بلع التمدّن أوج عظمته في بلاد العرب مع انتشار الدعوة الإسلامية، وسيادة الحكم العربي في مشارق الأرض ومغاربها، وقد تجلّت عظمة الدولة بأرقى وجوهها في الحضارة الزاهية التي تألقت في الإبداع الفكري والعمل الخيري، لتؤكد أن العرب كانوا جديرين بوصفهم: رسل خير ورحمة، وسدنة علم وعرفان، وهو ما دفع المؤرخين والباحثين في شرق وغرب للاعتراف بأن حضارة الإسلام كانت سبّاقة إلى ميدان المعارف، ولها اليد الطولى في كل ما أنجزه العقل البشري من تقدّم طوال القرون.
دور خيري ودور علمي:
من المؤكد أن عرض الوجوه المضيئة لحضارة العرب المسلمين بحاجة إلى مؤلفات ومجلّدات، وهو ما فعله المؤرخون بإعجاب وحماسة، لكننا نقدم هنا وجهاً إنسانياً مشرقاً من وجوه حضارتنا، وهو الاهتمام بصحة الناس، وتقديم الرعاية والخدمات للجرحى والمرضى وذوي الحاجات الخاصة، والإنفاق على الملاجئ الخيرية والمشافي، وتخصيص الأوقاف لتمكينها من تقديم خدماتها على الوجه الأمثل، وكان لهذه المرافق الطبية إضافة إلى دورها الخيري وأثرها الاجتماعي، هدف آخر وهو الدور العلمي المتمثّل في تقدّم علم الطب بما أولاه لها نوابغ الأطباء من عناية، سواء في عملهم اليومي، أو في الدروس الطبية والامتحانات الخاصة بالأطباء والصيادلة، بحيث مثّلت المشافي يومذاك جامعات طبية تقدّم فيها الدروس النظرية والعملية، الأمر الذي جعل الباحثون ينحنون إجلالاً وتقديراً لأولئك الأعلام الأفذاذ الذين كانوا الروّاد الحقيقيين في هذا الميدان الإنساني العريق.
البيمارستان مشفى وجامعة علمية:
مثّلت البيمارستانات بصورة واضحة واحدة من المنشآت والعمائر الإنسانية كالمساجد والمدارس والتكايا، التي شيّدها السلاطين والحكام والأمراء وأهل الخير صدقة وحسنة وخدمة للناس وتخليداً لذكرهم، ولم تكن مهمة البيمارستانات قاصرة على مداواة المرضى، بل كانت في الوقت نفسه معاهد علمية ومدارس لتعليم الطب، يتخرج منها الأطباء والجراحون والكحالون، ومثّلت البيمارستانات مستشفيات عامة، تُعالج فيها جميع الأمراض والعلل من باطنية وجراحية ورمدية وعقلية، وقد قسمت إلى قسمين منفصلين، قسم للذكور وآخر للإناث. وكل قسم مجهّز بما يحتاج إليه من آلة وعدّة، وخدم وقوّام ومشرفين، وفي كل قسم أيضاً قاعات لكل نوع من الحالات المرضية، كما أُلحقت بالبيمارستان صيدلية تؤمن الدواء للمرضى وتُصرف لهم مجاناً.
1- البيمارستان الصغير (الدقاقي) – أول مشفى في الإسلام:
يعدّ الوليد بن عبد الملك «الخليفة الأموي السادس» (86هـ 705م) أول من أنشأ البيمارستان للمرضى في الشام.
قال تقي الدين المقريزي في كتابه الخطط والآثار «أول من بنى البيمارستان في الإسلام ودار المرضى الوليد بن عبد الملك وهو أيضاً أول من عمل دار الضيافة وذلك عام 88هـ/706م، وجعل في البيمارستان الأطباء وأجرى عليهم الأرزاق وأمر بحبس المجذومين لئلا يخرجوا وأجرى عليهم وعلى العميان الأرزاق» (الطبري تاريخ الرسل والملوك جزء 5) ولم يصل إلينا علم أو إشارة عن المكان الذي أنشأ فيه الوليد البيمارستان.
