لا يمكن أن تعيش ضمن نطاق المفرد المنعزل، أو أن تكتسب عبر شبكة الإنترنت، تكون غير قابلة للنقاش أو الحوار، يمكنك أن تأخذ وتقرأ ما شئت من الإنترنت، ولكن لا يمكنك مناقشته أو الحوار معه، والثقافة لغة جمعيّة لا لغة إبداعيّة، وفي اعتقادي أنها قصة حبٍّ يمتلكها طرفان يكتملان من خلال تبادل مفردات قصتهما، كذلك هي الثقافة لها حدّان قويان لا تقبل فرداً قوياً وآخر ضعيفاً، لا تقبل المثقف وغير المثقف؛ بل تتحوَّل إلى شخصية جميلة تتعلق بالحبِّ والجمال .
ممَّ تتشكل ؟ هل هي هرم نهائي مكتمل الأبعاد، أم أنها ما زالت في سياق التأطير؟ تتجمَّع، تحاول فهم إنجاز الأدب بأجناسه، والجنس ومفاهيمه، والتراث بأبعاده، والحضارة وإنجازاتها، والفنون السبعة وإبداعاتها، فمازالت تعيش الحلال والحرام، والممنوع والمسموح، والقسري واللامفهوم، وتبحث به عن المفهوم من أجل امتلاك علم الجمال؛ الذي لا يمكن لنا أن نتقدم قيد أنملة دون امتلاك أبعاده، وإتقان وفهم مقاييسه، لا يكفي هذا؛ بل يجب أن يتحقق بنشره ضمن المحيط والإقناع به، لا بل أكثر من ذلك الإيمان به وبأنه غدا حقيقة تستحق الحضور، لقد لاقى هذا العنوان حظوة كبيرة لدى المهتمين في عالمي العلم والمعرفة؛ من المثقفين الحقيقيين المنتمين باجتهادهم إلى أمتنا العربية، بعد أن حققت في القرن العشرين مكانة راقية، وغدت صورة للشخصية الحقيقية الإنسانية الفاعلة والمنفعلة، ولغة تستخدمها الآداب العربية والعالمية، وكان لها اهتمام لا بأس به في عالم الصحافة، بكونه عالمَ نقل مباشر إلى الكثرة البشرية. فهذه الكلمة التي عرَّفها البعض أنها الحضارة، وقدَّمها البعض الآخر على أنها المدنية، بينما يتساءل الكثير فيقول هل هي المعرفة ؟ وهل الثقافة تخصُّ مجتمعاً أو أمة ليكون لها شخصية تتمايز بها وتتصف بأشكالها، فتكون بذلك عاملاً من عوامل قوتها ووجودها المعرفي والحضاري؟ إذاً كيف نستطيع أن نصف شخصاً ما أو مجتمعاً بأنه مثقف؟، هل ننظر إليه من خلال عمليات الصقل التي يتمتع بها؟ كأن يكون لديه دراية بالموسيقى، والأدب، والفلسفة، والسياسة، ويجيد لغة عالمية إضافة إلى لغة أمته الأصلية، وهل يجب عليه أن يتمتع بصفات وتوجهات إضافية تشكل تشاركاً مع تقدم الحياة وتطورها العلمي؛ كالمعرفة بعالم الاتصال الحديث الإنترنت وأنظمة الاتصال الفضائي إلى غير ذلك.. ؟ وهل ينبغي أن تكون صورتها جامعة؟ ومثالنا: الموسيقي وانتشار موسيقاه، وتمتعها بحبِّ الآخرين في المحيط القريب والبعيد، والإيمان بها وبتطورها من لغة فردية إلى لغة جماعية إلى العالمية؛ التي تشير إلى أنها قادمة من ثقافة عربية أو هندية ، أو من البوب الأمريكي أو التانغو البرازيلي أو البانبو الإفريقي .. مثلاً .
