هي محاولة رصد أقدم المعالم المعمارية حسبما صَوَّرَتْها خريطة فسيفساء مادبا التي تعود للقرن السادس ومن ثم اقتفاء أثر هذه الملامح في الوثائق الأخرى الأقل قِدَماً وصولاً إلى الصورة الحالية لقدسنا العربية كما تبدو اليوم.
القدس العربية... زهرة المدائن (الشكل 1) كانت وما تزال موضع اهتمام الفنانين والرحالة والجغرافيين.
وقد حظيت بالكثير من الرسوم والخرائط التي صَوَّرَها هؤلاء بالتقنيات التي كانت متاحة لديهم.
ولقد وصَـلَتنا بعض هذه الرسوم من عصور مختلفة وهي تشكل وثائق تاريخية قد تتفاوت في قيمتها التوثيقية والتاريخية ومصداقيتها.
ولعلَّ أقدمَ هذه الوثائق التصويرية وأكثرها إثارةً خريطةُ فسيفساء مادبا المحفوظةٌ اليوم في موضعها الأساسي حيث وجدت. وهي تعود إلى القرن السادس الميلادي. أما بقية الوثائق التصويرية التاريخية التي وقفنا عليها فينتمي أقدمُها إلى القرن الثاني عشر وأحدثُها يعود إلى القرن السادس عشر.
يمكننا تصنيف الوثائق التصويرية التي سنتناولُها مما حظيت بها القدس كما يلي:
1. رسوم بالفسيفساء في أرضيات الكنائس الأثرية وعددُها ثلاثة.
2. رسومٌ أو خرائطُ وَضَعَها رحالة مستشرقون أوروبيون أو جغرافيون تراوحت بين الرسوم بالحبر الصيني على الورق الأبيض والرسوم الملونة.
أولاً: الرسوم الفسيفسائية وعددها ثلاثة كالتالي:
1. تمثيل رمزي مبسط للقدس من جملة تمثيلات رمزية أخرى لعدد من مدن فلسطين وشرقي الأردن يأتينا من أرضية فسيفساء كنيسة أم الرصاص في شرقي الأردن (كاسترون ميفعت القديمة) (الشكل 2) وهي تعود للقرن الثامن الميلادي.
2. تمثيل رمزي لمدينة القدس ومدينة بيت لحم من أرضية فسيفساء كنيسة الشهداء القديسين في طيبة الإمام بسورية (الشكل 3).
3. المثال الثالث والأهم من مدينة مادبا بالأردن:
مادبا (الألِف بعد الميم غير مهموزة أي ليست مأدبا كما هو شائع خطاً) هي مدينة أردنية تقع على مسافة تقل عن عشرين كيلومتراً من نقطة انصباب نهر الأردن في البحر الميت وعلى مسافة أربعين كيلومتراً إلى الجنوب الغربي من العاصمة عمان (الشكل 4). ومن أهم نقاط الجذب السياحي في مادبا كنيسة القديس جيورجيوس الشهيرة باسم كنيسة الخريطة.
كنيسة القديس جيورجيوس أو "كنيسة الخريطة" في مادبا. وصف عام للخريطة:
الكنيسة التي يشاهدها الزائر اليوم حديثة العهد نسبياً وتعود إلى العام 1896م (الشكل 5) مبنية فوق أرضية كنيسة أثرية تعود للقرن السادس الميلادي تم اكتشافها عام 1890م بحيث أعادت الكنيسة الجديدة استخدام أرضية الكنيسة الأثرية كأرضية حالية لها لأنها تحتوي على قطعة متفردة ولا تقدر بثمن من الفسيفساء عبارة عن خريطة للأراضي المقدسة من تخوم لبنان شمالاً حتى دلتا النيل جنوباً. كما تصور نهر الأردن والبحر الميت وتُظْهِرُ جزءاً هاماً من المناطق شرقي الأردن.
جعل الفنان الذي نَفَّذَ الخريطة جهة الشرق نحو الأعلى خلافاً للعرف الحديث الذي يجعل الشمال نحو الأعلى. وقد قصد الفنان هذا النوع من التوجيه عامداً ليحقق غايتين في آن معاً: الأولى لكي يتمكن المصلون الواقفون فوق "الخريطة" والمتجهون نحو الشرق من رؤية المَشاهد بوضعيتها القويمة، أي أسقف المباني وذرى الأشجار من الأعلى وأرضيات المباني وجذوع الأشجار من الأسفل، والثانية لكي تتطابق جهات الخريطة مع الواقع فيصبح بذلك شرق الخريطة متجهاً فعلاً نحو الشرق، وهكذا بالنسبة لباقي الجهات بحيث تعطي الناظر إحساساً صحيحاً بالاتجاه. ولذا فإنه يرجى من القارئ الكريم أن يدرك هذا الأمر، وهكذا يكون غرب الخريطة نحو الأسفل والجنوب إلى يمين الناظر والشمال إلى يساره.
