لا تكفي لرؤية الآخر والحكم له أو عليه، فكيف بها تكون قادرة على متابعة ومشاهدة أحداث العالم، وكذلك حال الأذن الواحدة أو اليد الفريدة أو القدم العرجاء؟ ومن ذلك يظهر الشيء المسمّى إنساناً ناقصاً من التقويم الحسن الذي جُبل عليه، رغم وجود حالات ظرفية أو طارئة أو خلقية يشار إليها بأنها استثناء القاعدة أو شواذّها، وفي ذات الوقت يعتبر الإنسان هو المؤسِّس الأول والأخير لفكرة العالم، حيث انتشر وتوسّع إلى عوالم من عالمه الخاص، فكان مجموعاً استفرد به، وحمل نظرية الخير والشر المسقطة على البناء السليم، وما يقع عليه من فساد، أو تحاك له عمليات الإفساد التي لا تنجح إلا في حال إغماض عينٍ والنظر إليه بعين واحدة؛ والتي بالتأكيد ترينا إياه غير مكتمل، ليستمر الضخ فيه، وفي ذات الوقت يتناهبه الفساد، وتكتمل نظرية الرؤية المتبادلة للعين الواحدة، أي يرانا كما نراه، فهل هذا صحيح أو هو كافٍ للإشارة إلى تلك العلاقة الفارقة التي تميِّز بين التشابه مهما بلغ من الدقة، وبين التضاد بقوة حضور فوارقه، وهل علينا كذلك إدراك سعينا فيه، أي: إن إحداث رؤية تصورية لتطوير عالمنا الخاص لا تتم إلا من خلال الإيمان بثنائية الوجود المنتجة والمنجبة والمؤثرة، وأيضاً التأمّل العميق في ثنائية البناء الإنساني المنتشرة على خريطة الجسد والدخول إليه، والتجول فيه أو الخروج منه، ومراقبته بدقة، بكون جوهره يمتلك عينيه: عين القلب وعين العقل، كما أن العملية التشاركية تحتاج أيضاً إلى طرفين، حيث تغدو المعادلة سليمة ونتائجها منطقية، ونصل معها إلى عملية الاعتدال، أي "لا عرجة ولا عورة".. وتحقق فلسفة الوسطية التي تظهر كحل أو خيار ثالث بين طرفين، تترافق مع الاعتدال المتكون من إدراك كافة الظروف ونتائج رؤية جميع السبل، والانتهاء من فحص الخيارات، مرتكزاً على الإيمان بالتعدد والتنوع المشكلين الرئيسين للأسس الديمقراطية، ولغة الحرية وسبل الوصول الإيجابي إلى الهدف القابع في نهاية الطريق..
كما أنك بالعين الواحدة لا يمكن أن ترى كامل الشيء، ولا حقيقة الهدف؛ من باب ضعفها الذي يبعدك عن الحبِّ، وبكونك لا تستطيع تقسيمها بكونها مفرداً، إنما جزء منه، وربما تذهب بك بعيداً عنه، أو تحرفك إلى مستنقعات الرمال المتحركة دائماً وأبداً.
عين واحدة لا يمكن لها أن تغمز، فإذا فعلت أنهَت صاحبها وأطاحت به إلى الهاوية، وفي ذات الوقت لا يمكن لها أن تسيطر على العالم بعوالمه المتعددة والمتنوعة، كما أنها لن تستطيع بمفردها أن تلمَّ بحيثيات الإدارة، وعين واحدة على الحدث أو الأحداث لا تكفي، وعين واحدة للمتابعة وإقرار الحق أيضاً لا تكفي، فالاعتدال يؤدي للعدل الذي يحتاج لعينين باصرتين، وأذنين سامعتين للاختلاف، وقدمين كي لا يكون المرء أعرج، ويدين تساعد الآخر وتخدمه وتسلم عليه لا تستسلم له، بهذا تتحقق العدالة.. ومنها نذكر ما جاء في الكتاب المقدس الذي تحدّث عن آلية بناء الصيغة الإنسانية بعيداً عن تلك العين الواحدة الموصوفة بالدجل، وبأنها الإله القادم للسيطرة على البشرية جمعاء، فإذا تاهت العينان تاهت الحقيقة.. نبحث عنها نجد ذكرها في الكتاب المقدس العهد القديم لا 26: 16 (فإني أعمل هذه بكم. أسلط عليكم رعباً وسلاً وحمّى تفني العينين وتتلف النفس وتزرعون باطلاً زرعكم فيأكله أعداؤكم ) و مز 35: 19( لا يشمت بي الذين هم أعدائي باطلاً ولا يتغامز بالعين الذين يبغضونني بلا سبب) وكذلك أيضاً نجدها في الكتاب المكنون حيث قال: (( أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُّبَدًا أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ )).
عينان تمثلان ثنائية الحياة، واحدة تراقب الخير وتحثّ عليه، وواحدة تراقب الشر كي تمنعه؛ إلا إذا كان حاملها شريراً دجالاً.. عليه نجد أن العين الواحدة لا يمكن لها أن تدير عالمنا، لكنها رمزية مستعارة كما هي عين الله، ويمكن أن تكون شعاراً في قمة هرم، أو رمزاً للحب الساكن في أشعتها بين موقها وحدقتها وماء بياضها الصافي، بعيداً عن لغة السيطرة، وإخضاع الآخر، أو عالم من العوالم، أو العوالم لسلطتها.
د.نبيل طعمة
المصدر : الباحثون العدد 65 تشرين الثاني 2012