من المؤكد أنها تمنع المرء من الانزلاق إلى الهاوية، أو تؤدي للقبض عليه حين أو بعد الوصول إليها، وكذلك بعد الانتقال إلى عالم الآخرة، لتقوم بمحاسبته.. عالَمان استثنائيان في حياة المتكون الإنساني، الأول روحي لا مادي ينقل الخطيئة والغفران في آن، تعرّف إليه الإنسان من خلال فهمه للمقدس، أي من خلال آليات عمل الملائكة، وبشكل خاص الرقيب والعتيد الجالسان بين جنبي الإنسان يرافقانه أينما حل وكيفما ارتحل لا يغادرانه أبداً، وكذلك الملك ميكائيل والذي يجسّد ميزان الله، والملك إسرافيل المختص بالمسرفين بالأرض، وملك الموت عزرائيل، وملك الوحي جبرائيل، وهو علم الجبر الرياضي الذي، يجبر الأفعال الصادقة والمخلصة والخيِّره، أي الاجتهاد، فالوصول إلى النصف يجبر إلى الواحد، فكان أن حمل اسم جبرائيل، وخزنة الجنة والنار، وطاووس الملائكة المسؤول عن رمي الناس في بحار الخطيئة، فأحبه البعض واتبعوه من باب أن الحرام في التصور جميل، وأيضاً شكّل لهم الخوف فاتبعوه، وكذا هاروت وماروت المختصان باستراق السمع العاملان كما تعمل وسائل الاتصالات في اختصاص التنصت، فكل الملائكة تتابع عملها وترفع إلى الرب الإله تقاريرها؛ فيكون الحساب بالتسجيل أولاً، ومن ثم بالعقاب الدنيوي الآجل أو العاجل والأخروي؛ ضمن منظور عالم القيامة والحساب، وفي الطريق إلى الجنة أو إلى النار، بمعنى أنها تعمل ليل نهار من تسجيل ورفع تقارير ومراقبة ومتابعة، فهي لا تسكن الجوهر الإنساني لتكون مسؤولة عن التخطيط والنوايا وتحديد نوعية الإنسان، تتجول في عقول البشر وقلوبهم وما بينهما، تعمل طوال الوقت لا تستريح أبداً، تنصف هذا، وترمي بذاك إلى أيادي العالم المادي؛ الذي بعد أن تعرَّف على ما لدى الإله من شرطة أنجز صنوف شرطته ونشرها بين عالمه المخلوق من روحه، فهي منه وله، وبدونها يحدث الانفلات وضياع المجتمعات المتشكلة من مجموع الإنسان، فظهرت على شكل الاعتراف للكهنة في الكنائس، وما زالت مستمرة، وإلى جانبها كانت الشرطة المادية بتنوعاتها الجنائية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وجميعها تخضع في المنظور المادي لسلطة القضاء.
نتحاور حول مضمون عنواننا، وإمكانية وجوده ضمن المكون الفكري الذي يسكن العقل بفعل الجين الوراثي أو الاكتساب، عن طريق التعلم والتفهم لنظم المسموح والممنوع، وبفعل التطور الحيوي والنفسي للشخصية الإنسانية، وكذلك وجودها كجهاز له غايات أهمها؛ التحكم بفلسفة وجود البشر من ذلك الوقت الموغل في القدم، أم أنها تستقبل الإنسان لحظة ولادته وترسم له المسموح والممنوع، فالتحكم في الفكر البشري ليس وليد عقد أو قرن أو آلاف من السنين؛ إنما قَدِم مع ظهور الإنسان، وحينما نبحث بغاية الكشف من باب أنه كشف يستحق الكشف، وإنما لمعرفة مقدار تحكم الفكر بالقوى الفكرية المفيدة، ولولا ذلك لانفلت العالم ولغدا مشاعاً غابيّاً لا يمكن السيطرة عليه، وحينما نبحث في أصوله ونتابع مجرياته، وندقق في تداعياته مستخدمين مكانة الطرق البديهية التقليدية، وبالاستعانة حتى بالتقنيات الحديثة.
