كثير ما يقترب مني البعض بتردد بعد محاضرة أو ندوة، متسائلين عن الخجل من قبيل: هل يمكن أن يكون المرء خجولاً بالولادة؟ ما دور التنشئة الوالدية والبيئة الاجتماعية فيه؟ كيف يمكن التغلب عليه؟ وغيرها من التساؤلات مما يوحي بأن الخجل واحد من المشاغل التي تقض مضاجع الكثيرين.
دعونا نبدأ بتناول السؤال الأول، يؤكد الكثير من الباحثين في موضوع الخجل، وفي مقدمتهم برناردو كاردوجي مدير معهد دراسات الخجل في جامعة إنديانا الأمريكية، بأن جواب السؤال هو كلاّ، قطعياً. إذ، حسب رأيه، لا يمكن أن يكون الخجل موجوداً بالولادة. والسبب الأساس يكمن في أن الخجل يتصف بثلاثة معالم رئيسة هي: انتباه زائد للذات وانشغال مفرط بها وتقويم سلبي لها.
هذه المعالم الثلاثة تنطوي جميعاً على وعي للذات. وهذا الوعي لا يتوفر إلا في حوالي سن 18 شهراً. وبما أن الناس لا يولدون ممتلكين وعياً للذات، لذا فهم لا يمكن أن يكونوا خجولين عند الولادة. عندما نطلق حكماً مثل هذا، فإن السؤال التالي الذي يتبادر نمطياً إلى الذهن هو: كيف نعرف أن الناس لا يمتلكون وعياً للذات عند الولادة؟
هذا السؤال لم يشغل بال الباحثين في مجال الخجل فقط، ولكنه أيضاً جذب إليه انتباه العديد من كبار المفكرين بمن فيهم جارلس داروين، ففي نهاية سبعينات القرن التاسع عشر، اقترح داروين الأطروحة القائلة بأن أصول وعي الذات تبدأ عندما يصبح الطفل قادراً على تعرف نفسه في المرآة. وقد أبانت الأبحاث اللاحقة التي تناولت الأطفال الرضع أن العلامات الأولى لوعي الذات تظهر على ما يبدو في حوالي الشهر السادس من العمر، وتأخذ بالتعزز تدريجياً وتصبح أكثر صفاء ودقة في مدة إضافية تقدر بحوالي السنة. وبتعبير أكثر تحديداً، لوحظ أن الطفل، في حوالي الشهر السادس من عمره، عندما يوضع أمام مرآة يمد يده محاولاً لمس صورته المنعكسة كما لو كانت تخص طفلاً آخر. وبعمر حوالي ثمانية عشر شهراً يبدأ تعرف الصورة المنعكسة في المرآة على أنها صورته. ولكن، كيف نعرف أن الطفل يتعرف حقاً على نفسه في المرآة ولا يقوم بمجرد مد يده للمس صورة طفل آخر يؤدي نفس حركاته؟
للإجابة على هذا السؤال رسم الباحثون بقعة حمراء على أنوف الأطفال ووضعوهم أمام المرايا، فوجدوا أن الأطفال في حوالي سن 15 – 18 شهراً يلمسون أنوفهم وليس الصورة المنعكسة في المرآة عندما يرون البقعة الحمراء. لذا فإن الأطفال في حوالي هذا السن لديهم، غالباً، انطباع عما يتوجب أن تكون عليه ملامح وجوههم، وأن الفضول ينتابهم عند حدوث أي تغيير عليها.
ورغم عدم وجود مؤشرات على أننا نولد خجولين إلا أن هناك دلائل تشير إلى أن 15 – 20 بالمئة من الرضع يولدون مع ما يسميه جيروم كاغان الباحث في جامعة هارفارد وزملاؤه "المزاج المكفوف"1 الذي يشار إليه بحسبانه صفات "بايولوجية" خاصة يولد عليها الناس وتكون ذات تأثير على سلوكهم في مبكر حياتهم، خصوصاً في الأشهر المعدودة الأولى منها. ويتصف الرضيع الذي يولد بمزاج مكفوف بردود فعل فسلجية وسلوكية زائدة للمثيرات الجسمية والبيئية، إذ إنه، في سبيل المثال، يلوح بساقيه وقدميه أكثر ويظهر معدل دقات قلب أسرع ويبكي لمدة أطول وبصوت أعلى عند تعرضه لضوضاء أو ضجة مزعجتين أو عندما يكون جائعاً، من الرضع الذين ليس لديهم مثل ذلك المزاج. ويكون اختباء الأطفال بعمر السنتين من ذوي المزاج المكفوف خلف والديهم أكثر ترجيحاً عند دخول شخص غريب منطقة لعبهم، ويميلون إلى العزلة في ألعابهم في سن السابعة وممارسة الألعاب الفردية في مقابل الجماعية أكثر من الأطفال الآخرين. لذا ما يرجح حدوثه هو أن مثل هذا السلوك التجنبي المكفوف يمكن تصنيفه من وجهة نظر الوالدين والمعلمين والمعارف على أنه خجل.
