الجذور الحضارية لفن الأيقونة في سورية:
منذ عصور ما قبل التاريخ في سورية، أخذت تنشأ لدى الإنسان العاقل أسئلة وأفكار أدّت إلى السعي في تجسيد المشاعر والمعتقدات عبر فنون النحت والرسم والحفر، وما يمكن تسميته الرسم أو التصوير الجداري، وكان جلّ هذه الرسومات معبّراً عن مضامين ميثولوجية في أماكن تتسم بالرهبة، كالمغاور التي تجسّد الفكرة الأولى للمعابد
وإثر انتشار المسيحية في سورية، وبعد أن أصبحت الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية الشرقية- تطورت الوسائل التي ساهمت في نشر تلك العقيدة بدءاً بالرسوم الجدارية والفسيفسائية دون أن تطغى على الأيقونات المنقولة المرسومة على لوحات خشبية – لسهولة تغيير أماكنها, ولأنها أكثر ثباتاً واستمراراً إذا ما قورنت بالجداريات المعرّضة للتخريب والزوال إثر الزلازل والحرائق والتهشيم إضافة إلى الأحداث الحربية والسياسية.
ولعل بداية هذا الفن, أو فكرة الرسم على قطع خشبية صغيرة كانت توضع داخل علب معدنية قد نشأ في العصرين اليوناني والروماني، عندما قام الفنانون برسم الوجوه الإنسانية على لوحات خشبية كانت تثبت للتعريف بالمتوفى, على عادة المصريين القدماء, وقد سار على نهجهم مصريو العصر القبطي الذين تركوا صوراً وآثاراً محفوظة بالمتحف القبطي بمصر، ومن الجدير بالذكر إنه لا يوجد خلاف بين هذا الأسلوب وأسلوب أقدم الأيقونات، وجاراهم في نهجهم هذا فنانون سوريون صوّروا الآلهة والأرباب بتصاميم وأشكال نافرة أو غائرة، وهذا يعني أن جذور هذا الفن - من تفريغ أو تجسيم ضارب في أعماق التاريخ - تعود إلى ما قبل المسيحية, إلا أنه تطور بشكل كبير مع الديانة المسيحية التي اعتمدته كأداة إقناع لقلب مفاهيم المعتقدات الوثنية ليحل مكانها مفهوم الدين المسيحي الجديد
الأيقونة تعريفا ًونشأة
أوردت الوثائق التاريخية مجموعة متباينة من التعاريف للأيقونة لكنها تُجمع على أن مصدر هذه الكلمة يوناني وهي مشتقة من الفعل "Eiko" وتعني شابه أو ماثل والأيقونة مصطلح متعارف عليه بالكنيسة الشرقية للدلالة على الصور المقدسة وكُرست الأيقونات في العصر الكلاسيكي (اليوناني – الروماني البيزنطي) كوسيلة تعليمية دينية لشرح محتوى الفكر السائد فيما يتعلق (بالفداء والخلاص والرجاء, وقد استمر هذا الأمر في الكنيسة الشرقية حتى اليوم).
وكانت الأيقونات تنفذ بالدهان أو الفسيفساء أو بمواد أخرى مثل المينا والعاج والنسيج والزجاج، أما في العصر الحديث فعُرفت الأيقونة بأنها (اللوحة الملونة القابلة للنقل ولاسيما الخشبية منها والتي نُفذت عليها صور ملونة للقديسين تعلق في الكنائس على جدار الأيقونسطاس).. لذلك نستنتج تشابهاً بين المدلول القديم والمدلول الحديث للأيقونة لأن القيم الجمالية لهذا الفن واحدة وجوهره الروحي واحد, نظراً لكون هذا الفن بيزنطياً بالدرجة الأولى لأن جلال الإمبراطورية قد نمّاه، واستمرارها حضنه بغض النظر عن الفترات التي اعترت مسيرة الأيقونة من تحريم في قرونها الثلاثة الأولى, ثم ازدهارها حتى القرن السادس الميلادي انتهاءً بالحرب التي شُنت عليها طوال القرن الثامن والربع الأول من القرن التاسع وما رافق ذلك من تدمير وتحطيم طال الأيقونة مصاحباً المؤمنين بها بالملاحقة وإلحاق الأذى بهم.