ما هو مفهوم الثقافة البشرية العالمية ، وهل هي في حقيقتها عامة، أم أن لكل أمة لغة الثقافة ذاتها ، هل اللغة العالمية لغة ثقافية كالموسيقى مثلاً ، أم هي سلوك تعلمي يكتسبه الأفراد كأعضاء في أسرة تنتمي إلى مجتمع؛ يعيش ضمن أمةٍ لتكون الشخصية من الفرد إلى الأسرة إلى المجتمع إلى الأمة؟ فتمتلك بذلك ثقافة تنعكس على كل أطيافها، وتشكل بمجموعها ثقافة الأمة، وهل لنا أن نستخلص بأن المفهوم الذي يستخدم لوصف ثقافة شخص فردي يمكن أن يعمَّم على ثقافة المجتمع أو الأمة ؟ .
لقد أثارت كلمة الثقافة وأغرت الكثير من الباحثين على اختلاف تنوعهم الجغرافي وأشكالهم وألوانهم، فأجمعوا إلى حدٍ كبير على أنها ذلك الكُلُّ المعقَّد الذي يتضمن المعرفة، والمعتقد، والفن، والخُلق، والقانون، والعادات المجتمعية، وأية إمكانيات محيطية جيدة، وطبائع اكتسبها الإنسان من مجتمعه .
فإذا كان الإجماع على أنها ذلك الكُلُّ؛ فإننا نقول: إن الثقافة هي سلوك تعلّميٌّ كسبيٌّ، كثيراً ما يتناقض، وقليلاً ما يلتقي مع السلوك الموهوب وراثياً وتراثياً من خلال التفكّر والتبصُّر والعمل مع المحيط .
فالمحيط واقع مليء بكل مكوناته المجتمعية، وانطلاقاً من واقع أن كل مجتمع إنساني يتمتع بمنظومة من السلوك؛ تحكمه معايير قد تختلف نسبياً من مجتمع إلى آخر حتى داخل الثقافة الواحدة؛ فإنه يتم تآلف الأفراد مجتمَعيّاً وثقافياً بمقدار الانتماء والحبِّ لهذا المجتمع. إذاً السلوك الإنساني الإيجابي وحمله وتطويره من خلال المجتمع الذي يعيش به يُكوِّن شكلاً ثقافياً مهماً ضمن الحضور الثقافي، فالسلوك السلبيُّ يُنشئ الفوضى، والخلط بين الثقافة والفوضى خطأ كبير على أيِّ فرد، ومن ثم على المجتمع والأمة، بحيث أن ثقافة الفوضى تنشئ البربرية، والانتهازية التسلطية، والتبعية، وعدم الطاعة في الانتماء وتنوع الخصوصيات واللغات، وتُقسِّم الأجواء والطموحات والانتماءات، وتغذي الفتن.
هل حاول أحدٌ ما من المحيط إلى الخليج أن يعرِّفها وأن يرسم لها رؤية حقيقية تخص هذه الأمة؟ نحن كأفراد متشكلين بها ومشكِّلين لها؛ لنا أن نسأل أمتنا التي تشكلت منذ ذلك التاريخ السحيق: ماذا أنجزت ضمن المسار الطبيعي بين الحضور الأممي كأمة لها حقّ في الوجود والظهور، وتسجيل تاريخها كأمة، مع تقديرنا واحترامنا للجغرافيا الواسعة التي تتمتع بها، واللغة التي تتحدث بها إلى بعضها، والدين الذي هو الأساس الجامع واللاّمع بينها، والتاريخ الحديث الذي تنضوي تحته وتختفي ضمنه، بكونها لم تستطع أن تنجز حتى اللحظة الصورة الثقافية الحقيقية على الرغم من الطفرات الفريدة وتألق بعض أفرادها.
