)، كما هو حال المدخلات الخاصة بالعلاقة مع باقي أفراد الأسرة والخاصة بالتعلم والتي تؤثر في نماء الدماغ بطرق أكثر تنوعاً وأقل تحدداً بالتوقيتات.
وهذا أمر يستقيم مع الملاحظات النفسية التقليدية التي تؤكد على أهمية السنوات الأولى من عمر الإنسان، والتي، غالباً، ما يعتقد أنها تشكل الخطوط الأساسية لملامح الشخصية الراشدة: فما نتلقاه من الآخرين المهمين وما نتبادله معهم خلال سنوات حياتنا المبكرة يخترقنا ويستقر داخلنا دون أن نملك إزاءه رفضاً أو قبولاً، أو بحسب المفاهيم النفسية الشائعة، نستدمجه في معمار نفوسنا، أي أننا، في حقيقة الأمر، نستدمج أسرنا داخلنا ؛ أنساقاً وعمليات، عناصر مفردة ومجموعات، أشخاصاً ومفاهيم،، قيماً ورموز، تحيزات وعادات، وأنظمة وتقاليد. هذا الاستدماج التجريدي المُستقرأ يمكن أن يكتسب، الآن، بعداً عيانياً مادياً أيضاً، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن دماغ الإنسان يتألف، من قرابة المئة ألف مليون عصبونة، كل عصبونة عبارة عن معالج دقيق، إلا أن هذه المعالجات هائلة العدد ليس بمقدورها أداء وظائفها ما لم يتم توصيل بعضها ببعض. بعض تلك التوصيلات جاهزة منذ البدايات الأولى، أو كما يطلق عليها البعض التوصيلات العصبونية الراسخة، ولكن قسماً كبيراً من شبكة الموصلات يتم إنشاؤها في الفترة الواقعة بين ما يسمى بالولادة الطبيعية والولادة الاجتماعية، أي بين الانفصال عن رحم الأم والانفصال عن رحم البيت عند بلوغ سن المدرسة، وهي الفترة التي يمضيها الفرد أساساً في كنف الأسرة. أي أن هذه التوصيلات تنمو وتتشابك تحت التأثير المباشر للأسرة، مما يجعل الأسرة، بكافة صفاتها وأبعادها التي سبق ذكرها، حاضرة في الشبكة الاتصالية الدماغية. وهذا يعني أن الأسرة لا تسهم في البناء النفسي للفرد من خلال صياغة قناعاته وتوجهاته وتحديداته وتفضيلاته فقط، وإنما أيضاً، جزئياً على الأقل، في تشكيل دماغه عضوياً، وتقرير الكيفية التي سيعمل بموجبها مستقبلاً. والأسرة في هذا الإطار لا تمثل نفسها فقط، وإنما يمتد من خلالها تأثير البيئة الاجتماعية بكافة أبعادها.
التطور الثاني هو التطور الحاصل في علم النفس المعرفي في السنوات الأخيرة، والمتمثل في زيادة عدد النماذج المحوسبة في الإدراك، وفي تنوعها وتطورها. وكذلك في الجدارة النسبية لنماذج الحوسبة الربطية والحوسبة الرمزية داخل علم النفس المعرفي، إذ أن هناك محاولات حثيثة للربط بينهما في أنظمة هجينة للاستفادة من جوانب القوة لكليهما وتوسيعها.
وتعد العلاقة بين الانفعال والإدراك مجالاً حديثاً في الدراسة أكد عليه علماء النفس المعرفيون بعد أن كان مهملاً من الباحثين التقليديين. وقد وسعت نتائج الدراسات المتعلقة بهذا الموضوع فهمنا لكيفية تأثير الانفعالات في تفكيرنا، واقترحت طرائق نستطيع بواسطتها تحسين أدائنا في ظل الظروف الضاغطة.