إن أول ما يلفت النظر في هذه الخريطة هو شبهها الكبير بالخرائط السياحية المعاصرة من حيث الصور الرمزية والمجسمات الملونة التوضيحية التي تورِدُها هذه الخرائط لإبراز المعالم السياحية والأثرية، الأمر الذي يدفعنا إلى الاستنتاج أن "مبتَـكِـرَ" هذه الخرائط السياحية لم يبتكر شيئاً جديداً واقعَ الأمر لأن فنان فسيفساء خريطة مادبا سَبَقَهُ إليه منذ القرن السادس الميلادي. ويذهبُ مبدِعُ خريطة مادبا إلى التمييز في رسومه التوضيحية تلك بين القرية الصغيرة (غير المحاطة بأسوار) بأن مَثّلَها ببيوت جملونية السقوف، وبين البلدات المحصَّنَةِ بأن مَثَّلَها ببرجين دفاعيين أو أكثر وبوابة حسب أهميتها واتساعها، وبين المدن الكبرى التي أعطى تفاصيل وثائقية لأبرز معالمها من بوابات وشوارع وأبنية.
وتعطي الخريطة بيانات مثيرة حول بعض القَسَماتِ الأرضية من حيثُ التضاريس كالسلاسل الجبلية والوديان في منطقة شرقي الأردن. كما تُظْهِرُ نهر الأردن والبحر الميت (الشكل 5) و(الشكل 6) اللذان يشطران الخريطة إلى شطرين: شرقي الأردن من الأعلى وفلسطين وسيناء ودلتا النيل من الأسفل.
وبالدخول إلى جوف الكنيسة يمكننا استطلاع الصورة الإجمالية لفسيفساء الخريطة التي تمثل أراضي فلسطين وشرقي الأردن والشريط الساحلي وصولاً إلى غزة ودلتا النيل جنوباً.
والخريطة أثر متفرد بكل المعايير وتشكل وثيقة يمكن الركون إليها بخصوص جغرافية فلسطين ومصر والأردن.
جَعَلَ الفنان الذي نَفَّذَ "الخريطة" مدينة القدس في وسط اللوحة لإبراز أهمية المدينة المقدسة كمركز للأراضي المقدسة (الشكل 7). وقد صَوَّرها الفنان بعين الطائر خلافاً لكافة المدن والقرى الأخرى فأولاها عناية خاصة جداً بأن أظهَرَ لنا البعد الثالث والمتمثل بسطوح مبانيها وشوارعها وبواباتها وأفرد لها رقعة كبيرة على الخريطة كما لم يفعل لسواها. وعلى الرغم من جهل فنان تلك الأيام بقواعد علم المنظور في الرسم Linear and Architectural Perspective إلا أن صانع فسيفساء مادبا تغلَّبَ على عدد من "المعضلات" وتمكن من الوصول إلى ما أراده بأن شطَر المدينة إلى شطرين: الشطر العلوي أو الشرقي الذي يعلو شارع الـ Aelia Capitolina (الذي يخترق المدينة أفقياً في وسطها من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب) فقلب صف الأعمدة الشرقي الممتد على طوله على الأرض ليظهره بشكل جبهي وكأنه انقلب على الأرض بفعل زلزال فأصبحت قواعد هذه الأعمدة من الأسفل وتيجانها من الأعلى وعامَلَ الأبنية التي في الشطر الشرقي الذي يعلو صف الأعمدة هذا بصورة مماثلة فهي تظهر لنا بشكل جبهي أيضاً وسقوفها إلى الأعلى وجدرانها من الأسفل. أما بالنسبة للشطر الغربي، أو السفلي فقد انقلب صف الأعمدة الغربي المقابل للصف الشرقي العلوي بالاتجاه المعاكس أي إلى الأسفل فأصبحت قواعد هذه الأعمدة الأخيرة من الأعلى وتيجانها من الأسفل وانطبقت المعاملة نفسها على كافة الأبنية التي تحت هذا الصف وأصبحت أسطحتها من الأسفل وجدرانها من الأعلى.