لماذا؟ سؤال كبير أعتذر منكم جمهرة الأمة، وأنا أبحث في ثقافتنا عن ثقافتنا، وإنني لأعرِّف الثقافة بأنها علم الجمال، وضرورة أن نبحث في تطوير الرؤية البصرية؛ كي نستطيع إيجاد ثقافة حقيقية لا منقولة، ولا مدسوسة، ولا مترجمة، ولا معرَّبة، ولا انهزامية، ولا انكسارية، أو انكشارية، فالذي نراه ثقافة انحدار لا ثقافة صعود، ثقافة تتحدث عن الاستعمار والنكسات والفساد، كما أن آدابها نقد وتقريظ وإدعاء، ورفض للواقع، دون الإسهام في تقديم الحلول بالمنطق والانتماء، ثقافة غربية وشرقية تعارض كل شيء، ولا تنتمي إلى ذاتها ولا تبدع من ذاتها، وحينما أقول: إنها علم الجمال أعني أن من يمتلكه يمتلك التطور والإبداع، والانتقال من درجة إلى أخرى صعوداً على سلّم الارتقاء وتسجيل الحضور، ونحن نسير إليها حاملين ذلك السؤال الكبير: أين نحن من الثقافة العالمية، ماذا حققنا بها، وما هو حجم مشاركتنا ضمنها، مصارحة صدامية قاسية ومؤلمة ومُرَّة، ومخاض يجب أن يأخذ بنا إلى الخروج من عنق الزجاجة
التي نقبع داخلها، نسترق النظر إلى ثقافات الآخر بخجل، ينعكس على نشوة الأمل لا يفصلنا عنها سوى الزجاج الشفاف، وبدلاً من أن نُبدع نقلّد ما نراه دون محاكمة، وجميعنا يعلم أيضاً أن فهم الرسم، والنحت، والموسيقا، والعمارة، والتمثيل، والمسرح، والسينما، يعني امتلاك الجمال، ومنها تظهر الشخصية الثقافية فأين نحن من كل هذا؟ ولماذا مورس على هذه الأمة الجهل بمعنى الثقافة مئات السنين؟ حيث أُشبعت بتغييب جوهرها وصورتها، وسادها مراحل من الإبهام والتشويه، وتمَّ تحويلها إلى مسمّى الشطارة والحذاقة والفطنة الفردية والنجاح الفردي؛ الذي يعزز الأنا ويلغي الجمال، وتم اعتبارها سلوكاً ينبغي إصلاحه كلّما اعوجَّ، وتم الاكتفاء بثقافة الفروسية القتالية دون امتلاك ثقافة الفرسان، والسباحة السطحية الإنقاذية للجسد دون معرفة الغوص إلى الأعماق، والرماية الاصطيادية حسب المتوفر دون معرفة تسلّق الجبال من الوديان، وحُرم الجمال البصري الذي هو أساس التكوين الإنساني، والاقتناع بأن الخمار الخارجي والداخلي لا ينبغي عليه أن يُظهر الوجدان. فكيف يكون الإله جميلاً يحب الجمال ولا يدرك الإنسان جمالَه خلقه؟ وأنه مخلوقه الجميل الطبيعي الذي يحمل على عاتقه توليد الإبداع الصُنعي، هل نحن أمة مثقفة، وأيّ ثقافة نحمل، وأيّ حضور نمتلك، وأيّ ظهور نظهر؟ .
لست بغاية إحداث الضغط الذي يولّد الانفجار، ولكنني في حقيقة الأمر أدعو إلى مسألة تحتاج منّا جميعاً كأمة أن ننضوي تحت مسمّاها ومعانيها وحدودها الكبرى، فلا نريدها مفرَّغة من مضمونها الكروي الذي تتقاذفه الأمم؛ بل نسعى إلى تحويلها إلى هَرَم منجب لأهرامات شامخة على هذه الكرة، فتمنع من التدحرج، و تنعكس في ذات الوقت على المحيط الذي يتطلع إليه القاصي والداني من المحيط؛ الذي يحيط بحدود الجغرافيا الحاملة للأمة العربية.