ثالث التطورات يتمثل في التقدم الحاصل في العلوم العصبية وفي تقانات استبار وتفرّس الفعاليات الدماغية المختلفة بغية التعرف على تكويناتها وموصلاتها العصبونية، وخصوصاً التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي. فقد أصبح لدى علماء الأعصاب وعلماء السلوك طائفة من الوسائل المتقدمة مكنتهم ولا زالت تمكنهم من القيام باستبارات لقياس التناشط الكمي لأجزاء الدماغ المختلفة ومعرفة أية أجزاء منه مسؤولة عن أي وجه من أوجه السلوك. وعن طريق هذه الوسائل أمكن التعرف، في سبيل المثال لا الحصر، على بعض الأدوار التي تؤديها كل من اللوزة والهيبوكامبوس والفص- قبل الجبهي- في مختلف أوجه السلوك. وفي هذا الإطار أمكن التوصل إلى واحد من الاكتشافات التي قلبت أحد أشد الاعتقادات رسوخاً، عندما تبين أن الهيبوكامبوس في الفأر البالغ "يولّد" عصبونات جديدة، وإن هذه العصبونات، بعد ولادتها وتكاملها، تهاجر إلى مناطق أخرى في الدماغ وتقوم بإنشاء توصيلاتها الخاصة جاعلة من نفسها إضافة جديدة إلى بنية الدماغ. ومن المتوقع أن تكون لهذا الاكتشاف، إن تأكد حصوله في دماغ الإنسان، انعكاسات ونتائج عميقة الأثر، عندما يصبح بالإمكان، كما هو متوقع، التحكم بإنتاج العصبونات الجديدة واختيار المناطق التي تهاجر إليها كي تعوض العصبونات الميتة أو المتعطلة أو التي تبدي اضطراباً في وظيفتها.
التطور الرابع هو بروز علم النفس النشوئي، وتمكنه من فرض وجوده على الساحة النفسية خلال زمن قياسي. يفضل علم النفس النشوئي أن يُنظر إليه على أنه نظرية حول أصول، أكثر منه، حول محتوى طبيعة الإنسان. فعلم النفس النشوئي يتفحص على نحو خاص العمليات السببية التي تقوم بإنشاء الآليات النوعية وليس الآليات ذاتها. وهو لا يطرح نفسه بديلاً عن المدارس الفكرية النفسية القائمة، وإنما يطرح نفسه إطاراً عاماً بمقدوره أن يشكل حلقة للوصل بينها. مفترضاً أن يكون بمقدور كافة المدارس الأخرى التواجد تحت مظلة تفسيراته الواسعة لأصول السلوك. وبالفعل نجد، الآن، أن العديد من المعرفيين والمحللين، في سبيل المثال، يتلاقون فيما بينهم ويقتربون من بعضهم على خلفية منطلقاتهم النشوئية. إلا أن الكثير من الحذر والقليل من الاندفاع يبدوان لا مفر منهما هنا. وهذا ما يؤكد عليه عالم الرئيسيات فرانس دي فال، مشيراً إلى أن تبني علم النفس للنشوء نظريةً موحدة لفهم السلوك الإنساني يبدو أمراً لا مفر منه، إلاّ أن الطريقة السطحية التي يقارب بها بعض الدارسين النفسانيين هذه النظرية، حسب تصوره، تثير الكثير من القلق.
وهذا الشعور ينطبق بصورة خاصة على مفهوم التكيف الذي يعني، لدى البعض، أن السمات تنشأ لمنفعة النوع. إلا أن علماء الأحياء شديدو الحذر في إطلاق مثل هذه الاستنتاجات، بينما في المقابل يفترض النفسانيون أن وجود السمة هو تكيف. فالصلع، مثلاً، عند الذكور يمكن أن يكون ذا أساس جيني ولكنه لا يؤدي، على الأرجح، دوراً في اللياقة النشوئية، ونفس الشيء ينطبق على مرض ألزهايمر. فالسمات تأتي على شكل رزمة، كما يقول دي فال، وبواسطة محتويات الرزمة بأكملها ولوحدها فقط تتوفر القدرة على البقاء والاستمرارية، وليس بواسطة سمة منفردة واحدة.
رغم ذلك فإن علم النفس، حسب قناعته، يحتاج نظرية النشوء كي توفر له أساساً لتوحيد نظرياته المتنافرة حول السلوك الإنساني. في نفس الوقت فإن علم الأحياء بحاجة إلى علم النفس ليساعده في فهم السلوك على نحو أفضل. ويتوقع دي فال أن يصبح علم النفس وعلم الأحياء فرعين لعلم واحد يصل بينهما مفهوم النشوء، وما على النفسانيين سوى تطبيق ذلك المفهوم على الكائن الحي بأكمله وليس على جزء منه.
هذه التطورات أثارت وسوف تثير، على الأرجح، العديد من التداعيات التي تجعل من بعض المنطلقات النفسية أوساطاً اتصالية بين العلوم الإحيائية والعلوم النفسية والاجتماعية، منها الآتي:
يتصف علم الإحياء المعاصر، في جانب منه، بأنه علم أَحياء التركيب المنظم، لذا فإن علم الأحياء النمائي هو علم أحياء التركيب المنظم التراكمي أو المتزايد. عندما بدأ فرويد يكتب أفكاره في بداية القرن المنصرم لم تكن بنية التركيب المنظم حاضرة في ذهنه، إذ كان منقاداً لروح عصره، وكان أفق نظرته متحدداً بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية والإنتروبي(2)، وأفكاره كانت متوافقة مع البرامج المعلنة للعلوم الإحيائية آنذاك، أي في توجهها نحو تفسير السلوك وفق مقتضيات قوانين الكيمياء والفيزياء المعروفة في حينها.