ولكن المسألة الجديرة بالإيضاح هنا، كما يؤكد كثير من دارسي الخجل، هي أن مجرد ولادة الشخص بمزاج مكفوف لا تعني أنه سوف يصبح خجولاً لا محالة في حياته الراشدة. إذ لو كان الخجل يرتكز فقط على العوامل البيولوجية دون غيرها، فمن المتوقع أن يكون 15 – 20 %، في أكثر تقدير، من الراشدين هم في عداد الخجولين طالما كانت هذه هي نسبة الرضع الذين يولدون بمزاج مكفوف. ولكن في العام 1975 نشر فيليب زمباردو، أستاذ علم النفس في جامعة ستانفورد آنذاك والرئيس الأسبق للرابطة الأمريكية للسيكولوجيين لاحقاً، دراسة مسحية تناولت عدة كليات أمريكية تبين بواسطتها أن 40 % من 800 طالب وطالبة تم استبيانهم يعدّون أنفسهم خجولين. كذلك كشفت الدراسة أن الخجولين مشغولون على نحو مبالغ به بأنفسهم، وأنهم يعيشون محاصرين بهمّين، همّ كونهم غير مرئيين من قبل الآخرين وبالتالي لا أهمية لوجودهم، وهمّ كونهم مرئيين ولكن بلا قيمة يعلقها أحد عليهم. وإن معظم الخجل خفي وقلة منه ظاهرة. وقد أطلقت هذه الدراسة سيلاً من البحوث في مجال الخجل خلال العقود الثلاثة الأخيرة. وتشير البحوث الحديثة إلى أن نسبة الخجولين الآن في الولايات المتحدة يمكن أن تبلغ حوالي50 % من السكان!
في ضوء ما تقدم بمقدور الأشخاص الخجولين الاطمئنان إلى أنهم ليسوا وحيدين، بالرغم أن الأمر يبدو كذلك، إذ بما أن الخجول لا يتواصل مع الخجول فإنه يشعر أنه وحيد فريد في تعاسته. لذا إن كنت خجولاً فإنك لست وحيداً فحسب، وإنما أنت أيضاً في صحبة جمهرة كبيرة بعضها من المشاهير، مثل الإعلامية بارباره والترز والممثلة ميشيل فايفر وأمير موناكو ألبرت، في سبيل المثال لا الحصر.
تشير البيانات التي عرضناها آنفاً، حول التناقض بين نسبة المزاج المكفوف لدى الرضع وحالات الخجل لدى الراشدين، إلى وجود عوامل أخرى تساهم في إحداث الخجل فضلاً عن كون الشخص يولد مع استعداد للخجل. لذا من المناسب التساؤل هنا، ما الذي أدى بهؤلاء الأشخاص الذين لم يولدوا مع هذا الاستعداد إلى أن يصبحوا خجولين؟
يقول كاردوجي: في محاولة فهم كيف يخبر الخجولون خجلهم نطلب منهم التحدث بعباراتهم الخاصة عما يعتقدون أنه سبب خجلهم. عند استعراض الإجابات فإن نسبة ضئيلة من الخجولين فقط يعتقدون أن خجلهم كان وراثياً، أي أنهم ورثوا خجلهم لأن الوالدين كانا خجولين أيضاً. في المقابل نجد أن حوالي نصفهم يعتقدون أن خجلهم له علاقة بعوامل تخص الأسرة مثل الافتقار إلى المساندة الأسرية وكثرة تغيير مكان السكن وغياب الوالدين والتسلسل بين الإخوة ومبالغة الوالدين في حماية أبنائهم أو عدم تلقينهم المهارات الاجتماعية المناسبة. بينما يعتقد حوالي ثلثهم أن خجلهم وليد مصاعب نفسية من قبيل تقدير متدني للذات، الخشية من ترك انطباعات سلبية، الانغماس في مراقبة الذات أو مصاعب اجتماعية، مثل الافتقار إلى المهارات الاجتماعية والنبذ من قبل الأقران أو "التصاق" صفة الخجل بهم.