أية ثقافة عربية تستند إلى النقد فقط، الكلُّ يلهث وراء إظهار ذاته، وهو المتأثر بغيره ينكر عليه تأثُّره، فلا يحدث منه التأثير ويفقد الأثير، وحين الخضوع إلى الحوار ينتهي الشرف الإبداعي بين ساقَي امرأة . ألا تشكل هذه الثقافة ضياع نصف المجتمع ونصف الفكر الاجتماعي، وتنتهي إلى ثقافة المتاهة الفاقدة للمخارج ؟ وأيضاً أية ثقافة تعتمد فكرة الخيانة الزوجية وهي لم تمتلك بعد تعريف الخيانة؛ والذي يخصُّ فقط الأمة والأوطان والإبداع العلمي؟ وإنني لأعتبر أن خيانة التعبير لهي أكبر خيانة إنسانية، فثقافة الجنس في المجتمع العربي تسع دقائق تكفي لرسم صورة عملية جنسية، أو لتكوِّن الجنين من نطفة، حتى مسمّى الحلال والحرام، والغاية حكم الأسرة والمجتمع والأمة، والتي لا تكفي لحدوث النشوة الحقيقية، ولذلك ظهرت ثقافة الخيانة دون تعريف حقيقي؛ لتبقى ساكنة ضمن
الخيال والتمتع به، وأقصد هنا أية ثقافة حيوانية تستمتع بالإنجاب من حيوان منوي لا تمتلك ثقافة استمرار الإنسان، وأنه إنسان منوي، عصارة فكر خلاّق له إرادة استمرار الخلق والمخلوق المتخلِّق ضمن رحم الأنثى، أية أمة هذه التي لم تستطع أن تنجب موسيقياً هَرماً، ولا نحاتاً روحياً، ولا ممثلاً نخبوياً، ولا معمارياً ينجز عمارة للعرب، ولا طبيباً يفتح فتحاً طبِّياً؟، لم ينل واحدٌ من العرب جائزة نوبل حتى الآن؛ تلك الجائزة السياسية والعلمية في آن، إلاّ المشوهون منهم والمستسلمون بقذارتهم إلى إضعاف تلك الثقافة غير المتوفرة لديهم، نعم أقسو على ذاتي المحرّمة والمقدسة، فمازلنا نعيش الانحصار بين الألف والياء، والبداية والنهاية، والأول والآخر ، والظاهر والباطن، لم نتصالح معه أبداً، ولذلك نحن في الاعتراف أمامه لم نمتلك الثقافة .
طبعاً لدينا ثقافة الاعتدال بالذات العلية، والأنا الفردية واللغة التاريخية، نشترك بالأرض، نخاف على العرض، نبحث في الأنساب (أي الحسب والنسب)، نستند إلى ابن جلا وطلاّع الثنايا، ثقافتنا ثقافة ضحلة، مترجَمة، واردة كورود الظباء إلى العين الفيّاضة بالماء الخبيث، غايتها امتلاء البطون لا العقول.
