كيف نفسِّر الانتقال إلى تنفيذ الجرم(2)؟ Comment expliquer le passage à l'acte ?
كلودي بير(3) Claudie Bert
الانتقال إلى التنفيذ هو تفعيل العنف. ففي غالبية الحالات، لا يؤدي عنف الانفعالات والمشاعر إلى أفعال عنيفة، لأن بين الانفعال أو الشعور وبين الفعل، هناك مساحة للفكر يتم فيها: محاولة الفهم، والتقدير النسبي للأمور، أما بالنسبة إلى الكلام فإن صياغة التأثر والألم تتم بكلمات، للذات وللآخرين. لكن أحياناً لا توجد مثل هذه المساحة: فيحل العنف مكان الفكر والكلام، وهذا ما يتحدثون عنه في علم النفس ويدعونه بـ"فشل العقلنة".
فكيف تنتقل شهوة القتل وتترجم بأفعال عوضاً عن أن تُكبَح؟
قد يأخذ موضوع الانتقال إلى التنفيذ سنوات عديدة يحصل خلالها تطوّر من الغريزة العمياء إلى الخطة الناضجة، وذلك وفق آليات متنوعة، كما يوجد نماذج عديدة للانتقال إلى الفعل.
- الانتقال إلى الفعل الغريزي
هنا يظهر فشل العقلنة بأفضل ما يمكن: فالفاعلون لا يفكرون بفعلتهم قبل ارتكابها، ولا يقتصر الموضوع على ذلك فهم أحياناً لا يعودون إلى رشدهم إلا بعد ارتكاب الفعل: "يتصرف جسدهم كشيء لا يمتلكونه، ولا يشبههم(4)". كذلك الأمر بالنسبة إلى مرتكبي الجرائم العاطفية، ففي استقصاء أُجري حول 337 جريمة من هذا النوع ظهر إنه في العديد من الحالات "يتم اقتراف جريمة القتل خلال عملية خطف أو اغتصاب أو إكراه حيث يكون القاتل نفسه منذهلاً من فعلته ولا يحتفظ منها سوى بذكرى جزئية(5)". إذا كان الانتقال إلى الفعل هو شأن غرائزي، لكنه لا ينبع من فراغ: فهو لا يقع إلا في إطار علاقة اتسمت بالألم، عقب حادث قد يبدو بسيطاً لا شأن له، غير إنه أصبح مطلِقاً للعملية.
- الانتقال إلى العمل المتعمد أو الناضج
تشكل الجريمة مع سبق التصميم والترصد مادة لرواية بوليسية كلاسيكية: يقرِّر الفاعلون أن يقتلوا ضحيتهم بدم بارد، ثم يضعون مخططاً لتفادي الشك. في الواقع، يبدو هذا النمط من الجريمة أكثر ندرة؛ ما نصادفه على الأغلب، هو نضوج الفكرة وتطورها نحو الجريمة. يحصل الفعل في ثلاث مراحل، وفق اختصاصي علم النفس إتيين دو غريف ?tienne de Greeff الذي استند إلى مقابلات عديدة مع مجرمين(6). يسمي المرحلة الأولى "موافقة معتدلة" وتتسم بظهور "فكرة الجريمة" التي قد تكون لاشعورية. المرحلة الثانية، تسمى "موافقة واضحة" يظهر فيها مخططات ورسومات أولية لمشروع الانتقال إلى الفعل: تهديدات، ومحاولات مقتضبة. والمرحلة الثالثة هي مرحلة الانتقال إلى الفعل حصرياً، عقب حادث مسبب قد يبدو لا قيمة له بالنسبة إلى المراقب، لكنه يتوصل إلى إقناع الفاعل بأن الشخص المقصود قد عامله معاملة غير عادلة، وأنه على حق إن هو أراد الانتقام.