فالعهد المسيحي تلقى من الماضي عادات فنية راسخة إلا إنه نزع عن هذا الفن صفة العبادة القديمة, وأسبغ عليه الصفة المسيحية. 
وقد جرت العادة أن يمثل الفنانون حوادث العهد القديم منذ بداية الفن المسيحي كمشاهد إبراهيم وهو يهم بالتضحية بابنه إسحاق, ودانيال في فم الأسد, وكذلك حوادث الإنجيل مثل طفولة السيد المسيح ومعجزاته وصلبه كما اهتم الفنانون بتمثيل الانبعاث وحساب اليوم الآخر, ومراحل حياة السيدة العذراء كموتها ودفنها, إلا أن أكثر المواضيع تمثيلاً كانت حوادث حياة السيد المسيح منذ البشارة فالميلاد فالتعميد والدخول إلى القدس, فالصلب, والدفن, فالانبعاث والصعود إلى السماء.
ومثال ذلك ما هو موجود في رسوم جدارية في كنائس دورا أوربوس والتي تعد من أهم الرسومات الجدارية المسيحية الموجودة بسورية والتي تشكل الجذور الأولى لفن الرسم المسيحي وتقدم الأصول الحضارية الباكرة للنهضة المسيحية اللاحقة بالفن البيزنطي حيث شكلت امتداداً طبيعياً وزمنياً وفنياً للبيئة الفنية السائدة آنذاك بسورية خلال القرون الماضية، ويتضح ذلك بشكل خاص في رسوم المدافن التدمرية ولاسيما ما هو موجود في مدفن الإخوة الثلاثة العائد للقرن الثاني /146/ م.
كما اعتبرت الأيقونوغرافيا التدمرية بما فيها من تقنيات خلط الألوان والأساسات المكونة من جزء كبير من الجص والرمل والمنغنيزيوم والتراكيب المعدنية كأكسيد الحديد بلونه الأحمر والأسود والمنفذ بدون استخدام رابط عضوي ذات صلة وثيقة بالرسومات الجدارية المعتمدة في دورا أوربوس, والبعيد في تقنيات تنفيذها من أسلوب الفريسك الروماني بالرغم من التشابه الواضح في استخدام أساليب الرسم الموجودة, فالإبرة والفرجار لرسم الدوائر قبل تلوينها هو ذات الأسلوب الذي ساد في بلاد فارس منذ عهد القديم.
ولعل نتائج المقارنة فيما بين الرسوم المسيحية البيزنطية الأولى بشكل عام مع ما هو موجود في رسوم المدافن التدمرية يؤكد وحدة التأثر المستوحى في الأسلوب والتقنيات الفنية المتبعة في سورية وصولاً إلى رسوم الأيقونات التي تجلت فيما بعد بالفن القبطي المصري كما تؤكد الدراسات الحديثة على أن نمطية التشكيلات الزخرفية والرسومات الجدارية من حيث تنفيذ الأشخاص وتقنيات الألوان نجدها في رسوم مدفن الإخوة الثلاثة بتدمر وهي:
واحدة تقريباً مع ما تم العثور عليه في دياميس الكنائس البيزنطية.
إلى جانب هذه الفنون تجلت فنون أخرى من خلال تقنيات تزيين الكتب الدينية والمخطوطات وهو ما عرف بالمنمنمات ذات الألوان البراقة ولعل أهمها مخطوط رابولا السرياني الذي كتب وزين في دير قرب أفاميا (586) م والمحفوظ في متحف فلورنسا بإيطاليا.