أين هي ثقافتنا العربية ؟ الجموع من المحيط إلى الخليج مُسَيّسة، أي: تمتلك ثقافة السياسة الإذاعية والمتلفزة والإخبارية والشوارعية، دون وعي لمفهوم ثقافة السياسة التي لم تدرك أنَّ كل ما تسمعه وتراه هو بعيد كل البعد عن الحقيقة، وثقافة المادة وجنْيها من أجل شراء الرغيف، وثقافة النقل بين هذا وذاك، وثقافة المكائد، وفي مجموعها تبقى ثقافة الفرد الأنا ثقافة المال والذهب والنفط، وعلى الرغم من وجود البرجوازية العربية وانتشارها وامتلاكها لرؤوس الأموال؛ فإنها لم تستطع الاستثمار في الثقافة من أجل بناء شخصية الأمة، وبقي دورها منحصراً فيما ستجنيه لذاتها الفردية، وهذا يعني زيادة التخلف والتبعية وخسارة المشروع الثقافي، أي الصورة الاجتماعية الإنسانية على حساب نجاح الفرد، وحينما نطلُّ على الثقافة الأوروبية نجد أن الاستثمار الثقافي ورسم الصورة الثقافية لتلك المجتمعات كان بفضل برجوازييها الذين أسهموا في تحفيز الفكر والاستثمار فيه، فكانت لهم الصورة الحضارية التي تبهرنا الآن حينما نعترف في أعماقنا ولمن نثق بهم، وهنا نسأل ومراراً: لماذا الثقافة هي شخصية الأمة؟ أيُّ أمة تسعى لأن يكون لها حضور يُنظر إلى ما تحمله من ثقافة الحضور، والتي لا تحضر إلاّ باتحاد المادي مع اللامادي، أي: رؤية التصالح المتجلّي على رسمها وألوانه التي تنجز صورته الثقافية، وأثناء المصارحة التي نبتغيها فيما بيننا، وبحثنا عن المكونات الحضارية الحديثة والتي نتفاخر أثناء تداولنا لها، حيث لا نجد فيها أيَّ مصنوع جديد لدى أمتنا، إنما وافد جديد نتمثله تمثيلاً بيانياً في إدِّعاءٍ سرعان ما ينكشف على الآخر لنلجأ إلى ذلك الماضي البعيد، نتحدث به عن سومر وأكاد وزنوبيا والفراعنة واللات والعزى وعبد مناة، أية حضارة استحدثت وحديثة نتمتع بها؟، لا رسوم عالمية، لا منحوتات، لا سينما، لا عمارة، ولا رؤية بصرية، هي مجرد محاولات وطفرات وإبداعات فردية سرعان ما تتلقفها الأمم وتنسبها إليها .
الثقافة غايتها تهذيب الروح والشكل، وتأديب النفس والجسد، وتعليم العقل وتربيته، فهي ليست الحضارة، ولا تعني التمدّن والابتعاد عن الدين، بكون الدين سلوكاً ورادعاً أخلاقياً، تمتزج معه حينما يتفهمها حاملها، فيبدع بأمانة فيظهر كوحدة لا أبعاد لها، تشمخ به فيطال عنان الحقيقة، لا صورة وهمية أو خيالية، إنما هي شكل اجتماعي ينتمي إلى أمة، يرسم صورتها النهائية، بعيداً عن التشويش والمترادفات، يتطلع إليها الآخرون، يرونها أمة جميلة تتفهم عناصر الجمال؛ بل أكثر من ذلك تمتلكها، وحينما نحاول تعريفها مرة أخرى؛ بل مرات، - وأقصد الثقافة - لأنها ضدَّ اللاثقافة، أي: أنها على تضاد مع التخلّف والتأخر، نعترف بأنها العقل الذي يقبل التجدد، ويفسح مساحات لنمو الإبداع، ويقبل التجدّد والتطوّر واكتساب المهارات والخبرات، يمتلك بها لغة الحوار والجدل الإيجابي، فهي النشاط المحرِّك والمتحرِّك والمتجوِّل في العقل الإنساني ساعة يريد إظهار الانفعال، وإحداث الإنتاج المعرفي والمهني، وهنا أقصد مرة ثانية: أن الصور المادية لا تُحدث الظهور إلا بالتراكم الخبراتي الذي يؤدي إلى إنجاز الأدوات المادية، وبما أن استناد الثقافة العربية إلى التراكم الروحي دون الإبداع المادي فقد انحصرت صورتها في المستورد والمنقول والمترجم، لذلك هي فقيرة تعتمد على الفطرة والموه