ومن المنطقي أن يكون الوليد قد أمر ببناء هذا البيمارستان في قلب مدينة دمشق الروحي والتجاري النابض حول مسجد بني أمية، فهل كان موقعه هو موقع البيمارستان الدقاقي؟!! هل كان موقعه في منطقة باب البريد غربي موقع الجامع الأموي الذي لم يكن قد بدئ ببنائه بعد؟ هذه المنطقة الإدارية الهامة التي كانت تنتقل منها (بُرُد) الخلافة إلى سائر أرجاء الإمبراطورية.
المارستان الصغير في القرن الثاني عشر:
قال ابن شقده في كتابه منتخب شذرات الذهب: البيمارستان الصغير بدمشق أقدم من البيمارستان النوري وكان محله قبلي مطهرة الجامع الأموي، وأول من عمّره بيتاً وخرَّب رسوم البيمارستان منه أبو الفضل الأخنائي ثمّ ملكه بعده أخوه البرهان الأخنائي، وهو تحت المئذنة الغربية بالجامع الأموي من جهة الغرب، ويُنسب إلى إنه عمارة معاوية وابنه.
وقال العلاّمة الباحث بدران الذي كان يقوم بأبحاث ميدانية لتحقيق مواضع المدارس والربط وغيرها، إنه فتّش عن مكانه (ولا رسم له الآن ولا طلل).
«ويتحدث عنه الحسن الأربلي (ت 726هـ) ويحدد مكانه بأنه كان قبلي بيوت الطهارة التي على باب الجامع الأموي جنوبي الواجهة الغربية للجامع» حيث توجد الآن زنقات بائقي الحلى الصناعية ومحترفي التطريز، ويقول إنه يُسمى بالمارستان الدقاقي نسبة إلى ملك دمشق السلجوقي «دقاق بن تتش ألب أرسلان» (487 – 497هـ).
وذُكر أن الطبيب الصوفي الحسن بن أحمد بن زفر الأربلي كان رئيساً له أو طبيباً فيه وتوفي فيه، وقد خدم في هذا البيمارستان (الحكيم) عز الدين إبراهيم بن محمد المعروف بابن «السويدي» ولم يزل طبيباً في البيمارستان النوري..
«وخدم أيضاً في البيمارستان بباب البريد وتردد إلى قلعة دمشق وكان مدرّس الدخوارية» كما خدم فيه فيما يبدو رشيد الدين ابن أبي أُصيبعة عم مؤلف طبقات الأطباء (579 – 616هـ).
واستدعاه الملك العادل.. وولاّه طب المارستانَين بدمشق اللذين أوقفهما الملك العادل نور الدين، فكان يتردّد إليهما وإلى القلعة، وأحد هذين المارستانين هو المارستان الصغير الذي أعاد ترميمه نور الدين.
يقول ابن جبير «إنه كان في القرن السادس بدمشق نحو عشرين مدرسة وبها مارستانان قديم وحديث، والحديث أحفلهما وأكبرهما»
أن ما يهمنا هنا هو حديث ابن شقده الصريح: إن هذا البيمارستان الذي تعددت أسماؤه انتهى أجله حين قرر بعض رؤساء دمشق وأصحاب النفوذ فيها - وهو قاضي دمشق برهان الدين إبراهيم بن أحمد الأخنائي الشافعي الدمشقي من العلماء والرؤساء وأحد قضاة العدل المتوفي عام 954هـ - تحويله إلى دور للسكن.
2- البيمارستان النوري الكبير.. مشفى وكلية لتدريس العلوم الطبيّة:
ما إن استقر السلطان «نور الدين» عام 549هـ بدمشق حتى أعطى أوامره ببناء عدة منشآت عسكرية دفاعية لتحمي أسوار البلاد، وعلمية ودينية لتعيد للجماهير ثقتها بنفسها.. ومن هذه الأبنية بناء بيمارستانه إثباتاً لمصداقيته وتجميعاً للناس حوله لتأييده ونصرته..
هذا ما نشاهده مدوناً تحت قبّة المدخل لدى تجديد البيمارستان في عهد قلاوون «المولى الشهيد السلطان الغازي في سبيل الله نور الدين أبو القاسم محمود بن زنك بن آق سنقر قدس الله روحه» ومن شرط وقفه الذي أشهد به على نفسه أنه وقف البيمارستان المعروف بإنشائه وجعله مقراً لتداوي الفقراء والمنقطعين من المسلمين الذين يرجى برؤهم».