هل تقوم الحواس بالوشاية على الفكر، على شاكلة أن هناك فكرة يريد حاملها أن يطرحها، فتقوم الشرطة الفكرية بمنعه من القيام أو الإدلاء بها، إذا كانت مادية خوفاً من أن يتابعها الآخرون حين ينبس بها، فيُدخلون صاحبها في ورطة عندما تنتشر وتصل إلى الجمهرة المتوزعة بين وسائط ووسائل الإعلام، والقضاء صاحب الحكم ومخافر الاحتجاز، ناهيك عن أجهزة الغرامات المالية، وإذا انفلتت فكرة دينية لا تتوافق مع أصحاب اللّفات والذقون والقلنسوات والعمامات انفلتوا عليك ووصفوك بالزندقة والكفر والإلحاد.
إذاً، هل تعمل الشرطة الفكرية على مبدأ تحليل الفكرة، وتتجول كما تحدثنا بين الأفكار والفكرة المكونة من مجموع عمليات؛ وكل عملية لديها عدة كلمات تحذف منها وتضيف إليها أو تلجمها أو تلجم اللسان، وهذا ما ندعوه الحاسة العاقلة، المرتبطة مباشرة بالحاسة الناطقة، فتجعل من الإنسان إما خائفاً مرتبكاً أو مؤيداً لجهة تلك الشرطة صاحبة الأغلال والفوهات المحشوة، تريد اصطياد الأسَّ لحظة نطقه بما لا ترغب، أم إنها وحينما تريد توريطه تدعه في حالة انفلات ليُتهم بعدها بالخيانة لها عبر مسميات: رفض الآخر. والإشارة إليه بالخيانة. أو الانزلاق إلى جادة الكفر. والتمرد والعصيان. أو التعارض مع المجموع، مما يسبب له الهروب من المكان اللغوي الفكري لشعوره بالمحاصرة، وأنه صيد سهل لتلك الشرطة التي تنتظره لحظة انتهائه من إلقائه لما رغب أمام من لا يرغب.
إن ما يثير الاهتمام حينما ندور حول عنواننا هو أنه ينشئ أسئلة مهمة، فهل وجودها من أجل زيادة إنسانية الإنسان، تمنعه من الانفلات وتأخذ به إلى الانضباط والاتزان؟ وفي ذات الوقت، ألا تمنعه من أن يكون حراً وديمقراطياً ومعبراً عما يجول في فكره من أحلام وآمال، أليس حضورها يشكل ضغطاً كبيراً يمنع الإنسان من الوصول إلى درجات التطور والحصول على أسس الإبداع، وهل المحتجز وراء الممنوع بقادر على أن يتقدم أو يتطور أو يصعد حتى إلى السماء؟.. لذلك أجد من المفيد أن نرى خصوم الشرطة الفكرية منفلتين على الفنون السبعة ومتقدمين فيها، وفي كثير من الأحيان هم من المنبوذين، أو إن لهم أجواءهم التي يحلّقون فيها، وأيضاً اجتماعياتهم منحصرة إلى حد كبير فيما بينهم، رغم استمتاع حاملي الشرطة الفكرية في عقولهم وحلُمهم في أن يصلوا إلى ما وصل إليه أولئك.