- القاتل الجماعي
ويتطلب هذا النوع فترة إنضاج تكون على الأغلب طويلة الأمد عند مرتكبي جرائم متعددة، أي الذين يقتلون ضحاياهم واحدة تلو الأخرى مع فاصل زمني بين الجريمة والتي تليها، أما القاتلون بأعداد كبيرة أو ما يسمون بـ قتلة الجماعة (الأهالي)، فهم يقتلون عدداً كبيراً من الضحايا مرة واحدة في الوقت نفسه والمكان نفسه أو في أمكنة متقاربة.
ظاهرة جرائم القتل الجماعية هي ظاهرة حديثة نسبياً: مجموع الحالات تقريباً التي تم إحصاؤها حدثت بعد الحرب العالمية الثانية. لقد وجد الباحثون في مرتكبيها عدداً لا بأس به من السمات المشتركة. فعلى الصعيد الاجتماعي حوالي الـ95% منهم هم من الرجال، وأكثر من 60% منهم هم من العرق الأبيض، ونصفهم تتراوح أعمارهم بين الـ20 والـ29 سنة، وثلاثة أرباعهم يعرفون ضحاياهم. أما على الصعيد النفسي: المراهقون هم مرتكبو القتل الجماعي في مدارسهم، فعلى سبيل المثال ينعتهم زملاؤهم بأنهم منعزلون، ويستهلكون كمية كبيرة من الكحول أو المخدرات، وأنهم قد خضعوا لتجربة مؤلمة كما تعرضوا حديثاً لفشل دراسي أو عاطفي.
من القتلة الأوروبيين(7) من حقق الرقم القياسي بعدد الضحايا التي قتلها: 76 قتيلاً و96 جريحاً. ووفق الدراسة التي أجريت على هذا المجرم يبدو أن مساره النفسي كان نموذجياً. فإن ظهر الاعتداء وكأنه انفجار حدث على غفلة تامة من محيط الجريمة، إلا أن القتل الجماعي يقع حقيقة في ميعاد وصل إلى ذروة تطور على مدى عدة أشهر أو حتى عدة سنوات. ففي وحدته حيث ينغلق على نفسه أو يعتقد إنه قد نُبذ من الجميع، يجتر الشاب حقده ضد الذين يعتقد أنهم يكرهونه فيخترع عالماً خاصاً به يكون ضمنه قوياً ومستحسَناً. الأمر الذي قد نقوم به جميعنا أحياناً، لكن عنده، ينفصل هذا العالم عن العالم الواقعي ويصبح واقعه هو، فيقنع نفسه أخيراً بأنه إذا قام بقتل أكبر عدد ممكن من الضحايا المنتمين إلى المجموعة(8) التي تمركز وسواسه وثبت عليها، يحقق بهذا الفعل بطولة وكأنه منقذ لمجتمعه الذي يستحق منه العرفان بالجميل، فيقول في نفسه: "كان ذلك قاسياً، لكنه ضروري". من الهام جداً بالنسبة إلى هؤلاء شرح وتمجيد فعلتهم. وقد ينشرون عريضة وأفلام فيديو يظهرون فيها باللباس الرسمي أو كمشاركين في معركة. مثال: شو شونك- هوي Cho Seung-Hui، إنسان كوري يعيش في الولايات المتحدة، قتل 32 شخصاً في جامعة فيرجينيا عام 2007 لكن على دفعتين بفاصل ساعتين بينهما أرسل خلالها بياناً إلى محطة التلفزيون مع أفلام فيديو يشبِّه فيها نفسه بيسوع المسيح مندداً بالأغنياء.
- هل يمكن تدارك الأمر وأخذ الحيطة قبل الانتقال إلى التنفيذ؟
نميّز تداركاً أولياً يهدف إلى التحذير من الانتقال إلى التنفيذ عند الأشخاص الذين لم يرتكبوا في حياتهم عملاً عنيفاً، وإجراءات وقائية ثانوية تهدف إلى منع تكرار الجرم بعد الانتقال إلى التنفيذ.
