يشمل مفهوم الوطن بالنسبة للإنسان جوانب عديدة تربطه بالأرض التي وُلِدَ بها وترعرع فوقها، فهو البيت الذي يعيش فيه، والعائلة التي ينمو في كنف محبتها وعطائها ودِفئها، والجيران الذين يرتبط معهم بصلات المودة والألفة والتراحم، والأصدقاء الذين يشاركهم ذكريات الطفولة ولقاءات الشباب، وغير ذلك من الأمور المادية والمعنوية التي توطِّدُ علاقته بوطنه.
والارتباط بالوطن مثل الارتباط بالأم، من الصعب، بل من المستحيل، فصمه. إنها علاقة أشبه ما تكون بالعلاقة الفطرية، وكلما ابتعد الإنسان عن أرضه ازداد شوقاً وحنيناً لها. لذا فإن الاستقرار والتجذُّر بالوطن هما الأساس، والهجرة واللجوء هما الاستثناء.
لكن الإنسان يجد نفسه بين عشية وضحاها وقد أصبح مضطراً للهجرة من بلده إلى بلدٍ آخر، أو من منطقته إلى منطقةٍ أخرى، من أجل العيش والاستقرار في البلد أو المنطقة الجديدة، فظهر في عالم اليوم ما صار يُعرفُ بـ: "الهجرية القسرية".
ولم يتوقف الإنسان-على مدى التاريخ- عن محاولة الهجرة من وطنٍ إلى وطن، سعياً لعملٍ أفضل يحصل منه على أجر أعلى، لكي يوفر له ولعائلته حياةً أفضل ومستقبلاً أكثر ضماناً، أو بحثاً عن أراضٍ جديدة لزراعتها، أو هروباً من الاضطهاد بسبب المعتقدات الدينية أو الآراء السياسية.
وقد أدَّت الهجرة - تاريخياً- دوراً رئيسياً في عملية التوازن السكاني بالشكل الذي يحقق فائدة كبرى لكل من الوطن المُهَاجَر منه والمقصد المُهَاجَر إليه، وكانت بعض أشكال الهجرة ترغيباً مثل هجرة الأوروبيين للقارة الأمريكية عقب اكتشافها في أواخر القرن الخامس عشر، وبعضها ترهيباً مثل تهجير الأفارقة السود للعمل عبيداً في القارة نفسها منذ القرن السادس عشر وحتى إلغاء الرق والعبودية في العام (1807). وربما كانت هاتان الهجرتان بدايةً لظهور ما بات يُعرف بالهجرة الطوعية والهجرة القسرية في العصر الحديث.
تتوقف الهجرة الطوعية على رغبة الإنسان بأن يحيا حياةً أفضل، وعلى المدى الذي يسمح به أيُّ بلدٍ للهجرة إليه، استناداً على قدرته لاستيعاب الوافدين الجدد. فقد كانت أستراليا ونيوزيلندا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية وجنوب إفريقيا بحاجةٍ إلى مهاجرين حتى أواخر القرن التاسع عشر، إذ كانت بلداناً في طور النمو، وبها مساحات شاسعة للسكان الذين رغبوا في العمل في الزراعة والصناعة والتجارة، إلا أنه حدث منذ بدايات القرن العشرين، أن وضعت هذه الدول قيوداً على الهجرة إليها بسبب عدم مقدرتها على استيعاب مهاجرين جدد. وحدث ذلك بضغطٍ من السكان المقيمين على حكوماتهم نتيجة إحساسهم بأنهم أصبحوا مهدَّدين بأفواجٍ من الناس يمكن أن تسلبهم فرصهم في كسب العيش.
يتوجَّب على الإنسان الراغب طوعاً في الهجرة إلى بلدٍ ما أن يكون لديه جواز سفر من بلده، وتأشيرة دخول (فيزا) وترخيص بالعمل في البلد الذي يرغب بالهجرة إليه. وتعتمد كثير من البلدان الآن على نظام الحصة ( الكوتا)، التي تُحدِّد عدد المهاجرين إليها من أيِّ بلدٍ أو منطقةٍ معينة، ويتأهَّل المهاجرون على أساس الأفضلية التي تُعطى للمهارات الفنية ومستوى التعليم والمعرفة اللغوية والسن.