بة اللاعلمية، ومنه تكمن سهولة اختراقها واستباحتها، فالاعتزاز بالانتماء إلى القيم السلوكية ذات القواعد العاطفية، والاعتماد عليها لم تستطع أن تشكل صورة واضحة للثقافة العربية، لذلك أتجرأ وأنفض ذاك الغبار الكثيف والمتراكم على الصورة الحقيقية لمفرد الأمة العربية، أي: إنسانها؛ الذي بدونه لا أمة، كما أنني لا أدعو إلى فكِّ عرى الارتباط بين الثقافة والدين، فالدين جوهر والثقافة مظهر، وبما أن الثقافة جمال فلا جمال بلا ثقافة ولا دين بلا جمال، ولا ثقافة بلا دين، أي لا روح بلا مادة ولا مادة بلا إبداع، أي لا دين بلا إبداع، ولا حديث بلا تطوير لا رسام بلا صورة، ولا صورة بلا ناظر وناقد وباحث، ولا تطور ولا إنجاز بدون التصميم الفكري؛ الذي تكمن به إرادة الإنجاز الشَّرطي، واللاشرطي، أي: المنعكس وغير المنعكس على ماذا؟ ومن أجل ماذا؟ ولماذا؟ في أي حضن ثقافي ننام، ونسترخي، ونأمل، ونحلم، وبماذا نحكم، وأيّ ريشة وأداة نستخدم لنرسم، لنتفكر في المطرقة والأزميل وأيّ شكل ننحت على جدار الزّمن، فهل نحن نسعى للارتقاء والبقاء، أم أننا زبد بحر وغثاء؟
مازلنا نمتلك ثقافة الحوت الأسود، ولم نتعرَّف أن منه ينبثق شعاع النور والحضور والبقاء، وهنا أُعرف ثقافة الأثر من الأثر الخالد؛ لا من بقاء الجسد الراحل، فبأي نعم نتحدث، وعن أي نعم أثر نترك للآخر كي يبحث في ثقافتنا الحديثة والمستحدثة؟، وكما ذكرت في اختلاف الحضارة عن الثقافة بكون الثقافة جزءاً من أجزاء الحضارة، وكذلك هي تختلف عن ثقافة الروح التي لا يمكن لنا أن نفصلها؛ بل نطلق العنان للاختلاف، حيث الروح سلوك فردي يتمتع به الإنسان بإرادة أو بدونها، ولا يمكن اعتباره ثقافة بكونه جزءاً منها، حيث منهجه ثابت لا تستطيع أن تبدِّله أو تحرِّف فيه، بينما تستطيع في الثقافة استبدال القلم والورق، وشطب اللوحة وإعادة رسمها، والتنقل في بستان الأفكار.
الحالة الروحية ومبادئها الدينية شجرة واحدة، لا يمكنك امتلاكها؛ بل عليك إن اخترتها اعتناقها والدوران فقط في فلكها، لذلك أكدتُ في هذا البحث على الشخصية الثقافية، وغاية الوصول إلى شخصية ثقافية عربية . اعذروني حينما أتجرأ على ذاتي وشخصيتي وانتمائي للأمة العربية؛ التي أصابها حزن عدم التمتع بهذه الشخصية، وتدور ضمن متاهات افتقادها.
أسئلة تنتابني ضمن شعور الوجدان الخائف منها وعليها، فلا انتماء بلا أداء، ولا أداء بلا انتماء، والثقافة اتحاد الانتماء والأداء، فإلى أي ثقافة ننتمي؟ والكلُّ على اختلافه يتغنى بكانت- وغوته- ونيتشه- وفيخته- وموليير- وبودلير- وشكسبير- ومايكل أنجلو- ودافنشي- وسلفادور دالي- وموزارت- وباخ- وتشايكوفسكي- وديستوفسكي- وهيغل- وفورباخ- وماركس- وأنجلز- وماو- وغيفارا وهمينغواي- وأجاثا كريستي، هذا عداك عن أباطرة الثقافة القدماء: أرسطو- و أفلاطون- وجلجامش وهوميروس- وفرجيل، حتى أن ابن خلدون وثقافته العريضة الواسعة والفريدة لم نستطع أن ننجب مثلها، هذا التغني الثقافي الذي يتمتع به مثقفونا العرب يدعونا للتوقف عنده لنسأله: أين نحن، وأنتم منهم، أين هي ثقافتكم ثقافتنا؟، لم نسمع حتى اللحظة أن مثقفاً غربياً أو شرقياً تغنّى بمثقف عربي أو استشهد به أو استعار بعضاً من جمله؛ التي أثرت في أمَّة من الأمم، وغدت مثلاً من أمثالها، أو لحناً من ألحانها، أو لوحة فنية من لوحاتها، أو عمارة متفرِّدة من عماراتها،- بغضِّ النظر عن حضاراتنا القديمة- أين نحن؟ .