يثير التدارك الأولي شكوكاً كبيرة عند الخبراء. ربما يكون ذلك خطأً: كما قلنا سابقاً، الانتقال إلى التنفيذ يكون في أغلب الأحيان مسبوقاً بفترة إنضاج؛ إن قتلة الجماعة هم منعزلون. لكن السؤال الذي يُطرح: هل يتوبون ويعودون إلى رشدهم إن قام أحد الأقرباء بإجراء حوار معهم أو إذا تبناهم طبيب مختص بالمعالجة؟
الموضوع ليس بهذه البساطة، فمن جهة، ينبغي متابعة المساعدة التي يتم تقديمها لهم، وإلا قد يؤدي شعورهم بأنهم مهملون أو حتى منبوذون، إلى ازدياد في احتمالية اللجوء إلى العنف، ومن جهة أخرى، لا يمكن تقييم فعالية هذا النمط من التدخل لأنه لو نجح، لن يكون هناك انتقال إلى التنفيذ، لكن من المستحيل برهنة إنه قد يحدث دون ذلك!
بالمقابل، يمكن تقييم الفعالية العامة لسياسة الوقاية من العنف: يكفي أن نقارن نسبة الجنوح قبل وبعد تطبيق إجراءات معينة، أو مقارنتها مع شعب مماثل لم يقدَّم له أي إجراء. وبذلك تم سبر هذه الفعالية عند أطفال ومراهقين بإجراءات عناية مدرسية وبعد – مدرسية، وبُنى يمكنهم فيها التحدث عن نزاعاتهم كي يتم حلها دون عنف، وذلك برعاية بالغين وبتدبير مساحة ومجال للقاء (خلق مساحات خضراء، أمكنة للتقابل...)، من قبل مؤسسة الوسطاء.
الترقب والوقاية الثانوية هما أمران أسهل من الوقاية الأولية، طالما أن مرتكبي فعل العنف الأولي قد سجنوا أو أرسلوا إلى مشفى للمعالجة النفسية: حيث يمكن دراستهم، ويمكن اللجوء لمعالجتهم أيضاً. قدَّم عدد من البحاثة برنامجاً للمعالجة السلوكية والمعرفية يهدف إلى التخفيف من "أخطاء التفكير الإجرامي" عند 55 سجيناً؛ فأصبحت نسبة العودة إلى الجرم بعد خروجهم من السجن 50% مقابل 70,8% عند المجموعة المعدة للمقارنة(9). كما عرض طبيبان مختصان بالتحليل النفسي، حالة عالجاها: شاب سجن لارتكابه أعمال عنف لمرات عديدة، وتم إرساله إليهما من قبل السجن بسبب إلزامه على غسل اليدين. فأخبرهما عن وسواس على جانب كبير من الخطورة يستحوذ على فكره: فهو يرى نفسه قد اغتصب فتاة شابة، ثم قتلها؛ ويفكر بذلك على الدوام. فوفَّرا له معالجة نفسية أشركاها بمعالجة دوائية للقضاء على وساويسه. استقرّت حالته، وعاد إلى السجن حيث تابع علاجه. فبدا عندها مبتسماً، لطيفاً، مؤمناً بمستقبله، لكن البحاثة يتساءلون حول هذا المستقبل: "وإذا عدّل من المعالجة، أو أهملها أو أوقفها، ماذا سيحصل لغرائزه الجنسية ولهلوساته وتصوراته الخادعة؟ ما هو مصير مشروعه مع خطيبته؟ وما هي المحاذير بالنسبة إليه والهموم بالنسبة إليها(10)؟ الوقاية هنا هي حتماً مجرد رهان...
