يمثل التراث لدى أمة من الأمم تواصلاً فكرياً ونفسياً واجتماعياً بين الماضي والحاضر، ويبرز صورة من شخصيتها الحضارية؛ بما يختزنه من تجارب ومعارف أسهمت في بناء حضارة الإنسان.
وقد تعاقبت أقلام الباحثين شرقاً وغرباً على دراسة التراث العربي؛ ولاسيما الديني... واختلفت الآراء فيه؛ فمنها ما جعله عبئاً على التقدّم الحضاري للأمة العربية، ومنها ما رأى فيه الخلاص لمشكلات الأمة المستعصية، ولذلك كلّه كانت كلمتنا هذه.
ونرى إنه لا أحد يشك في أن التراث العربي قد حوى شيئاً غير قليل من المعارف الثقافية والتجارب الكثيرة التي أظهرت حيويته وفعاليته في بناء حضارة الأجداد... ولعل أغلبنا ليس مع أولئك الذين نزَّهوا التراث عن كل عيب؛ فالتراث ليس صنماً للعبادة والتقديس؛ ثم ليست النظرة إليه نظرة الإحساس بالجامد، وإن كان الاعتقاد به اعتقاداً مرهفاً وواعياً. فالتراث إنّما هو حركة في التاريخ لتعميق النزوع في الوجود والتأثير فيه، ولهذا يصبح استلهامه استمراراً لتجديد حياة الأمة.
إن التفاعل مع التراث يتجاوز النظرة التراكمية التأثرية له بوصفها تؤدي إلى ردة فعل تراكمي، إن لم نقل: إنها تخلق في نفوس مثقفينا أزمة فكرية ونفسية؛ بل حضارية ولهذا ينبغي أن يرتفعوا عنها إلى مستوى الفهم والتحليل... ولا يمكن لأمتهم أن تتهيأ لبناء مستقبلها وقد جهلت فهم ماضيها، أو حين راحت تتعامل معه تعاملاً سكونياً... فالتاريخ بكل ما فيه لم يخلق ليحنط في زوايا الذاكرة والسجود له في محراب المعرفة والثقافة، وإنما وجد ليتعظ به الإنسان، ومَنْ أخفق في تعلم عِبَره كُتب عليه تكرارها... فالزمن مطلق ومتغير ونحن الذين نمشي في دورته؛ وعلينا أن نعتبر بأحداثه، وارتشاف العطر منه.
فالإرث الحضاري لأجيالنا يفترض أن يكون حافزاً لها ودافعاً لبناء الأمة وفق أسس سليمة؛ أي إنه محرك لها لبناء العلاقة معه بشكل صحيح؛ ومن ثم الانطلاق بمنهج علمي سديد لأخذ ما نحتاج منه في عملية التطوير والبناء... ومن هنا يأتي التمسك بالتراث والاعتزاز به، بوصفه يمثل ذاكرة الأمة الواعية لتاريخها وحضارتها.
ومن ثم فالحداثة تتطلب من أبناء الأمة المثقفين المتمتعين بالحرية والوعي الانفتاحَ على التراث واستحضاره، وفي الوقت نفسه يتطلب منهم الانفتاح على حضارة الإنسان وثقافة الآخر أينما كان... فالفكر العلمي الحر والنقدي الأصيل يسلك طريق المواجهة دون أن يقع في صراع سلبي بين الذات والآخر... علماً أن هناك كثيراً من الأحكام الظالمة التي نلصقها بتراثنا؛ وبعض منها ناشئ عن فهمنا الخاطئ في القياس المنطلق من المعايير المستحدثة، ونسخ منهج الآخر وفكره. فقيَم أي مجتمع وتجاربه في أي عصر أو أي مكان لا يمكن أن تكون عامة... ولا منسوخة، وإنما هي صورة أصيلة لحياته وتراثه على الدوام، كما أن استلهام التراث لا يقوم على مجرد التأثر والاقتباس والتضمين والنقل؛ وكذلك ليس هو عملية توفيق وتلفيق بينه وبين ثقافات الآخر... فالتوافقات غالباً تؤدي إلى عملية مشوّهة وتحكم بالتراجع والتبعية ومن ثم التخلف، فضلاً عن أن التوافقات تتصف بالآنية والمنافع المحدودة، ما يجعلها تعترض مع المبادئ والقيم النبيلة غير ما مرة، إذا لم تؤجج التنازع مع التراث، واستشراء الخلاف مع الآخر...
