لحظة أن عرف الإنسان سوءته وفهِم شهوته المادّية المتعددة، والتي لا حدود لها؛ أراد أن يؤطرها كي لا تكون مستباحة من باب خصوصيتها، وكذلك إسدال السترة عليها لتفصله عن الآخر نظيره المتكون من اتحاد نصفي الإنسان، تحت مسمّى المساكنة، التي لا تتم إلاّ إذا توفر السكن حاجة الساكن، لتتكون لغة قدسيّة البيت المقدس والمحرم الجامع لطهر الإنسان وحضوره الاجتماعي؛ الذي جعله مثابة للناس وأمناً، إضافة لحضوره كأساس لتكوين الأُسر، وبدايتها إنشاء فلسفة البحث حينما يتواجدان ضمنه عن حقهم في السكينة.
إذاً، هي ثلاثية وجود المخلوق الإنساني، اختص بها بعد أن منحته المنزلة الكونية خصوصية الشخصية الإنسانية، فتفرَّد بها، وهيأت له منزلة من المنازل القمرية وتوافقت معه لتكون على قدر ما يحمله جوهره، تخترقه من مظهره، كما هي أشعة الشمس المنسابة عبر نوافذ البيوت السكنية حصراً، وكذلك كانت ضرورتها مطلبية من كل ساكن يسكن في سكن، من باب اتحاد المعنيَين المتجلّيَين على الهدوء، أي أن حدوث الهدوء يصيب الطرفين، مما يؤدي إلى السكينة الحاملة للحب لا للضغينة وللغة المساكنة القائمة على ثنائية الأرض والسماء، منجباً الحياة والذكر والأنثى، وفيها كان الاستمرار، وظهور صداقة المساكنة والمزاملة والمعاملة الحسنة، أي إن البيت حقيقة السكن الحيّ، وعلى العكس السكون النهائي الذي يعني نهاية الحياة.
ومنه نبدأ بأن السكينة هي الطمأنينة، تمنح الساكن القدرة على الحب والتأمل والراحة الجسدية، ومنها يكون الوصول إلى أفكار التطور وخلق الإبداع، وكذلك تكون في مركب المؤمن تمنحه قوة حضور الروح، أي: فائض النشاط الذهني فلا يهاب بها الصعاب، وكذلك تعود السكينة به إلى محاسبة ذاته، ومراجعة أسباب خوفه أو عصيانه، والتعرّف إلى أخطائه وهفواته وهناته؛ لتأخذ به إن امتلكها إلى ظهورها على روحه وقلبه وعقله وجوارحه، مشكِّلة له صفات سامية يتطلّع إليها الآخرون، وكذلك يُشار إليه بحسن التعامل والحضور، وكلّ ذلك أساسه البيت، المنزل المنشود منه أن يمتلك الساكن السكينة، فتُبنى ضمنه لغة التراحم والحب والاحترام.
ومنه نجد أن البيت المعمور انتسب إليه المسجد والمعبد والكنيسة والكنيس، بحكم منع المساكنة ضمن أبعاده المعمارية، فكان الصفاء للذات الحاملة للروح والمعنى والمغنى والمغزى، بينما جاوره بيت السكن والساكن وتشابها في الإيمان: بأن السكينة مطلب روحي وإيماني، دعا إليه الكلّي، وسمح بممارسته ضمن المنزل؛ الممنوح من المنزلة ليتحول إلى سكن يسكنه، وغايته إنجاب الاستمرار الكوني، وبشكل خاص الإنساني، ومن ثم الحيواني والنباتي.
عليه نجد أن بيت العرب شرفهم، ومنه كانت بيوتات العرب، وإن نوحاً في آخر دورة حياتية عليه السلام قال: رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي، فكان أن سمّى سفينته التي ركبها أيام الطوفان العظيم "بيتنا"، وهنا نفرِّق بين بيوت الشِّعر المشتقة من بيوت الخباء التي تلبس الصغير والكبير كالرّجز والطويل، فكانت لغته أسباباً وأوتاداً تشبيهاً بأسباب البيوت وأوتادها، والجمع أبيات، وكذلك أيضاً كان البيت الحرام/ الكعبة، والبيت النهائي القبر من باب: صاحب ملحوب فجعنا بيومه... وعند الرداع بيت آخر كوثر، وكذلك كان أوهن البيوت بيت العنكبوت.
أبتعد عن كل ذلك.. عائداً إلى السكن والمساكنة، وغايتنا الحصول على السكينة، منطلقاً من أن السرير المسطح ضمن منزلة البيت، هو الوطن الأول والأخير، المسؤول عن امتلاك المواطنة الرافعة المؤدية لظهور وطن، ومنها نمتلك معرفة أن الأنثى هي صاحبة التوطين، فبعد أن شعرت بحملها، وأن هناك متكون يتكون في داخلها، بعد أن عاشت مفهوم المساكنة بوعي أو بدونه؛ أيقنت في عمقها بضرورة الحفاظ على المتكون الكائن في داخلها، ولذلك نجد أنها طالبت بتسوير محيطها حيث أنجزت به لغة سكنها، أي: بيتها الذي مارست على أرضه أو سريره المسطح فكرة وجودها، وضرورة استمرارها واستمرار ذكرها، فما معنى كل هذا الذي نسير إليه..؟ المساكنة التي لا تتم إلا من خلال وجود السكن الحامل للسكينة.
أيها الناس، أيها الناسون سكنكم، أيها المؤمنون بجوهركم أياً كانت صورتكم التي رسمها أجدادكم وآباؤكم؛ ابحثوا عن سكنكم، فلن تصلوا إليه إلاّ من خلال إيمانكم بأنكم وحدةَ واحدٍ فيكم تجلّى وتوحّدا، أي إنكم جنس الإنسان بشطريه الذكر والأنثى لن تصلوا إلى صورة الحياة المثلى دون التوحّد، هذا الذي نحمِّله دائماً وأبداً مسؤولية استمرارنا، فكيف بنا نكون دون السكن، والساكن، والمسكون، والبيت البائد والمعمور، والمنزلة القمرية القادمة من لغة الحروف العربية الثماني والعشرين المتجسِّدة في لغة التكوين السبعة ومضاعفاتها؛ لتصل إلى الثماني والعشرين حيث مكوّن الكلّي قائل: "كن فيكون".
جاء في العهد القديم "لأن يوماً واحداً في ديارك خيرٌ من ألف، اخترت الوقوف على العتبة في بيت إلهي على السكن في خيام الأشرار" (مز 84: 10) وسطّر العهد الجديد "فإن كنت ما لست أريده إياه افعل فلست بعد أفعله أنا بل الخطية الساكنة فيَّ " (رو 7: 20)، بينما القرآن الكريم يقول: "هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها".. بذلك أجدني آملاً من لغة المتأمِّل في مفهوم السكن والساكن والسكينة أن أقدم لغةً حول مفهوم الحب المنجب لضرورة تمسِّك الإنسان بأخيه الإنسان، وتقديم لغة الحوار بحكم التقابل والتجاور والسكن والمساكنة، لأن جميعنا يبحث في جوهره عن السكينة، فهذا وطننا ونحن مواطنوه، وبه بنينا سكننا وبيوتنا المقدّسة والمسكونة.. فهل نداريه بشكل حسن؟!.
د.نبيل طعمة
المصدر : الباحثون العدد 64 تشرين الأول 2012