- ما هو تأثير الفضائيات وألعاب الفيديو؟
هل تسهِّل مشاهدة أفلام العنف في التلفزيون وفي ألعاب الفيديو، الانتقال إلى تنفيذ الجرم؟ هناك نظريتان تعارضتا لمدة طويلة من الزمن: فوفق النظرية الأولى، أن مشاهدة أفلام العنف تجعل المشاهد أكثر عدوانية؛ ووفق النظرية الثانية، تأثيرها هو تأثير تنفيسي أو تطهير نفسي لاشعوري، أي أنها تساعد المشاهد على تفريغ العنف الموجود فيه عوضاً عن ممارسته والانتقال إلى التنفيذ في العالم الواقعي. ثار ميشيل ديمورجه Michel Desmurget، مدير البحوث في العلوم العصبية، وكان رده كالتالي(11): "فهرَست أكاديمية الطب الأمريكية 3500 دراسة حول هذا الموضوع، 18 منها فقط لم تعط نتيجة، ولم تبرهن أية دراسة منها على نظرية التطهير النفسي اللاشعوري". وبالإضافة إلى سهولة الانتقال إلى تنفيذ الجرم، يضيف الكاتب تأثيراً خطراً ومقلقاً أكثر بكثير على المدى البعيد: الاعتياد على العنف في الحياة الواقعية، بحيث يصبح المعتاد أقل حساسية تجاهه.
- جرم وجنون
القضايا الإجرامية تفتننا. وكل يوم تروي لنا منها وسائل الإعلام إن في التلفزيون أو في الراديو أو في الصحف أو على صفحات الشابكة (الإنترنت)، موحية لنا بالعجز تجاه ظاهرة معممة تزداد يوماً بعد يوم عنفاً وإبهاماً، حتى أصبحت موضوع تفضيل للجدل السياسي لمصلحة وقائع متنوعة ومنفرة. لكن العلوم الإنسانية تعطينا رؤية مختلفة تماماً عن المسألة. ماذا يمكننا أن نقول دون الخضوع للهلوسة والتخيل الخادع؟ ماذا نعرف عن القتلة، وعن دوافعهم، وطرق عملهم واختيار ضحاياهم؟
نشر القضايا الإجرامية في وسائل الإعلام(12) La médiatisation des affaires criminelles
سيلفي شال- كورتين(13) Sylvie Châles-Courtine
قبل اختراع الصحافة، كان القتلة يصوَّرون وكأنهم كائنات ضمن النطاق اللاإنساني. بالمقابل كانت السلطة السياسية تفرض نفسها كفيلاً للأخلاق والأمن.
تحتل القضايا الإجرامية مكانة مميزة وفريدة على الساحة الإعلامية. ولما كان تنوع التقارير حول الجرائم المختلفة يحقق نجاحاً ملموساً، ونادراً ما تصاب هذه التقارير بالفشل، فهذا يؤكد على الجاذبية أو حتى على الافتتان والسحر الذي يؤثر به المجرمون والجريمة على الرأي العام. عندما يوجِّه الإخراج الإعلامي للقضايا الإجرامية أنظاره إلى الحالة القضائية، فهو يعرض ويحلِّل التقارير الغامضة والملتبسة التي يتعامل بها المجتمع مع الظاهرة الإجرامية. يبدو هذا الإخراج، بتنوع عروضه وانحرافاته، وكأنه "رسم ذاتي" لمجتمع ما في زمن محدد، ولهذه الأسباب يمكنه أن يعلمنا عن المعالجة الثقافية للانحرافات، كما يمكنه من جهة أخرى تكوين مصدر غني لتحليل العروض.