معطيات المنظور العلمي المعاصر، على العكس، تؤكد على التركيب المنظم المتزايد والمتنامي. فالنماء الإحيائي يتجه تصاعدياً وليس تنازلياً، لذا يمكن فهم النماء، الآن، في ضوء "النيكنتروبي"، فضلاً عن أن النماء في كليته يتضمن الأفعال المتآزرة وتبادلها بين الفرد والمحيط. هذا التداخل والتفاعل يقع أو يحدث في مستويات متباينة ومتزايدة من التركيب المنظم. ولكن رغم تحدد فرويد في الزمان والمكان، فإن بعض استنتاجاته واستبصاراته النمائية جدير بالملاحظة في أيامنا هذه. وبتأويلها وفق المصطلحات المعاصرة يمكن استخدامها لأغراض التجسير فيما بين فروع المعرفة. ومن أمثلة ذلك ما يتعلق بالمراحل النمائية الدوافعية - الانفعالية (النماء النفس ـ جنسي) والتي شكلها فرويد في العام ( 1905) ؛ فإذا ما حاولنا فهمها بلغة الأنساق النمائية، يمكننا اعتبار المراحل الطفلية المبكرة مستويات أولية متعاقبة من التركيب المتلاحق المنظم يقوم تحت تأثير تحولات المراهقة، بإعادة تنظيم تراتبي مركب للمستويات الأولية المبكرة، الفموية والشرجية والقضيبية(3). وهذا التأويل يمكن أن يملأ جزءاً من الفجوة بين البعد الإحيائي ممثلاً في الفسلجة العصبية والإيثولوجيا من جهة والبعد النفسي ولاحقاً الاجتماعي الحضاري من الجهة الأخرى، الأمر الذي يؤدي إلى مستويات أكثر تركيباً عن طريق الأفعال المتآزرة كما هو حال مراحل النماء النفسي الاجتماعي لأريكسون. لذا يمكن القول إنه بمقدور التفسيرات القادمة من التحليل النفسي والظاهراتية الوجودية والاتجاهات المعرفية أن تقدم مساهمات حيوية في فهم أفضل لتأثيرات النماء والخبرات الفردية والبيئية. وهو أمر من المرجح أن يؤدي إلى تقارب هذه المنظومات الفكرية من بعضها بعضاً، فضلاً على اقترابها مجتمعة من العلوم الإحيائية.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك التقارب ما يحصل الآن في مجال دراسة الانفعالات، إذ يشير الكثير من الباحثين إلى أن الانفعالات عابرة للتفرعات الفكرية والتخصصات العلمية لأنها تنبع من وتعبر عن نفسها على صعيدين: نفسي (السلوك) وإحيائي (الفسلجة). ولا بد إذا ما أريد فهمها بصورة مناسبة من التحري عنها في الجانبين السلوكي وفسلجة الدماغ.
والنظرة السائدة الآن هي أن الدراسات ذات النوعية العالية التي يجب إجراؤها في مجال الانفعالات تتطلب أن يكون الأشخاص الذين يدرسونها من منظور العلوم العصبية ملمين بأسس العلوم النفسية والاجتماعية ومقارباتها. لذا فهم بحاجة إلى جهد من طراز متقدم في مجال السلوك لتعزيز إنجازاتهم البحثية في مجال العلوم العصبية. في المقابل فإن على دارسي السلوك تنمية معلوماتهم وخبراتهم العملية في مجال العلوم العصبية. ويشعر الجميع الآن بأن الحدود والمحظورات بين المنظومتين العلميتين والتي بقيت سائدة حتى وقت قريب يتعين أن تزال، لأن ذلك أمر لا غنى عنه في ترقي المعايير العلمية للمنظومتين.
ولم يعد الكثير من علماء الأعصاب يترددون في الإشارة إلى تأثرهم الشديد بأسس المقاربات النفسية والإيثولوجية والنشوئية للانفعالات، بعد أن احتكوا بها خلال الأعمال المشتركة مع ممثلي تلك المقاربات. فقد أخذوا يعترفون على نحو متزايد بأنها علمتهم البحث عن وظيفة السلوك ودراسته من خلال سياقات ذات معنى، مثل السياقات العلائقية والدينامية الاعتمالية؛ بتعبير آخر الدراسة المعمقة للسلوك بدلاً من الاعتماد أحادي التوجه على ما يقرره الشخص موضوع البحث.
