في العام 2003 نشرت مجلة "مَحاضر مجمع العلوم الوطني" الأمريكية نتائج دراسة تفحصت أثناءها مجموعة من الباحثين في كلية الطب بجامعة وين الرسمية في ديترويت مورِّثات مفتاحية في مجموعة من الأنواع بما فيها الإنسان فوجدت أن تلك المورثات لدى البشر تتطابق مع مثيلاتها لدى الشمبانزي بنسبة 99%.
مجموعة ديترويت تلك، برئاسة الدكتور ديريك وايلدمان، قارنت 97 مورثة مهمة في ستة أنواع مختلفة هي الإنسان والشمبانزي والغوريلا والأرانج أوتان (الرئيسيات الكبرى) وسعادين العالم القديم والفأر. ووفق نتائج المقارنة وبحسب ذلك التطابق في المورثات أعادوا رسم المخطط الذي يؤشر درجة القرابة بين هذه المخلوقات فجدوا أن الإنسان والشمبانزي يحتلان غصنين متلاصقين في شجرة الحياة.
لقد كانت تلك الدراسة حلقة من سلسلة متصلة من الاهتمامات التي أبداها بنو البشر بالرئيسيات الكبرى (apes) وعلى وجه الخصوص الشمبانزي. ولم تقلل من أهميتها الريادية حقيقة أن الباحثين في السنوات اللاحقة وبعد التوصل إلى تعرف الشفرة الوراثية للشمبانزي كاملة في العام 2005 وضعوا نسبة التطابق بين مورثات الإنسان والشمبانزي كافة في حوالي 98%. وإذا كان فضل الريادة في تعرف السمات الإحيائية والجينية للشمبانزي يعود إلى هؤلاء الباحثين، فإن فضل الريادة في تعرف السمات والأنماط السلوكية لتلك الكائنات يعود بلا أي منازع إلى جين كوديل.
لذا تقف جين كوديل في الصف الأول من أعلام القرن العشرين. فقد أمضت تلك الفتاة الشقراء النحيلة، منذ أن حطت الرحال لأول مرة في محمية كومبي الطبيعية في تنزانيا، قرابة الخمسين عاماً في دراسة طرق معيشة الشمبانزي في البرية، ومن ثم في تأمين مستلزمات حمايتها. وبحسب رأي المختصين، فإن العلوم السلوكية تدين لكوديل بالفضل في أغلب ما تمت معرفته عن أقرب أقرباء الإنسان: علاقاته وتراتباته وطقوسه الاجتماعية وعاداته التغذوية والتزاوجية وكيفية العناية بالصغار وغير ذلك كثير. وقد أسهمت هذه الإنجازات في تسليط الضوء على الأصول النشوئية لبعض أنماط السلوك لدى الإنسان.
ولدت جين كوديل في لندن في الثالث من نيسان 1936 ونشأت في منزل ريفي مطل على المحيط في بورنماوث- إنكلترا. وكان لهذا المكان تأثيره في حبها للحياة في الهواء الطلق، لذا كانت في صباها تمضي أكثر ما تستطيع من وقت في العراء مستكشفة ومتفحصة الكائنات التي كانت تتخذ من الفناء الخلفي للمنزل الكبير مأوى لها. وقد تولد لديها شغف بقراءة الكتب التي تتناول الغابات والأحراش ومن خلالها تعرفت على إفريقيا. لقد سحرها غموض الغابة وفي السنة الحادية عشرة من عمرها قررت أنها تريد الذهاب إلى إفريقيا وربما العيش هناك.