وإن ازدهر إعلام القضايا الجرمية فعلياً خلال القرن العشرين، لكنه ليس مقتصراً على هذه الفترة فحسب: ففي الماضي ومنذ العصر الشارلماني carolingienne كان يتم تهيئة أشكال مختلفة وإلباسها فعلاً معيناً فتبدو وكأنها أداة خاصة لفبركة "أوجه إجرامية" مساهمة بنحت عروض جماعية. وبينما كانت قنوات النشر مقتصرة على التناقل الشفهي، كانت السلطات القضائية تجتهد لنشر روايات عن "جرائم رهيبة يرتكبها لصوص"، هادفة من وراء ذلك إلى فرض احترام النظام والقانون. فتضج الخطابات محدِّثة عن أشخاص فاسدين عنيفين ودمويين، قادرين على ارتكاب الفظائع وإرهاب المجتمع، وأنهم ذوو دم فاسد وبإمكانهم تلويث المجتمع بوجودهم وبالمثل السيئ الذي يجسدونه. غير أن القروسطيين يؤكدون بالإجماع، على أن الواقع الإجرامي لا علاقة له بالروايات المثيرة للقلق التي كانت تنشر بكثافة في تلك الفترة، والتي كان الهدف منها إرشاد الخيال الجماعي وامتهان الضغط وذلك بتوحيد الحساسيات حول أوجه إجرامية مبرزة. وبرأي المؤرخة كلود غوفار Claude Gauvard أن الخوف من الآخر والتخوف من عدم الأمان يشكلان إحدى أدوات بناء الدولة، وهي أمور فرضت نفسها بشدة منذ القرون الوسطى تغذيها الشائعة التي تبثها السلطات. تبرهن هذه الناحية على أن النشر الإعلامي للجرائم ليس مرتبطاً بشكل صميمي بالمجتمع الذي يبنيه ويشكله فحسب، بل يشكل له أيضاً وسيلة لخدمة مقاصده.
تدجين السلوكيات واستخدامها
نلاحظ عبر التاريخ مقدار تأثير الإعلام، حتى عندما يجهد في ترجمة الواقع بـ"موضوعية"، فهو كان في خدمة استراتيجيات سياسية، تحاول توحيد المجموع الاجتماعي حول قيم النظام، وحماية الأمن، فساهم بذلك في تدجين السلوكيات وفي سن ضوابط للتصرفات، والنشرات الأولى للأحداث المختلفة هي الدليل على ذلك. كما أن نشوء صحافة دورية حقيقية في مطلع القرن السابع عشر أتاح الفرصة لظهور كتابات غزيرة حول كل الأحداث التي يمكن أن تطال الحساسية الشعبية: جرائم مروعة، قصص محزنة، وبربريات تضاف دون تمييز ضمن أدبيات تحتوي كل المصائب وتحاول إخطار الرأي العام.
الوصوفات الغزيرة والفجة تجعل كل فرد يشارك في مشهد الرعب والسخط والنقمة. يظهر الحدث الإجرامي على نحو طقسي غير إنه قد يتنوع بعض الشيء: فمثلاً يتم اللجوء إلى نشر تفاصيل غزيرة عن الجريمة مع استخدام البلاغة في وصفها محاولة من الناشر لإبراز الطابع الحقير والرهيب للمجرمين. فالمبالغة في إثارة المخاوف والسخط تبدو وكأنها تفيد كدرس في الأخلاق. كما أن خلق الخوف وتكبير المسؤولية الجنائية هي في صميم مقصد هذه الروايات الغريبة. التجريم، والتخويف أمران يعتبران أيضاً من الوسائل المستخدمة للإقناع والإبعاد عن المثالب والجرائم: المقصود هو إنه "ينبغي التعلم من تجارب الآخرين". هذه الصور والروايات الإجرامية التي يتم إخراجها، لها قيمة المثال الذي ينبغي على كل فرد أن يقيّم نفسه تجاهها. كما تساهم في اللحمة الاجتماعية بتطويرها للتضامن حول هذه النماذج المرفوضة. توسع هذا الرهان التربوي والسياسي عبر القرون، وتحت ثقل التطور الاقتصادي والسياسي، ظهرت الحاجة الماسة والملحة إلى السيطرة على الأفراد وإلى تمييزهم، وإلى تنظيم المدى الاجتماعي وجعله موضوعياً. ازدادت هذه الحاجة بشكل واضح في بداية القرن التاسع عشر حيث ظهر تدجين السلوكيات واضحاً جداً عن طريق تحويل الجنح إلى جنايات وإلى تجريم البغاء. وكانت الصحافة تنشر هذا الطموح بشكل منتظم مذكرة بأن "التفاصيل الفظيعة للجريمة" لا يمكن أن تغيب عن الجمهور" نظراً لخطورتها. صناعة الرأي العام، وتوحيد وجهات النظر هي رهانات هذه النشرات الكثيفة والثرثارة عن الأحداث الجرمية. فعلى سبيل المثال يقول أحد القراء لزميله: "انظر إن استطعتَ ذلك دون أن تصاب بالذعر، إليك رجل قتل والدته. انظر كيف يلتهمه الشر رويداً رويداً وببطء(14)".