لهذا يصبح مضمون التراث ذا جمالية خاصة حين ينظر إليه على إنه مجموعة من المعارف والقيم التي تسهم في بناء المعارف المستمرة، وتقدم تصوراً خاصاً وفاعلاً لبناء المستقبل الحضاري للأمة... ومن هنا لا بدّ من استحضار التراث لصهر الماضي بالحاضر وتقديمه في إطار أفكار مستحدثة قائمة على أسلوب الحوار البنّاء المستمد من النزعة الإنسانية.
وهذا كلّه يعني أن التراث ليس عائقاً أمام التطور الحضاري للأمة ومن ثم الإنساني...
ما يفرض علينا أن نعرض مفهوم اللغة للتراث؛ فالتراث عند كثير من اللغويين وبعض الشعراء يقابل الإرث، والوِرْث؛ والميراث... والتراث كل ما تركه السلف للخلف من مال وفكر وعلم وعادات وتقاليد... ومجد وسؤدد؛ كقول الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم:
ليهنئ تراثي تغلب بن وائل إذا نزلوا بين العُذَيب وخَفَّان
وقيل: الوِرْث للميراث في المال، والإرث في الحسب، والميراث في ذلك كلّه؛ كقوله تعالى: (ولله ميراث السموات والأرض، والله بما تعملون خبير)[آل عمران: 3/180]. وقوله: (وما لكم ألّا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض([الحديد: 57/10]... وإذا كان لفظ الميراث قد ورد مرتين في القرآن الكريم، فإن التراث ورد مرّة واحدة في قوله تعالى: (وتأكلون التراث أكلاً لماً)[الفجر: 89/19] ووقع معناه على المال؛ وإن كان يستعمل في غيره كما في حديث الدعاء: (وإليك مآبي ولك تراثي) لأنه مصوغ من فعل ورث؛ إذ قيل: إن أصل التاء واو، ثم قلبت تاء... ومثله الإرث، أما الورث فهو مصوغ من دون قلب...
والفعل في ذلك: وَرِث يَرِث، ونَرِثُ كقوله تعالى: (ونرثه ما يقول ويأتينا فرداً)[مريم: 19/م80]، وقوله: (يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربِّ رضياً)[مريم: 19/6].
وقال الشاعر:
فإن تك ذا عز حديث فإنهم لهم إرث مجد لم تخنه زوافره
ويستعمل الفعل ورث مزيداً فنقول: أورث، يُوْرِث، إيراثاً، كقوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)[فاطر: 35/32]، وقوله: (وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء)[الزمر: 39/74]؛ وقوله: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده)[الأعراف: 7/128، وانظر مريم: 19/63]. ويُزاد الفعل بالتضعيف فنقول: ورَّث يورِّث توريثاً، فورَّث القوم المال، تناقلوه كابراً عن كابر. وورد في الحديث لفظ يورِّث: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه يُوَرِّثه)(الجامع الصغير: 7914، وانظر رقم: 7913)، وكذلك يستعمل فعل يتوارث من توارث في المال وغيره، فنقول توارث القوم المال والود... وعليه قول الرسول الكريم: (الود يتوارث والبغض يتوارث)(الجامع الصغير: 9668، وانظر فيه: 9667 و9669).
أما الموروث فهو اسم مفعول من وُرث، وكذا متوارث من توورث... واسم الفاعل وارث من ورث كقول الرسول: (لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة)(الجامع الصغير: 9751)، وقوله تعالى: (ونحن الوارثون)[الحجر: 15/23]... والمتوارث من توارث.
والمواريث جمع الموروث والميراث، أما الورثة فهو جمع وارث كما في قوله تعالى: (واجعلني من ورثة جنة النعيم)[الشعراء: 26/95]، وقد ورد قبل سطرين في الحديث الشريف.
ودخل فعل ورث وصيغه الأخرى في مفهوم ظاهرة الاشتراك اللغوي، فنقول: أورث المرض الإنسان ضعفاً؛ أي: أعقبه.
وهذا كلّه يثبت مدى اهتمام اللغة بمصطلح التراث وما يتصل به؛ وقد أبرزت التجارب الواقعية والتاريخية والممارسة الحرّة لبناء حضارة أمتنا أهمية التراث وقيمته وما وقع من إشكاليات في فهمه واستلهام الدروس منه...