وإن أردنا أن نتعرف على الأيقونة من الناحية الروحية فهي وسيلة تعليم بالصورة وبالشكل وباللون (وسيلة تمجيد بألوان, وتسبيح بأشكال, وتعليم بصور) فهي تظهر الأشياء المقدسة التي توحي بالماورائيات, دون الاقتصار على جمالية اللوحة أو مدلولها الديني فحسب, وتحظى في قيمتها الفنية بإطارها الديني, في حين أن معناها الروحي العميق يتم استكشافه بشكل تدريجي, لذلك تعتبر الأيقونة لاهوتاً جمالياً, لا يفتش راسمها عن الجمال الفني بل يستخدم الجمال ويلعب على وتر عبقريته لكي يثير الانفعالات الروحية ويحرك العواطف الكامنة مولداً الإيمان في قلب المشاهد والمصلي معاً.
وقد تبنت الكنيسة الشرقية فكرة الأيقونة مصورة إياها بحلة إلهية روحانية بعيدة كل البعد عن المفهوم التصويري الدنيوي العادي فهي لا تصور الحضور الإلهي فحسب بل تحضن أيضاً انعكاس هذا الحضور, حيث نرى – مثلاً- أيقونة السيد المسيح تصور المسيح ذا الملامح الإلهية الذي يشبه الإنسان في المطلق ولكن لاشبيه له بين البشر على الإطلاق, وذلك لأن العقيدة المسيحية تؤمن بأن السيد المسيح هو الإله المتجسد في جسد بشري, ومما لاشك فيه أن التصوير الأيقوني هو تصوير إيمائي وتعبيري في آن معاً يستمد رمزيته من الفعل الإيمائي المتجسد في النفس والمتأتي من التعاليم الإنجيلية ومن سِيَر القديسين التي تظهرها الأيقونة.
فتبدو الصورة المقدسة بمظهرين: مظهر خارجي طبيعي يبدو للعيان، ومظهر رمزي سري يحاكي النفس, تبرز معانيه من خلال الألوان لأن للألوان لغتها الرمزية وللتصوير دلالته المعنوية ولابد من الإشارة أن المسيحيين الأوائل قد استفادوا من مصادر عديدة أظهرت تلك الرموز واعتمدوها تعبيراً عن إيمانهم فمن الوثنية مثلاً أخذوا السفينة رمزاً للكنيسة والطاووس رمزاً لجمال الفردوس ورمز السمكة يدل إلى السيد السيح ومن الرموز المرساة والحمامة وهذه الرموز وتلك المعاني ماثلة على الدوام نصب عيني المصور المسيحي البيزنطي.
وقد لا يفوت الأيقونوغرافي المكانة التي تشغلها الألوان في عمله والدلالة التي تتركها في عين متلقيها, وما توحيه من أفكار وحدس لمضامينها وتناغمها, وما تخلقه تدرجاتها من كلام وتعبير يقصد إثارته في نفس المشاهد إذا ما علمنا بأن الأيقونة هي خطاب يؤرخ للإنجيل المقدس, ويروي حكاياته وعِـبَـره بواسطة الريشة واللون اللذين يشكلان المشهد, فهذه الألوان ارتقاء من المنظور لتشير إلى غير المنظور الذي لا يحجم، فالأحمر القاني يوحي بالحياة الدنيا لأنه لون الدم, ولون النار التي تذكِّر بالثواب والعقاب في آن معاً 000 فيما اللون البني يشير إلى التقشف والزهد, بينما اللون الأخضر هو لون الطبيعة وتجددها الذي يشير إلى التجسد الإلهي في السيد المسيح, في حين أن اللون الأزرق بدرجاته لون ملوكي يوحي بالمجد والقدرة, أما اللون الأسود فيوحي بالغياب والموت والجحيم..
ويأتي اللون الأبيض الناصع الثلجي ليبهر الفنان من خلاله الأبصار، ويعد الأصعب من بين الألوان, كما أن إتقانه مصدر بهاء للأيقونة مما حدا بأحد الفنانين بالقول: (أمنيتي أن أتقن اللون الأبيض).