تُظْهِرُ صورة المدينة المقدسة مدينة محصَّنَةً بسور واحد فقط، وهذا لا يتفق مع الأخبار التاريخية العديدة التي تُجْمِعُ على أن القدس كانت لها ثلاثة أسوار أيام السيد المسيح (انظر مثلاً تاريخ يوسيفوس اليهودي). إذن لا بد وأن فنان مادبا يصوِّرُ لنا مدينة القدس في أيامه هو حيث لم يعد لها سوى سور واحد. وتُظْهِرُ خرائط عديدة متأخرة للمدينة أنها مُحاطة بسور واحد فقط. وأذكر منها الخريطة المجسمة الملونة التي وضعها الجغرافيّان الألمانيان "براون وهوغنبرغ" عام 1572م.
تمكنْتُ، بعد المقارنات العديدة والاستقراء من تحديد هوية المعالم الرئيسة الظاهرة على خريطة مادبا وتعريفها بأسمائها كما يلي (الشكل 8):
1. الباب الظاهر إلى أقصى اليسار، وهو الباب الشمالي، إنما هو "باب دمشق" الشهير أيضاً بـ"باب العمود". وهذا الاسم الثاني الذي اشتهر به "باب دمشق" ندر أن يعرف أحد أصله أو مَرَدَّهُ. والمؤكد أن خريطة مادبا هي الوثيقة الوحيدة التي تفسر لنا السبب: لأن الساحة العامة التي ينفتح عليها هذا الباب كان ينتصب في وسطها عمود تذكاري يظهر بلا لبس في خريطة مادبا فقط استثناءً من كافة الوثائق الأخرى.
2. الشارع الرئيس المستقيم الممتد من "باب دمشق" إلى الجنوب والذي يحف به رواقان مُعَمَّدان (سبق أن وصفناهما أعلاه بأنهما مقلوبان: العلوي إلى الأعلى والسفلي إلى الأسفل) يمكن تعريف محورَهُ أو مسارَهُ بما يعرف بـ"سوق خان الزيت" في القدس القديمة اليوم. وقد أنشأ الشارع المعمد العريض وسط الخريطة الإمبراطور هادريان في الثلث الأول من القرن الثاني الميلادي وأعطاه اسم إيليا كابيتولينا Aelia Capitolina كما ذكرنا أعلاه.
3. الباب الذي ينتهي إليه الشارع المستقيم عند أقصى يمين الصورة هو "باب اليهودية" أو "باب النبي داوود" أو "الباب الجنوبي".
4. الباب الضخم الذي يحتل وسط السور العلوي (الشرقي) والذي ينحدر منه شارع إلى الأسفل هو باب "القديس استيفانوس" المعروف أيضاً بـ"باب السباع" وهو اليوم "باب سِتّي مريم".
5. إلى اليمين من هذا الباب (يمين الناظر) ثمة باب يمكن تعريفه بـ"باب الرحمة" أو "الباب المسدود" أو "الباب الذهبي" وهي أسماء لباب واحد موضعه اليوم منتصف السور الشرقي المحيط بالحرم القدسي الشريف.
6. في الجهة السفلية (الغربية) للسور إلى يمين المنتصف "باب يافا" المعروف اليوم بـ"باب الخليل" وإلى يمينه كتلة "القصر الملكي" أو "برج داوود".
7. البناء الضخم الهام المصور بشكل مقلوب بالنسبة للناظر الذي يحتل وسط الشطر السفلي للخريطة (وقد أوضحنا السبب في تصويره بشكل مقلوب أعلاه) هو "كنيسة الجسد المقدس" المعروفة أيضاً بـ "كنيسة القيامة". وهي التي بناها الملك قسطنطين الكبير في النصف الأول من القرن الرابع الميلادي وقام بتكريسها عام 325م. ثم حلت محلها بعد احتلال الفرنجة للقدس الكنيسة القائمة حالياً في الموضع ذاته والتي تحمل الاسم نفسه.
8. الشارع الفرعي الهام الذي يبدأ ببوابة صغيرة (شبيهة بقوس نصر) اعتباراً من ساحة باب دمشق العامة ثم ينعطف ليصبح موازياً للشارع المستقيم ويتفرع عنه شارع ينتهي عند "باب القديس استيفانوس" الموصوف في 4 أعلاه يمكن تعريفه اليوم بـ"شارع الواد". أما الشارع المتفرع عنه باتجاه الأعلى إلى "باب القديس استيفانوس" أو "باب ستّي مريم" فهو أيضاً معروف اليوم بـ"شارع سِتّي مريم".
9. بناء الكنيسة الضخمة أعلى النهاية اليمنى للشارع الرئيس هي كنيسة الـ"نيا ثياطوكوس" أي "كنيسة والدة المسيح الجديدة" التي عفّى أثرها اليوم ولكننا استدللنا على وجودها من كتاب "الصروح De Aedificiis V:6 " لبروكوبيوس مؤرخ بلاط الملك جوستينيان حيث ذَكَرَ أن الكنيسة دُشِّنَت عام 542 م. وقد أعاننا هذا التاريخ، بمساعدة قرائن أخرى، على الوصول إلى تأريخ خريطة فسيفساء مادبا بصورة مؤكدة خلال الربع الثالث من القرن السادس الميلادي.