* جسر بين القائد والجماهير:
كانت مشاريع نور الدين كلها وسائل إلى خدمة أهدافه كما يقول العلاّمة صلاح الدين المنجد وهذا صحيح، ولكنها أهداف تخدم الجماهير الواسعة.. كان يريد توحيد الأمة وإلغاء حالة الأنانية المسيطرة على حكام ذلك الزمان التي أدّت إلى تسهيل الانتصارات الفرنجية الأولى، بسبب حالة التفتت والصراع الداخلي الذي اتّخذ أشكالاً مختلفة سياسية واجتماعية وطبقية ودينية ومذهبية..
ويسهب المؤرخون في الحديث عن سبب بنائه البيمارستان من مال فداء أحد زعماء الفرنجة الذي بلغ ثلاثمائة ألف دينار، ولعلّ بعض هذه الروايات كانت جزءاً من دعاية نفسية أراد بها إثارة الجماهير، لأنه كان سيبني هذا البيمارستان أو غيره حتى لو لم يكن هناك مال فداء، فببنائه المشافي والمدارس ودور الحديث وتحصين الأسوار وبناء الحصون وإقامة العدل، كان يبني جسراً بينه وبين الجماهير وهذه صفة عظماء الحكام الذين يرغبون ببناء الأمم والدول..
ولم يكن البناء بناءً بسيطاً عادياً، أراده أن يكون رمز عهد جديد ورمز رجل عظيم ونموذج دولة جديدة، فأتى تحفة لا نظير لها في ذلك العصر من الناحية المعمارية، ومن ناحية الأوقاف التي أوقفت عليه، ومن ناحية الخدمات التي قدّمت فيه. فقد أوقفه نور الدين على الفقراء دون الأغنياء، ولكنه استثنى بعض الأدوية التي لا توجد إلا فيه، فمكّن الأغنياء من أخذها إذا احتاجوا إليها ولم يجدوها في مكان آخر، وكان كل من جاء إلى البيمارستان طُبّب وأُعطي شرابه وإن كان غريباً احتُفي به وقُدّم إليه أحسن المآكل، وكانت المرضى التي ترد إليه كثيرة وكانت نفقاته تبلغ مبلغاً كبيراً، حتى إنه كان ينفق كل يوم خمسة عشر ديناراً، وكانت أسماء المرضى تثبّت في صحف وتكتب النفقات التي يحتاجون إليها من الأدوية والأغذية، فتقدم إليهم ويُعنى بأمرهم فلا يخرجون منه حتى يشفوا وكان (الخدّام) يترددون أمام المرضى يخدمونهم في كل ما يطلبون.
خدم هذا البيمارستان مدينة دمشق وغيرها منذ عام (549هـ/1154م) واستمرّ يخدمها بدون انقطاع حتى عام (1318هـ/1900م) حين بُني المشفى الحميدي المعروف بمشفى الغرباء وهو المشفى الوطني الحالي أول مشفى حديث في دمشق فانتقلت الخدمة إليه.
محطات في مسيرة البيمارستان:
1- في عام (549هـ/1154م) بدأ بناء البيمارستان، ولا تتوافر لدينا معلومات كافية عن المدة التي استغرقتها بناؤه، إلا أن المتأمّل في جودة تخطيطه وفخامة بنيانه وجمال زخرفته لا بدّ له أن يقدّر أن مدة بنائه قد استمرت أكثر من خمس سنوات.
ومن المعروف أن أحد المعماريين الموهوبين وهو النجار والنقّاش ثم المهندس فالطبيب أحمد بن عبد الكريم المعروف بالمهندس كان أحد الذين تركوا بصماتهم في بنائه، فقد ذكر ابن أبي أُصيبعه عنه إنه كان نجاراً وله بالنجارة اليد الطولى، وإن أكثر أبواب المارستان من نجارته وصنعته، وزاد الصفدي عنه فقال: إنه كان بارعاً في نقش الرخام.