لذلك فقد لعبت الأيقونة دوراً مهماً في العبادة, فهي أولاً يصلى أمامها وتطلب عبرها المساعدة من القديسين الذين تصورهم, كما أن الأيقونة موجودة في بيوت المسيحيين للبركة وللصلاة أمامها، وتُضاء لها الشموع وقناديل الزيت المقدس إيفاءً للنذور، وترافق الأيقونة المؤمنين في سفرهم إضافة إلى الكتاب المقدس وكتب الصلوات لاسيما في الأماكن التي لا توجد فيها كنائس للصلاة والعبادة.
المراجع:
– فياض،ا سبيريدون , الفن البيزنطي ، 2007- ص2 0
– A. Grabar , Lapeinture , Byzantine , P 31, Paris 1953
–L. Brehier , Lasivilsation , Byzantine , P 236 , Paris 1970
Onasch Konrad, Liturgie und kunst der Ost kirche in stich worten , Aüflage , Germany , 1981
– L. Ousbensky , The meaning of Icons , pg 202 , Boston , 1969
– زيات, إلياس, الأيقونة والأيقنة, الموسوعة العربية، المجلد الرابع، دمشق 2001، ص 468.
- المطران خضر، جورج، الأيقونة تاريخها وقداستها، دار النهار للنشر، بيروت 1977 ص3.
– عوض الله، جرجس فيكتور, اللوحات المصورة والأيقونات، القاهرة، 1965، ص4.
• - أيقونسطاس: كلمة يونانية مركبة من أيقون أي أيقونة و ستاسيس أي موضع جدار أو حاجز خشيي أو رخامي رسم عليه عناقيد كرمة ويفصل قدس الأقداس عن صحن الكنيسة وتوضع عليه الأيقونات، وقد برع السوريون في حفر الخشب وإليهم يرجع الفضل في صنع أكثر الأيقونسطاسات الخشبية في الكنائس السورية.
– J. Varoqui , Symboles Paiens et Chretiens , P 61, 1978
– nture Byzantine , Paris,1932 E. Brihaba , la Pei
– د. بهنسي, عفيف, موسوعة تاريخ الفنون، الفنون القديمة، دمشق، ص302 .
– د. طوبال, فؤاد, التأثيرات الفنية التدمرية في الحضارة البيزنطية, مجلة دراسات تاريخية – جامعة دمشق – العددان /95/ 96-2006 ص60 .
– خوري, إيما غريب, الأيقونة شرح وتأمل, منشورات النور – بيروت 2001- ص 168.
– E. choche De La Ferte , Lemiracle des Icones , P 15, Paris , 1967
• - السفينة أو المركب هي من الرموز الفرعونية التي توضع بالقبور مع الموتى، للاعتقاد بأنها وسيلة خلاص الروح البشرية والتي تنتقل بواسطة هذا المركب إلى الإله وقد شبهت المسيحية المركب بالكنيسة التي بواسطتها تحيا البشرية وترث الحياة الأبدية مع الله .
- حلاق، سامي اليسوعي, رمز السمكة عند المسيحيين– موسوعة المعرفة المسيحية.
– قضايا /4/ دار المشرق,ط (1) 1994– ص5- .
– ساعاتي، نجيب مخيائيل، مجلة النعمة، السنة الرابعة، 1963 عدد 39, ص 11.
• - الحمامة ترمز إلى السلام والبساطة المسيحية كما يرى البعض أنها ترمز إلى السيد المسيح وإلى صعوده ويقول الأب موترد في مقاله (معبد مدفني في حمص ص948 وتحت الصليب المرقوم في آخر الكتابة اليونانية صورة طائر أرادوا به الحمامة المرموز بها إلى خلود النفس المسيحية).
- هبي إنطوان, الصور المقدسة والأيقونات, مرجع سابق– ص106-.
– J. L. Marion , L'Idole et la distance , P 25 , Paris , 1977
- هبي إنطوان, الصور المقدسة والأيقونات, مرجع سابق– ص106-.
المصدر : الباحثون العدد 62 آب 2012