تُعَدُّ الهجرة من المناطق البدوية والتجمعات الريفية إلى المدن الكبرى، حيث فرص العمل متوافرة، والأجور مرتفعة بسبب النشاط الاقتصادي والصناعي والتجاري وحركة العمران والفعاليات المختلفة التي تشهدها معظم مدن العالم، شكلاً من أشكال الهجرة الطوعية والهجرة القسرية في آنٍ معاً. لكنَّ هذه الظاهرة تُخَلِفُ العديد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، حيث تؤدي إلى اضمحلال وإهمال المناطق البدوية والريفية، وتراجع الإنتاج الحيواني والزراعي لترك السكان المهاجرين مناطقهم الرعوية وأراضيهم الزراعية، من ناحية، وإلى تضخُّـم المدن وظهور مناطق السكن العشوائي على أطرافها، وتدهور مستوى الخدمات الاجتماعية والمرافق العامة، وارتفاع أعداد العاطلين عن العمل ،من ناحيةٍ أخرى. وللقضاء على هذه الهجرة، لا بُدَّ من تنمية المناطق البدوية والريفية جنباً إلى جنب مع تنمية المدن.
كما تُعَدُّ هجرة العقول، التي تُعرف أيضاً بـ: "هجرة الكفاءات العلمية"، أو: "الاتجاه المعاكس للتقنية"، شكلاً من أشكال الهجرة القسرية أولاً، ثم الهجرة الطوعية ثانياً، لأن هجرة العقل المفكر برغبته ليست إلا تعبيراً عن عدم ارتقاء وطنه إلى اكتفاءٍ ذاتي على مستوى البحث العلمي، كما تُعَبِّر عن ضعف حركة التعاون العلمي وتبادل الخبرات بين الأوطان المنتمية للمنظومة الحضارية نفسها، مع ما لهذا التبادل من أهمية وحاجةٍ ماسَّة إليها، في ظل وجود نسبة من خريجي الجامعات تعاني من البطالة، فتضَّطر هذه العقول إلى الهجرة إلى بلاد تنتمي إلى منظومة حضارية أخرى، لممارسة نشاطاتهم وبحوثهم العلمية في بيئة أفضل تعطي دخلاً أعلى. لكن هذه الهجرة تُعَدُّ - في الوقت نفسه - من أخطر أشكال الهجرة، لأنها تتم غالباً من الدول الأقل نمواً إلى الدول الأعلى نمواً، مما يؤدي إلى تردي العلوم والصناعة والزراعة في البلدان المُصَدِّرة للعقول، وازدهارها في الدول المُسْتَقْطِبَة للعقول، بالإضافةِ إلى استنزاف الجزء المُخَصَّص من ميزانية الدولة للاستثمار في التعليم والتدريب، ومنح عوائدها بلا مقابل للدول المُتَقَدِّمة. وقد أكَّدت دراسة حديثة لمركز بحثي علمي عربي نُشِرَت في شهر آذار/مارس 2005 أنَّ هجرة العقول العربية تُكَبِّد الدول العربية خسائر تزيد عن مئتي مليار دولار سنوياً، والدول الغربية تُعَدُّ الرابح الأكبر من هجرة ما لا يقل عن (450) ألفاً من هذه العقول والأدمغة العربية إلى الخارج. وخَلُصت الدراسة إلى أنَّ المجتمعات العربية قد أصحبت بيئات طاردة للكفاءات العلمية العربية، مما أدَّى إلى استفحال ظاهرة هجرة العقول والأدمغة العربية إلى الخارج.