2- في شعبان من عام (579) زُلزلت الأرض فأثّرت في الشام آثاراً قبيحة وخرّبت كثيراً من الدور بدمشق، زلزلة كبيرة أضرّت بالبيمارستان فأُعيد ترميمه..
3- في العهد الأيوبي الثاني ولّى الملك الجواد مظفر الدين يونس بن شمس الدين ممدود ابن الملك العادل رئاسة الطب في دمشق إلى طبيب شريف مخلص هو الحكيم بدر الدين قاضي بعلبك، وأصدر منشوراً برئاسته على سائر الحكماء في صناعة الطب، وأن يكون مدرساً للطب في مدرسة «الدخوار»، فجدّد من محاسن الطب ما درس وأعاد من الفضائل ما دثر، ذلك إنه لم يزل محباً لفعل الخيرات مفكراً في المصالح في سائر الأوقات، ومما وجدته قد صنعه من الآثار الحسنة التي تبقى مدى الأيام أنه اشترى دوراً كثيرة ملاصقة للبيمارستان.. واجتهد بنفسه وماله حتى أضاف هذه الدور المشتراة إليه وجعلها من جملته وكبّر بها قاعات كانت صغيرة للمرضى.. وجعل الماء فيها جارياً فتكمل بها ذلك البيمارستان..»
4- في عهد السلطان قلاوون (ابن أبي أصيبعة 4/384) الصالحي النجمي أبو المعالي سيف الدين الملك المنصور (620 – 689هـ/1223 – 1290م) أُعيد تجديد البيمارستان، ونلمح في اللوحة التأسيسية التي نُقشت في عهد هذا السلطان المملوكي فوق الباب الثاني وتحت القبة المقرنصة والتي تذكر تاريخ تجديده في عام 682 أي بعد مئة وثلاثة وثلاثين سنة من تاريخ البدء ببنائه مقدار الاحترام والتقدير الذي ظل يتمتّع به السلطان نور الدين محمود في الأوساط الدمشقية ولدى سلطان عظيم آخر.. ومن المعروف تاريخياً أن حاكماً جديداً غالباً ما يلجأ إلى طمس آثار من سبقوه أو يعمل على انتحالها لنفسه إلا أننا هنا نجد أن البناء يتشرّف بإتمامه لعمل قام به نور الدين، (وجدد ما كان تهدّم من بنائه بنظر الفقير إلى الله تعالى عمر بن أبي طالب غفر الله ولمن أعانه من المسلمين على عمارة هذا الوقف المبارك). ولم نتمكن من العثور على ترجمة هذا الناظر لتجديد البناء وهل كان قاضياً أو مهندساً.
5- في عهد السلطان المملوكي بدر الدين أبو المحاسن حسن بن الناصر محمد 748 – 752هـ/ 1348 – 1350م) قام نائبه في الشام أرغون شاه بتجديد القاعة اليمنى من المبنى في عام 749هـ.
أطباء البيمارستان النوري الكبير:
يحفل تاريخ البيمارستان الكبير بقائمة أسماء كوكبة من الأطباء الأعلام الذين عملوا فيه وكانوا أكثر إخلاصاً وعلماً، تولّوا إدارته ومعالجة المرضى والتدريس فيه ومنهم:
- مهذب الدين ابن النقاش (ت 574هـ)، الحكيم موفق الدين بن المطران (ت 587هـ)، ابن حمدان الجرائحي، المعاصر لابن المطران، أبو الفضل بن عبد الكريم المهندس (ت 599هـ)، موفق الدين عبد العزيز (ت 604هـ)، كمال الدين الحمصي (ت 612هـ)، مهذب الدين المعروف بالدخوار الكحال (ت 628هـ)، ابن اللبودي «شمس الدين» (ت 623هـ)، بدر الدين بن قاضي بعلبك – رئيس الأطباء والكحالين.