استجاب الحبر والدم إلى تلك الحاجة الملحة لتمييز وتعريف وإبعاد المجرمين الخطرين، وذلك بدءاً من القرن التاسع عشر وعلى مدى القرن العشرين كله. وأصبحت الجريمة تعتبر وكأنها قابلة لأن تتجذر في الإنسان العادي. طالما أن كل إنسان قادر على الإجرام، ينبغي إذاً من الآن فصاعداً، كشف "الشر الجرمي" الذي يمكن أن يجتاح ما هو خفي ومحجوب عند كل فرد، وإحصاء علامات اختلافه المتعذر إنقاصها، وذلك بغية الاعتراف بها. والقراء مدعوون إلى كشف ما هو خفي خلف كل مجرم، وأن يتفرّسوا في الشر وأن يتقصوا حجم الأضرار التي يمكن أن تصيب جسدهم. فصور المجرمين الفوتوغرافية المفصلة في الصحافة محزنة ومثبطة الهمة: أوجه خشنة وفظة، شاحبة اللون، مع نظرات ماكرة مخادعة، وجبين هابط... ومن أسلوب وصف الصحفيين يتم التأكد من الوحشية الأخلاقية الكامنة في جسد المجرم: "متهم ذو سحنة باهتة، وشفاه رقيقة، وصوت أجش، ونظرة متحركة وهاربة". وتجهد الكتابات إلى قراءة وكشف كل تصرف وموقف وكل حركة يمكن أن تخون النوايا الغامضة الظلامية أو توحي وتعرّي الطبيعة الحقيقية للمتهم: "إنه منحرف خطير"، "ذو غرائز جاهلية"، لا يشعر بألم الضحايا".
كل هذه الإشارات تهدف إلى فضح طبيعة المتهم بالإضافة إلى أنها تلائم بين الإنسان الموصوف وبين فظاعة أفعاله. وفي الوقت نفسه، تبرز الحاجة إلى توجيه الانتباه إلى الخطورة الكامنة التي يمكن أن تجسدها بعض فئات من الناس. لذلك عندما يطال عنف الجرائم الخطوط الحمراء (كقتل طفل، أو اغتصاب، واغتصاب الأطفال)، تتوسع الظاهرة الإعلامية ومعها ضرورة الحماية والوقاية واستشراف المخاطر والمحاذير التي يتم التعبير عنها بقوة.
غير أننا ننتظر أحياناً رؤية وحش أو مسخ مشوَّه خلقياً، له عين واحدة في منتصف جبهته، وأسنان كأسنان دراكولا، ويدا مصارع. لكن ما يدهشنا هو أن نرى إنساناً عادياً جداً قد يشبه كل واحد منا(15). إلا أن على الساحة الإعلامية، لا يمكن لمرتكب الجرم أن يشبه الإنسان العادي، لأنه بكل بساطة "شيطان" "حيوان مفترس"، "سيء الخلقة" وذلك وفقاً لثقل الإشارات والصور والخطابات التي تحيط به وتذله. وما هو مقلق للغاية، أن الوحش المجرم يجمع في داخله كل ما يمكن أن يكون فظيعاً ومرعباً في سر "الطبيعة البشرية". فعندما تُبنى الفظاعة بهذا الشكل وتُنشَر فهي تسمح بإقامة حاجز عازل جداً بين المجرم وباقي المجتمع. وطالما ظهر أنه مختلف، سيتعرض لنبذ من قبل أكبر عدد ممكن من المجتمع ولنقمتهم وسخطهم، كما ستتوحد الأصوات الضاغطة من أجل الحماية منه لتوفير الأمن والأمان.