الحقيقة، إن الحديث عن تفاصيل أخرى في خريطة القدس هذه يطول ولكن أكتفي بهذا القدر هنا وأنتقل للحديث عن الوثائق التصويرية الأخرى التزاماً بحرفية عنوان هذا البحث.
ثانياً: الوثائق التصويرية التاريخية لمدينة القدس:
أستعرض أربعة صور/خرائط تاريخية للقدس فيما يلي:
1. خريطة هامة لمدينة القدس تعود للقرن الثاني عشر ولعلها الأقدم من بين التمثيلات التاريخية التصويرية لمدينة القدس وهي محفوظة في المكتبة البلدية بمدينة كامبريه Cambrai بشمال فرنسا (الشكل 9).
2. تصوير منظوري للقدس ظَهَر في كتاب Liber Chronicalium Mundi 1493 يعود لعام 1493 أي أواخر القرن الخامس عشر (الشكل 10). ويلاحظ في هذا الرسم ثلاثة أسوار لمدينة القدس التي لم يكن لها إلا سور واحد فقط فيما تلا القرن الأول الميلادي. ويبدو أن واضع الرسم لم يرَ القدس في حياته بل تخيلها استناداً إلى المرويات.
3. رسم هولندي للقدس من القرن الخامس عشر (الشكل 11). والرسم مأخوذ من الجهة الشرقية خارج الأسوار باتجاه الغرب وهو واقعي جداً وكثير التفاصيل وتظهر فيه كافة المعالم العمرانية للمدينة بما فيها الأسوار والأبواب والحرم القدسي وكنيسة القيامة.
4. الرسم المجسم بالألوان للجغرافيين الألمانيَين براون وهوغنبرغ عام 1572 (الشكل 12).
وبالنظر للأهمية الخاصة لهذا الرسم الأخير، فإننا سنتناوله ببعض الشرح والتعليق دون أن نلجأ إلى الشرح المفصل الذي اعتمدناه في حديثنا عن خريطة فسيفساء مادبا أعلاه، بل سنكتفي بإيراد الرسم بعد أن قمنا بتنزيل التعريفات عليه، ومن ثم تنزيل خريطة القدس في فسيفساء مادبا فوقه للمقارنة (الشكل 13).
لاحظوا التطابق بين عناصر خريطة مادبا ورسم براون وهوغنبرغ. يرجى ملاحظة أن هناك مدة ألف عام تفصل بين الوثيقتين ومع ذلك فإن القدس حافظت على أهم معالمها مع فارق أن الحرم القدسي ليس مُمَثَّلاً في خريطة مادبا لأنه لم يُنْشَأ إلا في القرن الثامن.
في (الشكل 14) قمنا بتطبيق خريطة مادبا فوق صورة Google Earth للقدس القديمة اليوم لإظهار مدى محافظة القدس على أهم معالمها الرئيسة من أسوار وأبواب وشوارع رئيسة وتخطيط عام.
أما بالنسبة لما يُرَوَّجُ من أن هيكل سليمان كان يشغل مكان الحرم القدسي فدونه حديث آخر:
سنسوق للقارئ وثيقة هامة جداً (وهي ليست الوحيدة على أية حال) تدحض هذا الزعم بالدليل الأركيولوجي الدامغ الذي يأتينا من مؤسسة علمية أمريكية مشهورة عالمياً هي الجمعية الجغرافية الوطنية National Geographic Society. والدليل مصدره العدد الصادر من مجلة الجمعية الصادر في ديسمبر 2008 (الشكل 15) الذي أرفقت به خريطة للقدس القديمة (الشكل 16). يقول التعليق ما ترجمته:
"لا توجد أدِلَّةٌ أثرية مُـثْـبَـتَة من هيكل سليمان. وإنما يستند العلماء في إعادة إنشاءاتهم التخيلية له على الوصف التوراتي في سِفْرَيْ (الملوك الأول وأخبار الأيام الثاني) وعلى الأدلة من حفريات مبانٍ أخرى من تلك الفترة".
إعادة إنشاء تخيلي لِما يُفْتَرَض أن تكون عليه صورة هيكل سليمان حسب الجمعية الجغرافية الوطنية الأمــريـــكية National Geographic Society.
المصدر : الباحثون العدد 67 كانون الثاني 2013