6- البيمارستان الكبير في العهد العثماني:
في عهد ضعف هذه السلطنة يبدو أن الفوضى السياسية أدّت إلى سرقة كثير من أوقافه فتراجعت أحواله وكان هذا من حسن حظّه إذا ما قارنّاه بغيره من المشافي والمدارس التي نُهبت أوقافها.. فإن غيره من مشافي دمشق كانت قد سُرقت أوقافها وتعطلت مبانيها قبل هذا العهد بزمن طويل، إلى أن قيّض له أحد أعيان دمشق وهو حسن باشا بن عبد الله الأمين الذي ولي وقفه فقام في عام (1207هـ 1617م) بإعادة ترميمه، وأقام شعائره بعد أن اضمحلّت وعمّر أوقافه وأتى معه من حسن التنمية بما يزيد عليه..
وأخبر العالم الجليل الأستاذ محمد كرد علي من أعلام دمشق، أن البيمارستان النوري ظل عامراً يُعالَج فيه المرضى إلى سنة (1317هـ/ 1899م) وكان أطباؤه وصيادلته لا يقلون عن العشرين حين قامت بلدية دمشق في عهد ولاية حسين ناظم باشا والي سورية سابقاً بإنشاء مشفى الغرباء في الجانب الجنوبي من تكية السلطان سليم المطلة على المرج الأخضر، وجُمعت له الإعانات بأساليب مختلفة من واردات البلدية وأوقاف البيمارستان لتُنفق عليه، وسُمي المستشفى الحميدي نسبة إلى السلطان العثماني عبد الحميد الذي بُني المستشفى في عهده، وهكذا خلف المستشفى الحميدي البيمارستان النوري الذي أصبح مدرسة للبنات.
اختبار لذكاء الأطباء:
يروي غرس الدين خليل بن شاهين الظاهري في كتابه «كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك» وهو أحد مؤرخي أواخر العصر المملوكي في القرن الخامس عشر الميلادي قصة طريفة، يقول بعد أن زار دمشق: وبها مارستان لم يُرَ مثله في الدنيا قط، واتفقت نكتة أحببت أن أذكرها: وهي أني دخلت دمشق في سنة (831هـ/ 1427م) وكان يصحبني رجل عجمي من أهل الفضل والذوق واللطافة وكان قصَد الحج في تلك السنة فلما دخل البيمارستان المذكور ونظر ما فيه من المآكل والتحف واللطائف التي لا تُحصى قصد اختبار رجال (أطباء) البيمارستان المذكور فتضاعف (تمارض) وأقام به ثلاثة أيام ورئيس الطب يتردّد إليه ليختبر ضعفه، فلما جسّ نبضه وعلم حاله وصف له ما يناسبه من الأطعمة الحسنة والدجاج المسمنة والحلوى والأدوية والفواكه المتنوعة، ثم بعد ثلاثة أيام كتب له ورقة من معناها: أن الضيف لا يقيم فوق ثلاثة أيام وهذا في غاية الحذاقة والظرافة»
هذا النص على طرافته يعني أن البيمارستان كان عامراً في أواخر العهد المملوكي وظلّ يقدم خدماته ورعايته الممتازة للمرضى بعد ثلاثة قرون من تأسيسه علماً بأنه لا تتوافر لدينا - لدي على الأقل - معلومات عن خدمات ممتازة مماثلة في العهد العثماني حين سقطت بلاد المشرق العربي كلها تحت وطأة الفقر لتحوّل طرق التجارة العالمية عنها وما تبع ذلك من ضعف السلطة الإدارية وسيطرة الفوضى والاضطرابات والفساد.
3- بيمارستان قلعة دمشق:
بُنيت قلعة دمشق في العهد السلجوقي واستُخدمت في زمن دولة نور الدين محمود بن زنكي داراً للحكم والإدارة، وحصناً يسكنه سلاطين دمشق، وزيد في تحصين القلعة في العهد الأيوبي وبخاصة في عهد الملك العادل، يقول الدكتور عبد القادر الريحاوي عالم الآثار المعروف الذي درس القلعة دراسة وافية: «وهكذا نرى قلعة دمشق الأيوبية تغدو مقراً لسلاطين بني أيوب وملوكهم، فيها كانوا يقيمون مع أسرهم ومنها كانوا يسيِّرون دفة الحكم، وبسبب إقامة السلاطين والملوك في القلعة فقد كانت تتوفر فيها كل حاجات الملوك اليومية وتمارس فيها النشاطات الاجتماعية والإدارية والسياسية».. أقام فيها الملك العادل وأولاده، ونعموا بقصورها وحماماتها ومساجدها. وكان لملوك بني أيوب أطباء موظفون في القلعة حدّثنا عن بعضهم الطبيب المؤرخ ابن أبي أُصيبعة وقد كانوا من مشاهير الأطباء في ذلك العصر.