يمكن القول إذن: إن بعض الأشخاص يولدون مع مزاج يميل إلى الخجل، وإن نسبة 15–20 % فقط من الأشخاص الخجولين ينطبق عليهم توصيف الشخص الذي "يعمل من الحبة قبة". من أين إذن تأتي تلك النسبة من الخجولين الراشدين؟ الجواب المنطقي وربما الوحيد هو أن الخجل عموماً يُكتسب على طريق النماء، وأحد المصادر هو طبيعة الآصرة الانفعالية التي ينشئها الوالدان مع أطفالهم في السنوات المبكرة من حياتهم، لذا من المتوقع أن يكون الأطفال الذين أنتجت تنشئتهم الأسرية تعلقات تفتقر إلى الطمأنينة والأمان أكثر تعرضاً للخجل في مراحل حياتهم اللاحقة. إذ إن الأطفال ينشئون تعلقات بالأشخاص- الوالدين أو من يقوم مقامهما- الذين يقدمون لهم الرعاية من خلال ما يخبره الطفل من عناية وإطعام وتربية. وعندما يكون هؤلاء الأشخاص متقلبون أو لا يعتمد عليهم فإنهم يفشلون في إشباع حاجات الصغير إلى الأمان والحنان والارتياح مما يولد آصرة مزعزعة غير مطمْئنة، وبما أنها الآصرة- النموذج - الأولي، فإنها تصبح نمطاً يطغى على علاقات الشخص اللاحقة بالآخرين. وبالرغم من عدم وجود دراسات طولية يمكنها تسليط الضوء على عملية نشوء الخجل من الرضاعة وصولاً إلى الرشد، فإن هناك بحوثاً تشير إلى أن التعلقات غير المطمئنة المبكرة يمكن أن تؤدي على وجه التوقع إلى الخجل لاحقاً.
وللمجتمعات هي الأخرى رأيها في الخجل ودورها في حدوثه، في بعض المجتمعات عندما يحاول الطفل وينجح، فإن الوالدين ينالان الثناء ويعزى لهم الفضل وكذا الأقارب والمعلمون وحتى القدر أحياناً، وإذا ما تبقى شيء فإنه يمنح للطفل. ولكن إذا ما حاول الطفل وفشل فإنه يتلقى اللوم وحده ولا أحد آخر يلام. في مجتمعات أخرى يأخذ نمط نسبة الأمر أو عزوه منحاً معاكساً، إذ إن الطفل الذي يحاول يحصل على إثابة بغض النظر عن العاقبة. فإذا ما حاول الطفل عمل طائرة ورقية، في سبيل المثال، فإن الأشخاص المحيطين به سوف يخبرونه كم هي طائرة رائعة، وإذا ما عجزت الطائرة عن التحليق، فإنهم سيلقون باللائمة على الريح. فضلاً عن أن الخجل في جانب منه نسبي، عنوان ذو نكهة تتعلق بثقافة السكان والمكان، فما يمكن عدُّه شخصاً خجولاً في مجتمع يمكن أن لا يعد كذلك في مجتمع آخر. ناهيك عن أن بعض المجتمعات تعد الخجل صفة مرغوباً بها خصوصاً في الإناث.
ما يحاول الخجولون تجنبه قبل أي شيء آخر هو أن يكونوا في بؤرة انتباه الآخرين. لذا في المدرسة الابتدائية يتجنب التلميذ الخجول طلب العون من المعلم. وفي الكلية يتردد الطالب في التوجه بسؤال في قاعة المحاضرات بالرغم من إيمانه بشرعية السؤال وأهميته. وفي الرشد يشعر الموظف بحرج شديد عند تقديم إيجاز عن إنجازاته للأشخاص الذين بيدهم ترقيته، وفي كثير من الأحيان يحول الخجل دون حيازة انتباه الأشخاص الذين يمكن أن يحسّنوا من فرص نجاحه.