أما الهجرة القسرية، أو الهجرة غير الشرعية، فهي التي يضطر فيها الإنسان لترك وطنه إلى وطنٍ آخر، أو منطقته في بلده إلى منطقةٍ أخرى في بلده نفسها، لأسباب ترغمه على ذلك، دينية أو بيئية أو سياسية أو اقتصادية.
ولقد بدأت الهجرة القسرية بالظهور بشكلٍ لافت للنظر في تسعينيات القرن العشرين مع بدء تفكك الاتحاد السوفييتي، بدأت بأرقامٍ متواضعة أخذت بالتزايد سنةً بعد سنة، حتى وصلت في عام (2002) إلى نحو (42) مليون لاجئ على مستوى العالم، حسب تقديرات المنظمات الدولية المعنية. واللاجئون نوعان: "لاجئ" و"نازح"، حيث يُقدر عدد اللاجئين بنحو (20) مليون لاجئ، في حين يقدر عدد النازحين وسطياً بـ (22) مليون نازح.
والفرق الوحيد بين اللاجئ والنازح - في المصطلح القانوني - هو أن اللاجئ قد غادر حدود وطنه الأصلي أو بلد إقامته المعتاد، وانتقل إلى وطنٍ آخر لا يربطه به أي رابط، إلا أنَّه وجد فيه بظنه مكاناً آمناً بعد الذي تعرض له - حيث كان يقيم - من مخاوف عامة أو خاصة. أما النازح فهو، وإن كان قد ترك مكانه الأصلي بسبب مخاوف من أحد النوعين، إلا أنه لم يغادر حدود بلده الذي يحسبه آمناً، ويكاد أن ينطبق عليه هنا مصطلح: "الهجرة الداخلية". وهذا الفارق في المصطلح القانوني ليس بذي أهمية، إذ نحن في الحالين أمام أعدادٍ من البشر لم يعودوا يعيشون كما كانوا يعيشون، وتركوا ديارهم وممتلكاتهم وأهلهم مُــرغمين، لينجوا بحياتهم من خطرٍ داهم.
واللاجئون قد يكونون أحسن حالاً من النازحين، فهم غالباً ما يجدون فور اللجوء منظمات الإغاثة الدولية وقد انتقلت إليهم لمساعدتهم، كما حدث - على سبيل المثال - في رواندا (1994)، عندما اضطر الآلاف من أفراد قبائل التوتسي اللجوء إلى البلدان المجاورة هرباً من بطش قبائل الهوتو، إذ سارعت الهيئات الدولية الرسمية وغير الرسمية إلى تقديم العون لهؤلاء اللاجئين. لكن النازحين، وهم داخل بلدانهم، لا تستطيع يد العون أو الغوث أن تصل إليهم إلا بإذن حكوماتهم المسيطرة على أراضي هذه البلاد، وغالباً ما تقوم هذه الحكومات بمساعدتهم ضمن الإمكانات المتاحة.
في شهر آذار/مارس 2005 نشر المجلس النرويجي للاجئين تقريره السنوي الذي جاء به أن الحروب الأهلية وانتهاكات حقوق الإنسان تدفع كل سنة ثلاثة ملايين شخص، أي نحو ثمانية آلاف يومياً، إلى مغادرة منازلهم والبحث عن ملجأ داخل بلادهم. وجاء في التقرير أن العدد الإجمالي للأشخاص النازحين في بلادهم يُقَدَّر بنحو (25) مليون نسمة، ويشمل (50) بلداً في كل القارات، وهذه الأرقام تجعل من النازحين أحد المجموعات الأكثر عرضةً للمشاكل والأكثر إهمالاً. ومع أن آلاف الأشخاص قد تمكنوا من العودة إلى منازلهم خلال العام المنصرم، لكن هذه العودة اتسمت بتفاقم العنف وبعمليات نزوح شديدة في مناطق مثل دارفور بغرب السودان.
أشكال الهجرة القسرية:
تتخذ الهجرة القسرية وجوهاً متعددة تبعاً للأسباب التي أدت إليها، وهي الهجرة الدينية، الهجرة البيئية، الهجرة الاقتصادية،.. وغيرها.