في مقتبل العشرينات من عمرها وجدت كوديل نفسها في إفريقيا أخيراً. وقد اتخذت عملاً مكتبياً في نايروبي- كينيا كيْما تعيل نفسها. بعد وصولها بسنة سمعت بأن عالم الأنثروبولوجيا اللامع لويس ليكي وزوجته يقومان ببحوث في زائير وفي مكان قريب من الحدود، فذهبت لمقابلتهما. وكان ليكي يخطط لبحث يتناول الرئيسيات الكبرى، إذ إنه كان يشعر أن لدى هذه المخلوقات الكثير مما يستحق تعرفه ولم نكن بعد قد تعرفناه. وقد اتخذ ليكي من كوديل مساعدة مكتبية له تقوم بتنظيم وتنضيد أوراقه وملاحظاته البحثية التي كان يبعثها إلى متحف التاريخ الطبيعي في لندن. وعندما كان مخطط مشروع بحثة الأخير يتخذ شكله النهائي فكر بأن كوديل هي الشخص المناسب لذلك المشروع. ويقال إنه كان يريد شخصاً ليس لدية الكثير من التدريب في مجال الايثولوجيا أو في علم الرئيسيات؛ شخص ليس لديه تحيزات أو آراء مسبقة حول الموضوع، فقام باختيار جين كوديل لتبدأ مشروع دراسة الشمبانزي في محمية كومبي الوطنية في تنزانيا، كما تولى أمر تمويل الدراسة. وهكذا وجدت كوديل في العام 1960 نفسها قرب بحيرة تنجانيقا في موطن الشمبانزي لتبدأ مغامرة نصف القرن، ولتصبح واحدة من عدد ضئيل من الأشخاص الذين نالوا شهادة الدكتوراة بدون أن يكون لديهم مؤهل جامعي أولي. ولم تمض سوى سنوات قليلة على بداية دراستها في كومبي حتى أصبح اسمها وصورها مألوفين في الأوساط العلمية كما على صفحات المجلات واسعة الانتشار وفي مقدمتها مجلة ناشيونال جيوكرافيك التي قدمتها في برامج تلفازية أكثر من أي ايثولوجي آخر في تاريخها. وتشير موسوعة ويكيبيديا إلى أن كوديل حصلت على أكثر من عشرين جائزة علمية وأربع شهادات دكتوراة فخرية.
وعلى الرغم من أنها أنهت نشاطاتها البحثية والحقلية وسلمتها إلى مساعديها وتلاميذها الكثر، منذ خمسة وعشرين عاماً تقريباً، إلا أنها لا زالت تحتفظ بمقر إقامة لها في المحمية كي تركن إليه كلما شعرت بالحنين والشوق إلى تلك المخلوقات التي أمضت معها أفضل سني شبابها، وتابعت تعاقب أجيالها ولادةً وموتاً وتغييراً في القيادات. ومنحت كل فرد فيها اسماً يميزه حتى أصبحت تعرفهم فرداً فرداً.
تقول كوديل وهي تتفحص قائمة أسماء الشمبانزي الذين عاشوا في كومبي ورحلوا عنه: "إن الأسى يعتصر قلبي وأنا أتطلع إلى هذه القائمة، ديفيد ذو اللحية الرمادية، أول ذكر ألفا (زعيم مجموعة) صادفته، الواثق من نفسه وأول من تقبل وجودي بالقرب من مجموعته. ومايك المقاتل ضئيل البنية الذي روع الجميع في عملية صعوده إلى قمة الهرم الاجتماعي بواسطة قرعه على صفائح النفط الفارغة. و" العمة جيجي " العانس المسترجلة التي أثارت العجب بتبنيها ثلاثة أيتام. وفلنت المراهق ذو الثمان سنوات "مدلل أمه" الذي مات كمداً بعد أسابيع من فقدانه أمه المسنة فلو". كل واحد من هؤلاء وغيرهم مكن كوديل من استراق إطلالة على فكر الشمبانزى وعواطفه، واحتل مكانته الخاصة في قلبها.
عندما بدأت كوديل دراستها حذرها عالم الانثروبولوجيا لويس ليكي من أنها سوف تحتاج إلى عشرة سنوات لإنجازها. وقد ضحكت كوديل غير مصدقة في حينها، وفكرت مع نفسها " هذه على الأغلب مجرد مبالغة، ربما لن أحتاج إلى أكثر من ثلاث سنوات ". وتبين فيما بعد أن الاثنين كانا على خطأ. إذ بعد أن شهدت وتتبعت تعاقب ثلاثة أجيال من الشمبانزى فإن دراسة كوديل لمجموعتي الشمبانزي كاسكالا وميلومبا تعد الأطول من نوعها على الإطلاق، وما كان لها أن تتحقق إلا بالكثير من الصبر والمثابرة. ففي سنتها الأولى في غومبي (1960) سجلت كوديل مشاهدتها لديفيد ذي اللحية الرمادية (الذكر الألفا آنذاك) وهو يفترس عجل خنزير بري، ومنذ ذلك الحين تأكد بالمشاهدات اللاحقة أن الشمبانزي آكل للحوم والنبات، وليس نباتياً فقط كما كان يسود الاعتقاد. في نفس السنة اكتشفت كوديل أن الشمبانزي ليس مستخدماً للأدوات فحسب وإنما هو أيضاً صانع لتلك التي يستخدمها أحياناً. إذ شاهدت ديفيد نفسه يزيل الزوائد والنتوءات عن نصل نجيلي كي يسهل دفعه داخل عش للنمل الأبيض ليلتهم ما علق به من نمل عند إخراجه بحذر من فتحة العش وقد تبين لاحقاً أن مثل هذه المهارات يمكن أن تكون خاصة بمجموعة دون أخرى، إذ يتعلمها كل جيل في المجموعة من الجيل الذي سبقه.