والسؤال: هل وُجد في القلعة بيمارستان مستقل مخصص لمعالجة السلطان والأسرة الحاكمة وأرباب الدولة وضيوفها وسجنائها.. إن غالبية الأطباء الذين ترجم لهم ابن أبي أصيبعة خدموا في قلعة دمشق إضافة إلى خدماتهم في المارستانات الأخرى، وفيها كانوا يطببون المرضى ويتدارسون أمور الطب، ولسوء الحظ فإن ابن أبي أصيبعة أشار إلى مجالس الطب في القلعة التي كانت تعقد مباحثات الأطباء فيها، ولكنه لم يذكر بصراحة اسم بيمارستان القلعة. إن كل الدلائل تشير إلى وجود بيمارستان ومدرسة طبية.
ذلك إنه إذا كان الأطباء الذين أشار ابن أبي أصيبعة مراراً وتكراراً هم الذين كانوا يخدمون في القلعة ويمكثون فيها طويلاً في باب السلطان ويعالجون أسرته ورجال دولته الكبار الذين يسكنون معه في القلعة، ويتباحثون خلال مكوثهم في القلعة في قضايا الطب والصيدلة.. وإذا كان هؤلاء الأطباء يعالجون كبار الشخصيات في قصورهم في القلعة فأين كانوا يعالجون حرّاس القلعة وجنودها والعاملين في خدمة رجال الدولة وأسرهم؟
إننا نميل إلى قبول فرضية وجود بيمارستان في القلعة وردت في الإشارة إليه أخبار شحيحة وخجولة إلا أن من المؤكد كما أشرنا إلى ذلك مراراً إنه كانت تعقد فيه مجالس للطب كان فيها الأطباء يُعلّمون ويتعلمون..
4- البيمارستان القيمري.. مستشفى وكلية طب:
قال العلامة عبد القادر بدران:«هو بالصالحية بدمشق بالقرب من جامع الشيخ محيي الدين محمد بن عربي الطائي الأندلسي وهو باقٍ إلى الآن، تناولته يد المختلسين وعلى بابه مكتوبة أوقافه واسم بانيه وهو يدعو أهل الهمة والغيرة لترميمه والانتفاع به ولو بجعله مدرسة.
وقال العماد بن كثير في تاريخه سنة أربع وخمسين وستمئة: واقف مارستان الصالحية الأمير الكبير سيف الدين أبو الحسن يوسف بن أبي الفوارس القيمري الكردي أكبر أمراء القيامرة كانوا يقفون بين يديه كما تعامل الملوك، ومن أكبر حسناته وقفه المارستان الذي بسفح قاسيون وكانت وفاته ودفنه بالسفح في القبة التي تجاه المارستان المذكور من جهة الغرب، كان ذا مال كثير وثروة. (توفي بنابلس سنة ثلاث وخمس وستمئة، ودفن بقبته التي بقرب مارستانه).
وقد وصفه الشيخ جمال الدين بن عبد الهادي فقال: وأما المارستان القيمري فهو من أحاسن الدنيا، يقال إنه ليس في الدنيا بيمارستان أحسن منه ولا أشرح، فيه الإيوان الرحيب والقاعتان القبليتان، وبه قاعتان لصيق القاعتين المذكورتين للمرضى والمسهولين، إحداهما للرجال والأخرى للنساء ولصيقهما حاصلان (مستودعان) شرقي معدّ للشرابات والمعاجين والاكحال والأشياف (جمع شيف وشياف وهي الأدوية الخاصة بالعين) والأقراص وغير ذلك، وآخر عربي معدّ لتفريق ذلك في كل يوم اثنين وخميس للخارجين منه، وقد رأينا ذلك في زمننا (زمن ابن طولون في القرن 10هـ) صار لا يفرّق فيه إلا في يوم الخميس فقط وفي كل يوم للمرضى به من نساء ورجال.