فنحن نعيش تراثنا في كثير من شؤون حياتنا، نحسّ به في كل نفَس من أنفاسِنا؛ ويؤثر فينا تأثيراً عظيماً؛ فتنتشي القلوب لذكره وتتحفّز العقول لتلقفه... لهذا فهو يوجه فعلنا الخلقي والثقافي والاجتماعي؛ لأنه يرسم حدود عاداتنا وتقاليدنا...
فالتراث العربي - بهذا المفهوم - يشكل كتلة حضارية بوصفه وثيقة تاريخية نفسية وفكرية وأدبية ولغوية واجتماعية وتربوية واقتصادية وفنية... إنه إنجاز حضاري لأمتنا في مرحلة من مراحل الحضارة الإنسانية في شؤون شتى في الفلك والرياضيات والجغرافية والكيمياء والطب والنقد والفن...
فالتراث العربي - وفق هذه التصورات - يعدّ بحد ذاته جزءاً لا يتجزأ من تراث الأمم، وهو قيمة كبرى لا يجوز أن نغيرها أو ننتقص من معطياتها... فما بالنا نحاكم تاريخنا في كل لحظة ونضعه في قفص الاتهام ننعته بنعوت لا تليق بإنجازاته العظيمة؛ وكأننا نسينا سنّة الكون التي وضعها الله لخلقه كما يدل عليها قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت، لها ما كسَبَت ولكم ما كسبتمْ، ولا تُسألون عمّا كانوا يعملون)([البقرة: 2/134]؟
وقد ابتلي تراثنا بتأويلات مشوّهة لأفكار الأجداد، أو توهمات جاءت من أناس لم يدركوه إما بحجة فهمه وإما بحجة تطويره... فحين نعود إلى التراث لا نعود إليه لتزوير ما اشتمل عليه، أو الانحراف به لغايات شتى... إنما نعود إليه لنقرأه قراءة واعية علمية، ونستحضر منه ما يخدم أغراضنا المشروعة في بناء ثقافة عربية موحدة وشمولية ومتنوعة... فالوظيفة الثقافية الحضارية للتراث ليست مجرد عرض لحدث تاريخي لفكرة تستهوي هذه الفئة أو تلك، وإنما هي فعل كوني لا حدود له؛ يتجدد بتجدد الطموحات، ويتطور بتطور أنماط المعرفة... فهو ممتد في الحاضر والمستقبل، وليس معزولاً عن جسم الحضارة أياً كان موقعها. وحين ندرس التراث إنما ندرسه من موقع الثقة به لا من موقع اتهامه أو رفضه وتغييره، أو الاستهزاء به والحط منه..
لهذا حين ندرس التراث إنما نؤسس في ضوئه حلاً لجملة من مشكلات واقعنا الذي نعيش فيه، ما يجعله يسهم في الحفاظ على خصائصنا الذاتية وهويتنا الفكرية... وفي آن معاً يجنبنا مزالق شتى، قد نقع فيها؛ إذا كانت قد مرّت سابقاً. وعلينا أن ندرسه وفق مقتضيات المنهج النقدي العلمي والمعرفي الصحيح، وفي إطار متطلبات العقل المنطقي الواعي لقضايا الأمة، وحاجة العصر إلى المعرفة؛ فهو وسيلة اعتبار ودرس وارتقاء في الفعل الثقافي الحضاري... ولو فعلنا غيْر هذا لوقفنا في صف واحد مع بعض مدارس الاستشراق، ممن قرأ تراثنا قراءة انتقائية توافق رغباته المنحرفة والاستعمارية...
وهذا كلّه يؤكد قيمة التراث وأهميته ويلزمنا في الوقت نفسه أن نطور خطابنا التراثي خاصة، والثقافي عامة ليصبح أداة فعل مؤثر دون أن ينتهي بنا المنهج في الاستقراء والاستبطان والتأويل إلى الوقوع في مطب الوهم والزيف والقصور، أو الانغلاق والتراجع ومن ثم التخلّف والانهيار...
وإذا كان الانتماء ليس شرطاً للثقافة وبناء الأمة فإن الوعي العلمي والمعرفي والمنهج الدقيق لاستيعاب التراث شرط لذلك فضلاً عن إنه يؤكد الانتماء الفعّال لأي فرد منّا.
المصدر : الباحثون العدد 64 تشرين الأول 2012