ثم توالت المشاهدات والاكتشافات على مدى العقدين التاليين والتي تم توثيقها في ثلاثة كتب والعديد من المقالات التي تتهافت المجلات العلمية على نشرها. وقد تميزت كوديل برشاقة الأسلوب وبساطته وعمقه. ويعد كتابها In The Shadow of Man واحد من أكثر الكتب غزارة في المعلومات في مجال سلوك الرئيسيات، الأمر الذي أهله ليكون من كلاسيكيات كتب القرن العشرين العلمية.
الشمبانزي، تكتب كوديل، كائنات قادرة على الابتكار، فهي تقدم على أمور ليست حيوية تماماً لبقائها، إذ تفتح المكسرات القاسية بواسطة الطرق عليها بالحجارة. وتغلف أقدامها بالغصينات المورقة كي تحميها من الأشواك، وتلتهم نباتات مرّة المذاق، تتناقل مهارة التعرف عليها من جيل لآخر، دواءً لتسكين الآلام، وتصطاد على شكل مجموعات منظمة يتوزع أفرادها المهام فيما بينهم.
تحدثنا كوديل عن قيادة المجموعة قائلة؛ "في كل مجموعة ذكر رئيسي (ألفا)، مسيطر ومتسلط، يفرض سطوته على باقي مجموعته باستعراض مبهر وأحياناً مرعب لعدوانيته. وتتقبل المجموعة دورها تابعاً له، فهي لا تلجأ إلى الأحراش هرباً من تسلط الذكر الألفا لتعيش منفردة، إذ هي بحاجة إلى القوة والأمان الذين تمنحهما كثرة العدد، لذا فهي تعيش جماعة متحدة، وهذا لا يتحقق نتيجة طغيان أو قسر من الذكر الألفا، وإنما لأنه يقوم بدور المنظم والحارس والحامي ؛ فهو أول المتصدين للأخطار القادمة من خارج المجموعة، كما أنه لا يتأخر عن المبادرة في حماية ضعفاء المجموعة من أقويائها. مكانته تلك أوجدت مراسيم على الذكر الألفا بدوره اتباعها، إذ عندما يريد التقرب من أحد أفراد رعيته تقرباً ودياً، في سبيل المثال، عليه أن يفعل ذلك بخطوات متأنية ثم يتوقف جانبياً، وليس وجهاً لوجه، على مرمى ذراع من هدفه باسطاً نحوه ذراعه ببطء ملامساً رأسه أو كتفه بأطراف أنامله ومربتاً عليهما، وعندما يجري كل شيء على ما يرام يكمل، تقربه لتحقيق الغرض من التقرب. وأسلوب التقرب هذا هو جزء من مراسيم طقوسية يمارسها الذكر لتطمين تابعه وتهدئة روعه، في حين يتخذ الأخير طوال الوقت وضعية الانكفاء وهي إيماءة خضوع طقوسية للذكر المسيطر".
كما وجدت كوديل أن بعضها يخطط لتحقيق هدف، وهذا ما أظهره الذكر فيغان عندما قام "باختطاف" أخاه الأصغر فلنت، كي يرغم أمهما فلو – وهي أنثى ذات مكانة مرموقة في المجموعة –، ومن ثم المجموعة بأكملها، على اللحاق به إلى موضع آخر في المحمية. وقد أدى نجاحه في مسعاه ذاك، فيما بعد، إلى أن يصبح الذكر الألفا في مجموعته. وهي مكانة لم تتوطد إلا من خلال تحالفه مع أخيه (القبضاي) فابين لذا كان فيغان، عند غياب فابين، يعاني الأمرّين في سبيل الحفاظ على مكانته تلك من المتطلعين حوله إلى الزعامة. حتى الانتهازية وجدت طريقها إلى كومبي، إذ يبرز كوبلن ممثلاً لها بولائه المتأرجح، تارة مع أخيه فرويد، ألفا مجموعته، وتارة مع أخيه الآخر فريدو المنافس الأول لفرويد، كي يحصل على الغنائم التي توفرها له علاقته المزدوجة بهما. والذكور في كومبي، كما تلاحظ كوديل، يشبهون في سلوكهم أصحاب الحوانيت المتجاورة، فهم كثيراً ما يتبادلون الشد على الأيدي والتربيت على الظهور والعناق، وفي نفس الوقت يرقب أحدهم الآخر بفضول حذر، وغالباً ما يؤلفون تحالفات ذات طبيعة متقلبة ومؤقتة.
