- نشر الكويت 1988م ترجمة تحسين عمر طه أوغلي وتقديم أكمل الدين إحسان أوغلي.
(2) د. أحمد يوسف الحسن: صناعة الفولاذ الدمشقي محاضرة في حلب 1972.
(3) البيروني أبو الريحان: الجماهر في معرفة الجواهر، مخطوط الاسكوريـال رقم 9054
(4) انظر: رسالة الكندي، السيوف وأجناسها طبعة ليدن 287.
المصدر : الباحثون العدد 62 آب 2012