أنتروبولوجيا الجريمة - هل يمكن تأسيس علم خاص بالإجرام(16)؟
Une science du crime est-elle possible
كزافييه مولينا(17) Xavier Molénat
منذ عام 1880 لوحظ وجود "أنتروبولوجيا جرمية" مارسها أطباء اهتموا بإشكالية نشوء الجريمة وتكوينها عند الفرد، ونادوا "بوجود استعدادات طبيعية" للعدوانية والجريمة وبكل بساطة الميل "للشر(18)". نظرية قريبة من نظرية سيزار لومبروزو (Cesare Lombroso 1835-1909)، وهو طبيب إيطالي أراد البرهنة على أن المجرم يمتلك خصائص تشريحية نوعية وشخصية مضطربة. في الوقت نفسه، حاول بعض الكتاب إبراز البعد الاجتماعي للإجرام. وبرأي الفيلسوف هنري جولي Henri Joly، المجرم "إنسان تائه"، ضحية اقتلاعه من جذوره الذي قاده من مجتمع بلدته إلى غُفلية المدن الكبيرة. أما إميل دوركهايم ?mile Durkheim، وهو "الأب المؤسس" لعلم الاجتماع، ينادي بتأسيس علم للإجرام هدفه الجرم كـ"فعل مُعَاقَب ". ثم حاول رجال القانون في مطلع القرن العشرين تأسيس علم يتلاقى فيه القانون الجزائي، والطب والتحليل النفسي و"العلم الإصلاحي".
فهل تكون المناهجية المشتركة مجرد حلم أم حقيقة فعالة؟ فمنذ البدايات يتأرجح علم الإجرام ضمن ثلاثة ميادين كأنها تشكل مثلث برمودا في مبحث العلوم، وهي العلوم الطبية – البيولوجية والنفسية، والعلوم الاجتماعية، والعلوم القضائية.
بعد الحرب العالمية الثانية، لم يستطع الاختصاصيون في كل علم من إقامة حوار حقيقي لتأسيس مقاربة موحدة حول الحدث الجرمي. فهم لم يتفقوا لا على "التعريف ولا على عرض موضوعهم ولا على أهدافهم في معرفتها ولا على الطرق التي تمكنهم من الوصول إليها(19)". وفي أمثلة جمعها لوران موشييلي Laurent Mucchielli من تجربة حصلت عام 1970 تم فيها تعاون اختصاصيي علم النفس وعلم الاجتماع ورجال قانون واختصاصيي إحصاء حول موضوع محدد وواضح جداً وهو: الجنوح الشبابي وما تم تقديمه كردود عليه. لكن هذا التعاون بالإضافة إلى الجهود المعزولة للأطباء السريريين لإدماج بُعد اجتماعي في تحليلاتهم، لم يستمر. إلا أن الفعل الإجرامي لم يهمل إنما حصل هناك توزيع في المهام: "الاستقصاءات الكبيرة، والجنوح الشبابي العادي، وجنوح النخب، والسياسات العامة، والمؤسسات الجزائية، كل هذه الأمور هي من مهام اختصاصيي علم الاجتماع، أما جرائم الدم والقضايا الجنسية، هي من مهام اختصاصيي علم النفس، ومسألة المخدرات وحدها هي موضوع قد تتلاقى فيه الفعاليات(20). لكن هل تتلاقى هذه الميادين وتتحاور لإيجاد حلول ناجعة؟ هذا ما ينتظره المجتمع الإنساني.
هوامش:
(1) د.ماري شهرستان، مترجمة وباحثة سورية.
(2) نشرت هذه الدراسة في صحيفة قضايا إجرامية – الملفات الكبيرة من العلوم الإنسانية رقم 25 – كانون الأول 2011 وكانون الثاني\شباط 2012 magazine Affaires criminelles Grands Dossiers N° 25 - déc 2011/ jan-fév. 2012
(3) كلودي بير، Claudie Bert، كاتبة وباحثة فرنسية.