في العام 1974 بلغت كوديل تقارير من مساعديها تفيد بأن دوريات من مجموعة كاسكالا، – وهي واحدة من أربع مجموعات شمبانزي تعيش في المحمية التي تبلغ مساحتها 30 كم مربع- أخذت تهاجم وتقتل أفراداً من مجموعة كاهاما المجاورة والأقل عدداً. وقد اتضح من خلال الملاحظة والمتابعة اللصيقة لهذه الظاهرة، أنها تأخذ نمطاً يشبه الكمائن المهيأ لها سلفاً." فالمحاربون" من مجموعة كاسكالا يتوجهون نحو حدود منطقة كاهاما خلال أحراش الغابة على شكل رتل منفرد، ويتقدمون حين يصلون أراضي الجانب الآخر بقفزات حذرة من صخرة إلى أخرى كي يتجنبوا إصدار أي صوت، ثم ينقضون على أي فرد يصادفونه ويشبعوه ضرباً وعضاً. وقد عرف هذا الصراع فيما بعد "بحرب الأربع سنوات"، التي لم تضع أوزارها إلا بعد القضاء على مجموعة كاهاما تماماً وقيام المجموعة المنتصرة بالسيطرة على منطقة المجموعة المهزومة.
بعد التوقف عن النشاطات الحقلية المباشرة، اتجهت كوديل إلى القيام بحملات واتصالات ولقاءات بملوك ورؤساء دول ومديري شركات، من أجل جمع الأموال لحماية الشمبانزى وإنشاء ملاجئ لرعاية الأيتام منها في أنحاء مختلفة من إفريقيا، كما حولت بعض الهبات نحو إعادة تشجير الغابات في المواطن الطبيعية للشمبانزى. وفي كل عام تقوم بجولة ماراثونية لإلقاء المحاضرات وجمع التبرعات تشمل ما لا يقل عن (15) مدينة، تتضمن أربع أو خمس محاضرات ولقاءات في اليوم الواحد، ولا تحمل معها في العادة سوى حقيبة كتف فيها غيار واحد للملابس وفرشة أسنان والكثير من الأوراق.
وفي العام 1977 قامت بتأسيس "معهد جين كوديل" الذي يوصف بأنه منظمة عالمية غير ربحية تعمل على تمكين الناس من إيلاء الاهتمام لكل المخلوقات الحية، وتحسين تفهمهم للرئيسيات الكبرى وتعاملهم معها والمحافظة عليها وحماية مواطنها مع المحافظة على إمكانيات الحياة المستدامة للمجتمعات البشرية المحلية من خلال البحوث ونشر الوعي والتثقيف للعموم، فضلاً عن تكوين شبكة على مستوى العالم من اليافعين والشباب من الذين يبدون اهتماماً عميقاً بمجتمعاتهم البشرية والحيوان والبيئة.
لقد حفزت روح جين كوديل وإنجازاتها باحثين آخرين ساروا على خطاها، من أمثال الراحلة ديان فوسي، التي قامت بدراسة الغوريلا الجبلية في رواندا، ودفعت حياتها ثمنا لنضالها في حماية تلك المخلوقات الرائعة. وكذلك، بيروته كالديكاس الذي أجرى دراسات معمقة على الأورانج أوتان في بورنيو، والذي يقول " إن كوديل هي بطلتي الشخصية، ولطالما لمست تأثيرها المدهش على الناس وخصوصاً الشباب، عندما أرافقها في جولات إلقاء المحاضرات".
بعد أن أشارت كوديل في إحدى المحاضرات في جامعة كورنيل إلى أن بعض المراهقات من إناث الشمبانزى يهجرن مجموعتهن ويلتحقن بمجموعات أخرى، سألتها طالبة دراسات عليا في الجينات، عن الكيفية التي تُستقبل بها الأنثى المراهقة عند التحاقها بالمجموعة الجديدة، فكان جواب كوديل: " يغتبط الذكور كثيرا بالطبع، وتتلقى الضرب المبرح من الإناث، لأنهن، ببساطة، في غنى عن المنافسات. ولكن هنالك استراتيجية تتبعها القادمة الجديدة عادة، فهي تربط نفسها إلى أنثى ذات مكانة اجتماعية عالية، وحتى لو قامت تلك الأنثى بإساءة معاملتها، فإن الأخريات سيكففن عن إيذائها، ومن ثم يتم تقبلها في نهاية المطاف." فانبرت الطالبة قائلة: "يا إلهي، إن ذلك يشبه تماماً ما يحدث في أماكن الدراسة والعمل".
المصدر : الباحثون العدد 37 تموز 2010