الآن، ما الذي يمكن فعله للتخلص من الخجل؟ نقطة الانطلاق يمكن أن تكون في تقرير أن الخجل ليس مرضاً أو اضطراباً نفسياً أو انحرافاً أو خللاً في الشخصية بحاجة إلى أن "يشفى" المرء من أي منها. ولكي يستطيع الخجولون التعامل بكفاءة مع خجلهم، فإنهم بحاجة إلى زيادة وعيهم بطبيعة وديناميات الخجل. ولأن الديناميات الأساس الأولى الكامنة للخجل تنطوي على الانغماس في مراقبة الذات والانشغال بها، فإن مفتاح السيطرة على الخجل يكمن في زيادة التركيز على الآخرين. وأحد أفضل طرق إعاقة نزعات الانشغال بالذات هو توجه الخجول نحو المشاركة أكثر في حياة الآخرين، ولعل التطوع هو الخيار الأمثل الذي يوفر ضماناً لمثل تلك المشاركة. إذ إن التطوع بمقدوره مساعدة الشخص الخجول في التخلص من كثير من مصاعب الخجل الشائعة من خلال تحقيق المكاسب الآتية :
• ليس على المرء أن يكون كاملاً. لأن الشخص عندما يكون متطوعاً فإن ذلك يعني، ضمن أمور أخرى، أن التوقعات من أدائه ستميل إلى التواضع والاسترخاء والقبول، إذ ليس على المرء أن يثبت أمراً للآخرين وإنما هو مجرد شخص يبغي تقديم العون، وبذا يمكن للشخص الخجول الابتعاد عن متابعة ذاته وانتقادها بما يسمح له أن يكون على سجيته وتكريس المزيد من الوقت والانتباه للمهمة التي هو بصدد القيام بها، أي تقديم العون للآخرين.
• بمقدور المرء توسيع فسحة استرخائه. إذ إن التطوع يسمح للشخص الخجول اختبار مواقف جديدة دون الضغوط المرافقة لمتطلبات الأداء والإنجاز التي يخبرها نموذجياً في المواقف الاجتماعية. وكلما زادت وتنوعت أماكن التطوع وأنشطته زاد الشعور بالارتياح الذي يأتي مع تنوع المواقف والتعاطي مع أشخاص مختلفين.
• الحصول على مواضيع جاهزة للتحاور. بما أن الشخص الخجول غالباً ما يجد مصاعب في ابتداء التحاور مع الآخرين والمبادرة فيه، يكون بمقدوره في هذه الحال استخدام خلفية التطوع قاعدةً للمبادأة في التحاور مع المتطوعين الآخرين. إذ يمكن أن تتناول المحاورات مواضيع من قبيل دوافع التطوع ومصاعبه والخدمات المقدمة من قبل المنظمة وإخبار الأحداث المرتبطة بالعمل وأية خبرات سابقة أو مضافة اكتسبت خلال التطوع. وبمقدور الشخص الخجول أيضاً استخدام صفته وعمله التطوعي لتقديم نفسه، "أهلاً، أنا سامر، أنا طالب سنة ثالثة علم نفس وأعمل متطوعاً في دعم الأسر التي أُجبرت على النزوح."
• يمكن للزملاء من المتطوعين أن يكونوا شبكة دعم اجتماعي إضافية للشخص الخجول. إذ إن الأشخاص الذين يلتقي بهم الشخص الخجول في الأنشطة التطوعية بمقدورهم أن يصبحوا أصدقاء يمكن الركون إليهم وتسهيل مشاركته في الأنشطة الاجتماعية الأخرى.
والخجول بهذا يفيد ويستفيد إذ إن الخجول الذي ينجح في التغلب على خجله لا يغير جزءاً من ذاته فحسب وإنما أيضاً يغير طريقة تفكيره وتوجهاته والسلوكيات التي كان يتبعها. فهو يفكر أقل بنفسه وأكثر بالآخرين ويقوم بأفعال أقل تركيزاً على الذات وأكثر تركيزاً على الآخرين. وهو لا يعد خجله ضعفاً أو وهناً وإنما ينظر إلى خجله على أنه سمة مميزة لما هو عليه وأنه أحد العناصر المكونة لشخصيته التي يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار وليس مجرد صفة لا تستحق سوى اللّعن.
ختاماً يمكن القول: إن مفتاح التغلب على الخجل يكمن في تقبل الشخص لخجله أولاً واستجابته التفاعلية الناشطة للتغلب والتعالي عليه بدلاً عن ترك الخجل يسيّره ويسيطر عليه ثانياً.
الهوامش:
1- المزاج temperament يمكن القول، إنه استعداد ذو أساس إحيائي للاستجابة انفعالياً على نحو خاص عندما يجد الشخص نفسه في سياق ظرفي معين.