وفي شرقيه مطبخ للمزورات (جمع مزورة: مرقة يطعمها المريض، وقال الفقهاء هي ما يُطبخ خالياً من الأدهان ورد ذلك في شفاء الغليل) وفي غربيه قاعة للمجانين ولصيقها حاصل للمغل، وفي دهليز بابه الشمالي بيت بواب.. وبوسطه بركة معظمة يأتي إليها الماء بناعورة مركبة على نهر يزيد وفيه خدم للرجال وللنساء وكحّال وطبيب وشرباتي وعامل وغير ذلك.. وبه محفة لحمل الضعفاء يحصل لهم بها في الصالحية نفع عظيم».
ويستنتج من النص أن هذا البيمارستان كان لا يزال يؤدي عمله بعد نحو ثلاثة قرون من إنشائه إلا إنه يستنتج أن خدماته بدأت بالتدنّي نتيجة قيام المتنفذين بسرقة أوقافه.
البيمارستان القيمري عمارة أيوبية فريدة:
يُعد بناء البيمارستان القيمري من أعظم المنشآت المدنية الدمشقية في العصر الأيوبي ويختص أن مهندسه احتذى مثال البيمارستان النوري فجعل تخطيطه على نظام التعامد، وأقام فيه أواوين جانبية أصغر من أواوين البيمارستان النوري ونظم أجزاءه بصورة متناظرة نسبة إلى محور واحد ونصب له عقوداً داخلية وإطالة بيضوية ومتصالبة.
أما بابه الخارجي فقد أُحيط بساريتين صغيرتين، وجُعلت فوقه نصف قبة فيها مقرنصات الأبنية الأيوبية وفيها إرهاصات من جهة ثانية تشبه مقرنصات عمارات العهد المملوكي التي ستشيد فيما بعد تشبه مقرنصات بوابة المدرسة الظاهرية.
وفي إيوانه الرئيسي الجنوبي ثلاث نوافذ تطل على غوطة دمشق ومدينتها، فوقها عقود متصالبة، بناؤها شديد الإتقان ويوجد عند منشئها زخارف جصيّة مكتوبة بالخط النسخي على أساس أزرق وتتألف من آيات قرآنية، وفوقها زخارف جصيّة منحوتة تجتمع في قلادتين على شكل مواضيع نباتية مختلفة.
5- البيمارستان الشرقي (أو المارستان الشبلي بمحلة الركنية):
موقع هذا البيمارستان خارج دمشق على سفح جبل قاسيون الشرقي عند جسر كحيل، على الطريق الذاهب من باب العمارة إلى ضاحية الفراديس إلى الصالحية، والذي عُرف بدرب الشبلية، حين قام الأمير شبل الدولة كافور الحسامي (ت 632هـ) بشق درب آخر من عند المقبرة التي هي غربي المدرسة الشامية البرانية إلى عين الكرش إلى المدرسة الحافظية، إلى جسر كحيل أو جسر الشبلية، حيث كانت توجد هناك على طرفي الجسر فوق النهر وتحته مدرستان مشهورتان لعبتا دوراً هاماً في تاريخ دمشق العلمي هما: المدرسة البدرية أولاً وهي مدرسة جامعة مشهورة في ذلك العهد، ولم يبق من بقاياها غير قبر مُنشئها تحت القبة الموجودة حالياً في منتصف ساحة الميسات والتي أمر ببنائها وأوقف لها الأوقاف الأمير بدر الدين حسن بن الداية المعروف بلؤلؤ، والذي سكنها ودرس بها المؤرخ سبط ابن الجوزي صاحب كتاب مرآة الزمان، والتي درست آثارها ولم يبق منها سوى قبر الواقف، وقد فتش عنها ابن بدران فوجد بقاياها متمثّلة في قبة تهدّم قسمها الأعلى وبها قبران بجانب نهر تورا، وقد أُعيد ترميمها في خمسينات القرن العشرين لدى تنظيم ساحة الميسات، وجعلت مقراً لإحدى جمعيات حماية البيئة في أواخر القرن العشرين، وقد أشار العدوي في زياداته على مختصر تنبيه الطالب للعلموي، إلى أن هذه الجامعة تحولت إلى جامع عُرف بجامع البدرية، ثم المدرسة الشبلية ثانياً وأطلق عليها