هل يعيش العالم البشري مفهوم الشرطة الفكرية الذي غدا يسيطر عليه، وهل بمقدور أيٍّ كان التحدث عن وقائعه التاريخية؟ فإذا حدث فعلى الإنسان العالمي أن يعي مغازيه، وكذلك ضرورة إمعان النظر في تفكيره حتى يلتقطه، فإما أن يمنعه من أجل إحداث الاختراق إلى الإبداع، ومن الممكن أن يتجه هنا إلى الخير أو إلى الشر، فالاثنان يحتاجان ذلك، وإما أن يستسلم له ليبقى تحت سلطة الممنوع والمحظور: لا تفعل. لا تخرب. لا تخطئ فتقع في المحظور.. ومنه نؤكد أن الحرية. والديمقراطية. والدكتاتوريات. والأنظمة الجمهورية الدستورية. أو الملكية الفردية. أو الدستورية. وكذا العنصرية والليبرالية، ما هي إلا أطر نسبية ومفاهيم عقلانية جرى إبداعها من عالمي الخير والشر، خاضعة للإرادة العاملة تحت سلطة الفكر، وفي الفكر نظامه المحكوم من شرطته، فلا يوجد في العالم الحي أيَّ شيء مطلق إلا المطلق الكلي الذي تتعلق به البشرية، على الرغم من أنه يتمثل لغة الحاضر الغائب، أو هو الشيء واللاشيء وكل شيء وليس كمثله شيء، والشيء لا تستطيع تعريفه بكونه أكبر من التعريف، ولا تدركه ولا تستطيع أن تمسك به؛ إنما تعيش معه ويعيش معك دون الالتقاء، وما دونه لا أحد يمتلك الحرية المطلقة، بكونه يدخل ويخرج الحياة بشروط المساحة العمرية الضئيلة والمتاحة في لُجة كل الأحياء، وحينما نسقطها على مسألة عنواننا "الشرطة الفكرية" المسيطرة بين المادي واللامادي؛ نعلم قيمة وقوّة عنواننا المؤثرة ضمن فلسفة تكويننا في البناء الإنساني ونتاجه من البناء المادي أي الحركة والسكون.
لماذا وجدت الشرطة الفكرية؟..
بما أن الإله أوجد الخير والشر ودفع به إلى بعضه فكان لا بد من وجودها، والغاية إنصاف المظلوم ووعده بالإنصاف، بكونها تسجل كل صغيرة وكبيرة، وتقوم هذه الشرطة بتحقيق القصاص من الظالم آجلاً أو عاجلاً، أي يراه المظلوم أو تراه الأجيال إن لم تتحقق رؤيته، أو أنه يكون في العالم الآخر، أو في العالم المادي، وكلما تعقدت القوانين نجد أن الظلم يزداد والفجور ينتشر والشرطة الفكرية تأخذ دورها محققة الرعب للإنسان، ليس في داخله فقط وإنما خارجه، حيث يتصور أثناء قيامه بأي فعل أن كل بنائه يتجه من المسكون في رأسه إلى القضبان الحديدية تريده خلفها؛ مما يؤدي إلى قتل الإبداع والتطور وبداية نهاية أي شيء.. وضمن هذا التحليل كله نجد أن لا أدلة على وجودها المادي في اللامادي، بينما شواهدها في المادي تملأ العالم البشري.
أعتقد أن قيمة الشرطة كبيرة، وحجمها في أسباب وجودها مؤثرة وضرورية في إنجاز الفعل، وقد نسميها الضوابط التي تساعدنا على إنجاز الأهداف البناءة والأخلاقية المفيدة للإنسان، فهي تضبط الهوية والفكرة حينما تمنعها من الانفلات، ونستطيع أن نطلق عليها بأنها مكتسب عقلي ومنظّم لسبله المنتشرة، وإني لأشبّهها بإشارات المرور، تسمح بالانسياب لإتمام العلاقات والبناء، ولا تسمح بالتجاوز أو التعدي أو الذهاب إلى الهاوية، أو أن تبقي الأفكار في مرحلة الهواية، وهنا أسأل جميعنا: هل منّا أحد لا يمتلكها، وهل يستطيع أحد طردها من فكره أو جوهره..؟ أيضاً أضيف في تساؤلاتي: هل يمكن اختراقها، وحينما نستطيع فعل ذلك إلى أين تأخذ بنا؟ إلى الإبداع وخلق الأفكار الجديدة، إلى العهر المنجب للغة الحب المستعدة إن تحققت ووصلت للجوهر وبنَت فيه؛ أن تلد أو تنجز خلقاً جديداً، ألا يعني لنا اختراقها كسر المحرمات (التابو) وتجاوز الممنوع بغاية الوصول إلى عملية التطور الذي لا يتم إلا بالجرأة النادرة التي تحمل الكثير من المخاطر، هذا إن تم في حالة امتلاك فائض الوعي، وإذا تم اختراقها بدون الوعي ألا تؤدي بنا إلى الهاوية، أي نقع في الخطايا ونغوص في مستنقع الجريمة؟.. لذلك أجدني أتحدث عنها فهل تأخذ شكل الضمير فتجمع المادي إلى اللامادي؟ طبعاً لا؛ إنما هي جزء من آليات للعمل تحت تأثير مظلة الكلي، وهنا من يعمل بدونها كلياً، فهي غير متوفرة فيه إلا بمقدار نسبة الشر الذي أنهى وألغى فيه الأصفاد المادية أو جحيم الآخرة اللامادي.