(4) ج. بيرجورِه، "أفعال العنف: ملاحظات عامة"، J. Bergeret، «?Actes de violence?: réflexion générale?»، in F. Millaud، Le Passage à l’acte، 2e éd.، Masson، 2009.
(5) تقرير في "يوميات الطبيب" 5 أيار 2008، دو هويل، ميركادير، سوبوتا، علم النفس الاجتماعي للجريمة العاطفية، بوف، 2008. Compte rendu dans Le Quotidien du médecin du 5 mai 2008 de A. Houel، P. Mercader et H. Sobota، Psychosociologie du crime passionnel، Puf، 2008.
(6) انظر بلاتييه، مدخل إلى علم الإجرام النفسي – الاجتماعي، دونو 2010 Voir C. Blatier، Introduction à la psychocriminologie، Dunod، 2010.
(7) هو النورفيجي اندرز بيرنغ بريفك Anders Behring Breivik، 23 تموز 2011
(8) في حالة أندرز بيرنغ بريفك، هم مؤيدو تعدد الثقافات.
(9) انظر بورجوا، وبينيزيش وبيهان، "الحقد الذهاني والانتقال إلى الفعل المدمِّر"، حوليات طبية- نفسية، Voir M.-L. Bourgeois، M. Bénézech et P. Le Bihan، «?La haine psychotique et le passage à l’acte destructeur?»، Annales médico-psychologiques، vol. CLXIII، n° 8، octobre 2005.
(10) م. بودون- بروزيل وكوتلر، "وساويس قاتلة، دراسة حالة"، تطور التحليل النفسي، M. Bodon-Bruzel et C. Kottler، «?Obsessions meurtrières، étude d’un cas?»، L’?volution psychiatrique، vol. LXVI، n° 4، oct.-déc. 2001.
(11) ديمورجه، جراحة الفصوص الجبهية. الحقيقة العلمية حول تأثير التلفزيون، ماكس ميلو، 2011 M. Demurget، TV lobotomie. La vérité scientifique sur les effets de la télévision، Max Milo، 2011.
(12) قضايا إجرامية، magazine Affaires criminelles- Grands Dossiers N° 25 - déc 2011/ jan-fév. 2012
(13) سيلفي شال- كورتين Sylvie Châles-Courtine، مؤرخة في علم الاجتماع، ومدرِّسة وباحثة في مركز العلوم المشتركة للبحث المطبق في مجال العقوبات، أجن Sociohistorienne، enseignante-chercheure au Centre interdisciplinaire de recherche appliquée au champ pénitentiaire، Agen.
(14) "تفاصيل عن جريمة قتل مروعة..."، بودوان 1843. «?Détails d’un horrible assassinat…?»، BnF، imp. Baudoin، 1843.
(15) أوبير، "الابتذال المخيف"، الساعة الأخيرة، 2 آذار 2004. C. Hubert، «?Effrayant de banalité?»، La Dernière Heure، 2 mars 2004.
(16) المصدر: قضايا إجرامية، الملفات الكبيرة العدد رقم 25- كانون الأول 2011/كانون الثاني- شباط 2012 magazine Affaires criminelles,Grands Dossiers N° 25 - déc 2011/ jan-fév. 2012
(17) كزافييه مولينا Xavier Molénat، باحث وكاتب فرنسي في العلوم الإنسانية.
(18) موشييلي L. Mucchielli، استحالة تكوين علم للجريمة في فرنسا. L’impossible constitution d’une discipline criminologique en France : cadres institutionnels، enjeux normatifs et développements de la recherche des années 1880 à nos jours?»، Criminologie، vol. XXXVII، n° 1، 2004.
(19) موشييلي، L. Mucchielli، «?De la criminologie comme science appliquée et des discours mythiques sur la “multidisciplinarité ” et “l’exception française”?»، Champ Pénal، vol. VII، 2010
(20) موشييلي,، "استحالة تكوين علم للجريمة في فرنسا"، L. Mucchielli، «?L’impossible constitution d’une discipline criminologique en France?»، Criminologie، op. cit.
المصدر : الباحثون العدد 67 كانون الثاني 2013