مؤلف «اللمعات البرقية» المارستان الشبلي وقال عنه: بالصالحية العتيقة التي بناها الأمير حسان الدين شبل الدولة وأوقف عليها الأوقاف (ت 632هـ) وكانت تقع شمالي نهر تورا في مواجهة المدرسة البدرية يفصل بينهما جسر كحيل أو جسر الشبلية، ويبدو أن هذا المارستان بُني ليخدم ضاحية «مقرى» التي أدركنا عام 1960 بقايا بيوتها على طرفي ساقية تتفرّع من نهر يزيد عند مصلبة محلة أبي جرش، تصب نهاياتها في نهر تورا عند الجسر، وقد حاول المحقق العلامة ابن بدران قبل عام 1910 تحديد مكانها فقال: إنه بعد بحث طويل لم يجد سوى بناء له أربعة جدران قائمة وبها قنطرتا إيوانين، فناداني ذلك البناء المتداعي للسقوط، تلك آثار المدرسة التي تبحث عنها ولم يبق منها إلا ما نشاهده ولربما بعد مدة لا نرى شيئاً مما تراه الآن، فقلت: عليك يا شبلية السلام عدد ما سكنك من طلاب العلوم، ومن حسن الحظ أن مديرية الآثار نقلت ما بقي من تربة الواقف إلى جنوبي النهر، وأعادت ترميمها في آبدة جميلة على طرف ساحة الميسات الغربي... وما يهمنا هنا هو الإشارة إلى أن العالم المحقق بدران لم يذكر شيئاً عن هذا المارستان الذي ربما كان جزءاً من المدرسة الشبلية، إلا أن مؤرخ الصالحية وأحد كبار علمائها ومؤرخيها محمد بن طولون الصالحي (ت 953هـ/1546م) مؤلف كتاب القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية، ذكر هذا المارستان وقال: «المارستان الشرقي بمحلة الركنية، ولم ندركه إلا خراباً وكذا آباؤنا».
ويستنتج من هذا أن هذا المارستان قد انتهى أمره في نحو القرن التاسع الهجري حين انهارت السلطة السياسية وتوقفت الحركة الفكرية التي ازدهرت في دمشق في زمن الدولتين الزنكية والأيوبية، سُمي الحي باسمهم حي الصالحية واندثرت حين سرقت أوقاف هذه المؤسسات العلمية والاجتماعية.. وتشد انتباهنا في وثيقة ابن طولون الصالحي عبارة المارستان الشرقي أي المارستان الواقع في شرق جبل الصالحية الذي أُنشئت عليه تلك الأوابد الخالدة من مدارس للحديث وخانقاهات، فهل كان هنالك مارستان آخر يقع إلى غربي جبل الصالحية ويسمى بالمارستان الغربي؟ تحدث الدكتور شوكت الشطي في كتابه تاريخ الطب (طبع دمشق 1957) ما يؤكد وجود هذا البيمارستان حين قال: «بيمارستان الجبل كان هذا البيمارستان عند قرية النيرب وهي قرية على نصف فرسخ من دمشق وكان يُسمى بيمارستان الجبل وخدم فيه من الأطباء عبد الوهاب بن أحمد بن سحنون خطيب النيرب وطبيبها وأحمد بن أبي بكر محمد بن حمزة بن منصور نجم الدين أبو العباس الهمداني ثم الدمشقي المعروف بالجبلي..
المصادر:
1- الخطط والآثار - تقي الدين المقريزي - الجزء الثاني ص 405 - طبعة بولاق.
2- صبح الأعشى في صناعة الإنشا - العباس القلقشندي - الجزء الأول ص 431.
3- ابن أبي أُصيبعة: طبقات الأطباء - الجزء الثاني ص 260.
4- تاريخ البيمارستانات في الإسلام - د. أحمد عيسى - دار الرائد العربي - بيروت.
5- منادمة الأطلال- عبد القادر بدران ص259.
6- القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية - ابن طولون الصالحي - الجزء الأول ص346.
المصدر : الباحثون العدد 67 كانون الثاني 2013