فالأمل دائماً يكون في السلوك الإيجابي ذي الثقافة التطويرية، بِكَون المجتمع الصادق يتطور بتأثير أهل الثقافة إلى المجتمع وتأثير المدافعين عن الحقيقة، وروابط الحبِّ وبناء الجمال، فالسلوك هو شخصية المثقف، ومهما بلغت ثقافته وكان سلوكه سلبياً لا تحضر ثقافته؛ بل تنتفي بمجرد قيامه بفعل سلبي، فللمثقفين كرامة واحترام توجدها لهم أفعالهم، وحواراتهم، وانتماؤهم لمجتمعهم، فثقافة أيِّ مجتمع محكومة من سلوكه، وكلما كان السلوك مثقفاً وفاعلاً كان حقيقياً، وقف إلى جانبه المجتمع وانجذب إليه الآخرون .
ثقافتنا العربية تنادي شخصيتنا، حضورنا أين نحن غائبون؟ تطالبنا بأن نكون حقيقيين، تدعونا لمعرفة جغرافيتنا وتاريخنا المسجل عليها، تحرِّض فينا حاجتنا الحقيقية للتقدم بمجتمعنا إلى الأمام وإلى الأفضل، وتدعونا لفكر الجماعة، لا أن نكون فرديين متنقلين بين هذه الجغرافيا وتلك، منتمين ولا منتمين، فالمثقف الحقيقي لا يمكن له إلاّ أن يكون مع مجتمعه وأمته أولاً وأخيراً .
لنقاوم كمثقفين الصدمة الحضارية القادمة إلينا من الثقافات الغربية الهّدامة، والتي تولد شعور الكآبة والتقوقع وتنجب فوضى الواقع، ليكن الحنين والحبُّ والانتماء شعار ثقافتنا، ولنمنع الاصطدام بالحضارات الأخرى ولنمنع تملكها، ولنزد في ثقافة الحوار والالتزام والإيمان بأننا أمة منجبة معطاءة قادرة على النهوض بتشارك أبنائها مبدعين ومثقفين.
إنني أبحث في ثقافتنا العربية وضرورة تضافر جميع الجهود لإظهارها بعد توحيدها، ومن أجل التخلص من ثقافة الأنا، والحدود والقيود، واعتماد المعايير الأخلاقية الناظمة لها، والإسراع في امتلاك علم الجمال الذي ينقش هوية مدننا وإنساننا ومجتمعنا .
التقدم ومهما لهثنا خلفه لن ندركه؛ إلاّ بعد امتلاك الشخصية الثقافية التي يتمتع بها الجميع، فتحدث للجميع اللّمع، وحين حضورها بألقها الجميل القادم من امتلاك علم الجمال وفهمه وتذوّقه؛ تغدو الشخصية العربية حاملة للثقافة العربية ثقافة الأُسر، والمجتمع، والأحياء، والقرى والبلدات، والمدن، والدول تنضوي تحت اسمها العظيم الكبير "الثقافة العربية"، نتباهى بها، تأخذ بنا على سلّم المجد والحضور.
د.نبيل طعمة
المصدر : الباحثون 32 - شباط 2010