1 - الهجرة الدينية:
وتحدث عندما يضطر الناس إلى الفرار من موطنهم إلى وطنٍ آخر، خوفاً من ممارسات الأنظمة القمعية ضدهم بسبب معتقداتهم الدينية. وخير مثال على الهجرة الدينية قديماً هجرة صحابة رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم) من مكة المكرمة إلى الحبشة، وطلب الحماية من ملكها النجاشي، بسبب أذى المشركين على المسلمين، وذلك في السنوات الأولى للبعثة النبوية الشريفة، ويعَدُّ ذلك من أوائل إن لم تكن أول حالة لجوء سياسي معروفة في التاريخ.
كما تُعَدُّ هجرة آلاف العائلات من مسلمي الأندلس إلى المغرب وبلدان شمال إفريقيا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، هرباً من اضطهاد الإسبان النصارى ومحاكم التفتيش، مثالاً عن الهجرة الدينية في بدايات العصر الحديث. وفي فترة استقلال البلدين الجارين الهند وباكستان في عام (1947)، هاجر الآلاف من المسلمين من الهند الحالية إلى باكستان، وفي الوقت نفسه هاجر آلاف الهندوس من باكستان الحالية إلى الهند، ورافق ذلك عمليات عنفٍ واسعة.
وتعرض الآلاف من مسلمي البوسنة والهرسك، بالإضافة إلى السكان الكروات، منذ بدء الحرب في هذا البلد في عام (1992) للاضطهاد والطرد والقتل على أيدي قوات صرب البوسنة، فيما عُرف بـ: "سياسة التطهير العرقي"، وتحولت أعداد كبيرة من هؤلاء إلى نازحين في وطنهم البوسنة والهرسك، ولم تتوقف هذه الأعمال البربرية حتى انتهاء هذه الحرب في عام (1995)، عندما تدخلت المجموعة الدولية لفرض وقف إطلاق النار.
ولدى الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة سياسة فريدة من نوعها، حيث يُسمح لأي يهودي من أي جهة في العالم، بدخول أرض فلسطين المحتلة والحياة فيها والحصول على جنسيتها، ومصادرة الأراضي من العرب الفلسطينيين وطردهم منها بالقوة، لاستيعاب المهاجرين اليهود الجدد، وقد وصل عدد اليهود في (إسرائيل) في عام (2009) إلى أكثر من سبعة ملايين نسمة، أغلبهم وصل إليها هجرةً.
2 - الهجرة البيئية:
كثيراً ما يضطر الناس لترك أماكن عيشهم، مؤقتاً أو بصفة دائمة، بسبب التدهور البيئي الشديد الذي يهدد بقاءهم، أو له تأثير كبير على نوعية حياتهم. ويُطلق على هؤلاء مصطلح: " اللاجئون البيئيون ". والتدهور البيئي هو أي تغييرات طبيعية أو كيميائية أو بيولوجية، تحدث بشكل عادي أو فجائي، فتؤدي إلى تعطيل وظائف النظم البيئية، لدرجة أنها أصبحت غير قادرة على دعم حياة الإنسان.
هناك ثلاثة أشكال من اللاجئين البيئيين:
أولاً- المهاجرون البيئيون المؤقتون: وهم الذين يتم تهجيرهم مؤقتاً من منطقة ما بسبب أحداث طبيعية طارئة، مثل حدوث زلزال أو بركان أو عاصفة أو فيضان، أو أي حادث صناعي. وهؤلاء يُعادون إلى مواطنهم الأصلية بعد انتهاء الحدث وإعادة تأهيل المنطقة. ومن أحدث الأمثلة على هؤلاء المهاجرين هم أولئك الذين رُحِّلوا عن الأراضي المدمرة التي ضربتها أمواج تسونامي الناجمة عن الزلزال الذي أصاب قعر المحيط الهندي في 26/12/2004، إذ قررت السلطات إعادة بناء التجمعات السكانية الجديدة في أماكن بعيدة عن الساحل خشية وقوع زلزال آخر محتمل.