لم أشأ أن أُدخل في بحثي حذلقات لغوية وإنما تعاليم تقنية، لأن للمفكر معنى دقيقاً يدرك حقيقة الشيء الذي ينبئ عن وجود إنسان متطور، يحمل من ماهية وجوده أسباب ظهور شيء اسمه الإنسان، أدور بفلكه محاولاً قراءةً نوعيّة لفكره من فكري وفكرك وفكرها، ليتعلق العنوان بالبناء الإنساني الخلاق بأسره، فعقم الإنجاب الفكري المسيطر في فكرنا استطاع إفناء فكرة التطور أو لجمها وتحجيمها من الفكر العربي بشكل خاص، ومجتمعات دول العالم الثالث القابعة في شطري البناء الإنساني المادي واللامادي، والمعنى المفتاح في عنواننا يدعونا لفهم سبب الأقفال المغلقة في عقولنا.
لقد جهد علماء التأريخ في الاشتغال على الذهن الإنساني، وقاموا بأبحاث ضخمة وكانت جميعها تهدف لحصر الأفكار وتحجيم الذهنية الفكرية ومنعها من الانفلات الإيجابي، وقدموا للبشرية تزييفات علمية وأدبية واجتماعية وثقافية، فلمصلحة من تعمل الشرطة الفكرية بشقيها المادي واللامادي؟ فالروحي أوجده الإنسان بالتأمل العميق، ساعده الوحي نتاج إخلاصه لحقيقة وجوده، أي: حقق بالإخلاص مفاهيم سكنت العقل البشري مذ ذاك الوجود الموغل في القدم وحتى اللحظة وإلى ما سيأتي من الزمن، وأقصد المستقبل المنظور واللامنظور، فهل يستطيع أيّ كان التخلص مما سكن العقل البشري وضوابطه التي تحاسبه من بداية الفكرة حتى نهايتها، خالقةً في داخله حالة صراع بين الممكن واللاممكن، وكذلك في نتاجه المادي الإيجابي والسلبي البنّاء والهدّام؛ نجده يعمل ضمن تلك الضوابط التي نسميها حدود السماح والرفض والقبول، وبما أن محور ما نخوضه هو الإنسان، حيث وصل إلى ما وصل إليه؛ نجد أن كل أنواع الشرطة بصنوفها وأسلحتها التي مررنا عليها وذكرناها ونضيف عليها الخوف. والرعب. والحب. والخشية. والإقدام. والإحجام. والسكون. والحركة. والقوة. والضعف؛ ما هي إلا أداوت إنسانية مزروعة ضمن جوهر الإنسان، تأخذ به بإرادة أو دونها إلى الأمام أو إلى الوراء أو تبقيه في حالة السكون أو المراوحة في المكان، فالكل محكوم من إرادة عنواننا؛ الذي اشتغلنا عليه كما تحدثت ووصلت إلى أن حكم الشرطة المادية على الشرطة الفكرية أسرع، ونتائجها تؤدي بالإنسان إلى جحيمه الدنيوي منعكسة عليه بعدها إما في تعزيز السالب منه، وهذا على الأغلب بكون الإيجابي قليلاً.