وعلى خلاف ما كان دارجاً فإن العاملين في مجال العلوم العصبية لم يعودوا يعدون العلوم النفسية والاجتماعية أرضاً رخوة لا تقدر على إسناد البحوث الجادة وصاروا أكثر تقديراً للدقة والمتانة التي تؤدي إليها المقاربات المشتركة.
ويعلق بول إكمان في هذا المجال بالقول ؛ إن المعرفة لا تدين لمنظومة علمية واحدة. فالانفعالات، على سبيل المثال، موضوع يتعدى ويتحدى العديد من منظومات العلوم- علم الاجتماع، علم النفس، علم الإنسان، وعلوم الأعصاب ـ، لذا فهي لا تنتمي إلى منظومة علمية واحدة، ناهيك عن فرع من فروع علم النفس. والسلوك ـ بالمعنى الواسع لمفهوم السلوك ـ هو نتاج للدماغ، وأثناء المضي في استكشاف الدماغ فإن أموراً غاية في الأهمية والإثارة من المرجح أن تتكشف. لذا فالاضطرابات النفسية والانفعالات والشخصية والإدراك والتعلم جميعها عناوين كبيرة في علم النفس يتعين على الباحثين فيها أن يكونوا على صلة وثيقة بما يمكنهم تعلمه عن الدماغ.
في المقابل جعلت هذه التطورات البعض يتوقع أن يفقد علم النفس مكانته لصالح العلوم الإحيائية والعصبية. ولكن، حسب اعتقادنا، قد يكون بمقدور "البيولوجيا" الجزيئية والعلوم العصبية إيضاح كيف يحدث هذا السلوك أو ذلك الانفعال أو تلك الفكرة، ولكن علم النفس سيبقى الوحيد القادر على إخبارنا لماذا يحدث كل ذلك.
هوامش
1- يرى بعض الباحثين أن عمل الدماغ البشري، نظراً لعدد العصبونات وتوصيلاتها الهائل، لا يمكن التحاسب معه إلا في ضوء ميكانيكا الكم، ولا يجوز النظر إليه وفق متصل النسبية الزمان ـ مكاني، الذي يبدو فيه عمل الدماغ وكأنه إطارات شريط سيمي تمضي أحداثه من الماضي إلى المستقبل مروراً بالحاضر بتتابع منطقي مقرر سلفاً. ولكن وجهة النظر هذه من شأنها، بحسب باحثين آخرين، أن تلقي عمل الدماغ البشري في دوامة اللايقين.
2- يمكن إيضاح الإنتروبي entropy كما يلي: يفيد القانون الثاني للديناميكا الحرارية بأن الطاقة تنحط من أشكالها العليا القابلة للاستثمار في شغل إلى أشكال أدنى تكون فيه مقيدة وغير قابلة لمثل ذلك الاستثمار. وقد سمي هذا الانحطاط في الطاقة إنتروبي، وعكسه نيكينتروبي أو الإنتوبي السالب، ومن أمثلته قيام النبات باستخدام ضوء الشمس في بناء أشكال أعلى من الطاقة. وكان عالم الفيزياء إروين شرودنكر قد أوضح أن واحدة من الصفات التي تميز الأنساق الحية عن سواها في العالم المادي هي قدرة "التغذي على الإنتروبي السالب.
3- إذا سلمنا بأن بنى الدماغ وعملياته تتصاعد، خلال مسيرة حياة الفرد، من الأولي المبسط إلى الثانوي المركب ومن اللانوعي إلى النوعي ومن اللاتخصص إلى أعلى مراتب التخصص، يمكننا القول إن العمليات الدوافعية (الغريزية) والانفعالية على مستوى نوى اللوزة والتكوينات ذات الصلة تكون ابتداءً بسيطة لانوعية وليست متخصصة تماماً، أي أن وظائفها مختلطة متداخلة وغير متميزة. لذا يمكن للدوافع الفموية والجنسية والعدوانية البدائية والفجة أن تتبادل التعبير عن نفسها بصورة مختلطة ومتداخلة مع بعضها بعضاً. ولا يتحقق التمايز والتخصص إلا عبر المرور في كافة المراحل النمائية وبالتفاعل مع البيئة. من هنا يمكن القول إن المراحل النمائية الفرويدية هي أفعال متآزرة على المستوى العصبوني البنيوي والأسري، بينما مراحل أريكسون النمائية هي أفعال متآزرة على المستوى الاجتماعي الحضاري. والاثنان يمثلان متصلاً مستمراً من التخصص والتركيب والنماء التراكمي.