هناك من يقول، ويؤكد القول: إن الشعر العربي مات، ولم يعد له وجود في حياتنا الثقافية والاجتماعية، لدرجة أن الجهة الوحيدة التي كانت - على استحياء - تقوم في السنة بطباعة عدة دواوين جديدة، امتنعت مؤخراً عن طباعتها ورقياً، واكتفت بالموافقة على الطباعة الإلكترونية، وأعني الهيئة العامة السورية للكتاب.. وأجدها مناسبة للقول إن الشعر العربي لم يمت.. إنه موجود في كل مكان، والذي مات هو المستوى الجيّد لهذا الشعر.. لقد أسلم الروح لدى بعض الشعراء أنفسهم، بحكم الوقائع الموضوعية التي انعكست سلباً على مجتمعاتنا الشعرية والمسألة لا علاقة لها مطلقاً بالموهبة الشعرية، الموجودة في الجوهر الإنساني..
الموهبة الشعرية في خطر شديد، بسبب «العالم» الذي تغيّر من الطبيعة إلى التكنولوجيا والاختراعات التي أحبطت الشعراء وأقعدتهم عن البحث عن الشعرية المخبوءة فيهم، ولم تعد القصيدة تتطلع إلى مستقبلها، واللغة لم يعد هناك من يهتم بها، والإنتاج اللغوي للقصيدة، لا أحد ينظر إلى غدِه، ويغامر مغامرة البحث والكشف والاكتشاف لكي يعثر على الشعر ويكتبه، أو لكي يجد فيه وسائل فنية وروحية وحياتية وحسيّة للتعبير عنه، في القصيدة..
في عالم اليوم، الكثير من الرعب والبشاعة والقبح والحروب والقتل والدمار والموت.. وفيه الكثير من الرداءة والتفاهة واللاشعر والأميّة، وفيه الكثير من «التكنولوجيا الشريرة» والاختراعات الماجنة واللامسؤولة، التي تناصب الشعر العداء، مما انعكس سلباً بشكل أو بآخر على مستوى الشعر والشعراء..
مع كل هذا وذاك، ما زلت أقول وأردد: إن الشعر مازال مقيماً فينا وحولنا، وفي جوهر الحياة البشرية.. في الوجدان، كما في جوهر الطبيعة، وفي الحواس وفي اللاحواس.. في الأرض والفضاء والبحار والصحارى والموانئ والبحار والمطر والغيم والقمر والجبال والسهول والعشب والظلال والعتمة..
في باطن الإنسان ومشاعره وفي جوهر الفن.. ومازلت أردد قول «جان كوكتو»: «أعرف أن الشعر ضرورة، وأن هذه الضرورة تتخطى منطق المعرفة وحسابات العقل» وأقول مع الشاعر الإسباني لوركا: «إن الأشياء كلها لها أسرارها، أما الشعر فهو سر أسرار هذه الأشياء».
وأعود لأقول للذين يقولون بأن الشعر في أزمة وقد مات أو أشرف على الموت والهلاك: عليكم أن تعرفوا أن ثمة فرقاً هائلاً بين رأيكم وحقيقة الشعر وطبيعته.. ينبغي معرفة أن هذا القول – الكابوس- قد يكون صحيحاً في معنى ما بسبب الجرائم التي تمعن في قتل الشعر يومياً عبر تعميم السطحيّة والجهل والأمية، وعبر تتفيه أسرار العبقرية قي الطبيعة، وعبر إلغاء الجمال وتدمير الكون والبيئة، وعبر تشويه الكلمات بالبشاعات الهائلة التي تتراكم إلى حدّ إلغاء بصيص الضوء والأمل في اللغات كلها، لكن ينبغي لكم أن تعرفوا أن هذه الأشياء موجودة خارج الشعرية والموهبة، وأن مادة الشعر وطبيعته غير قابلتين للموت..
ربما يكون محقاً، من يزعم أن الشعر لم يعد له مكانه مجتمعيّة متقدمة، في عالم الصورة والنت والفيسبوك.. وربما يكون محقاً من يزعم أيضاً أن الشعر في لحظة تراجع نوعي أو ضمور أو خفوت.. ربما ينبغي لنا أيضاً أن نعترف بأن شيئاً ما قد تغيّر في العالم والحياة، والعلاقة بين الإنسان واللغة، والشعراء، لكن ينبغي أن نقول أيضاً إنه يكفينا شاعر واحد، بل قصيدة واحدة، لكي نظل نؤمن بأن الشعر يقيم الحياة، والأمثلة في الشعر العربي والعالمي كثيرة، وثمة كثير من الشعر الذي لا تستطيع البشرية أن تحيا بدونه..
المصدر : الباحثون العدد 68 شباط 2013