ثانياً- المهاجرون البيئيون الدائمون: وهم الذين يجري نقلهم من مواطنهم الأصلية بصفة دائمة، وتوطينهم في مناطق أخرى بديلة، كما يحدث - مثلاً - عند تشييد سد على نهر، وما ينشأ عنه من بحيرة اصطناعية، فيتم نقل تجمعات سكانية بكاملها من المناطق التي تغمرها البحيرة إلى مواقع جديدة، ومثالها تهجير سكان منطقة "مَرَوي" في شمال السودان لبناء سدٍّ على نهر النيل في مطلع سنوات القرن الواحد والعشرين.
ثالثاً- المهاجرون البيئيون المقْسَرون: وهم الذين يضطرون لترك مواطنهم الأصلية، بصفة مؤقتة أو دائمة، إلى مواطن أخرى داخل البلد نفسه أو خارجه، بحثاً عن حياة أفضل، وذلك لأن الموارد الطبيعية في مواطنهم الأصلية تراجعت لدرجةٍ أنها لم تعد تكفي الضرورات الأساسية، مثل المزارعون الذين تدهورت أراضيهم نتيجة زيادة الملوحة أو التشبع بالمياه أو الجفاف، ولا يستطيعون الإنفاق على إصلاحها، فيبيعون أراضيهم بأسعار زهيدة في أغلب الأحيان، ويرحلون إلى أماكن أخرى بحثاً عن أعمال أكثر ربحية. ومثال هؤلاء بعض الصوماليين الذين يتركون أراضيهم التي أصابها القحط، ويتحرَّكون نحو أراضٍ خصبة.
لا توجد إحصاءات دقيقة عن أعداد اللاجئين البيئيين في العالم، سواءٌ ضمن الدولة الواحدة، أو لدى المنظمات الدولية أو الإقليمية أو الهيئات غير الرسمية، ولكن التقديرات تشير إلى أن العدد يتراوح بين (10-25) مليون لاجئ بيئي.
3 - الهجرة الاقتصادية:
وهي – غالباً - هجرةٌ ذات اتجاه واحد: من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال، أي من مناطق الفقر إلى مناطق الغنى، إذ تُشَكِّلُ الظروف الاقتصادية السيئة، والمشاكل المزمنة التي تعاني منها دول العالم الثالث عموماً، مثل البطالة والفقر والفساد، ونقص الخدمات الصحية والتعليمية، وكل ما ينتمي إلى عوامل التنمية حتى في حدودها الدنيا، أهم العوامل التي تدفع الناس إلى الهجرة من وطنهم إلى وطنٍ آخر، إلى درجة تدفعنا إلى القول إنَّ الوطن هنا يطرد أبناءه، فيصبح الوطن طارداً، والمواطن مطروداً. ولو كانت هذه الهجرة تتم بالطرق النظامية لكان الأمر عادياً جداً، فنحن هنا أمام إنسان اختار بمحض إرادته الهجرة إلى بلدٍ آخر، بحثاً عن وضع معاشي أفضل، ولغادر بلده ودخل بلدٍ آخر بشكل سليم لا غبار عليه. ولكن المأساة تكمن في أن معظم هؤلاء اللاجئين يغادرون بلدهم بشكل غير شرعي، ويعبرون حدود البلدان بشكل غير شرعي، ويدخلون بلد الهجرة بشكل غير شرعي، ويتم كل ذلك على أيدي تجار البشر، وبوسائل تُعرِّضُهم للهلاك والموت. ومما لا شك فيه هو أن من يغادرون أوطانهم ويذهبون إلى أوطانٍ أخرى لا تنتمي إلى طباعهم، بحثاً عن فرصٍ ضئيلة للعمل، إنما هم مُرغمون على تلك المغادرة القسرية، حتى وإن كان الموت أقوى احتمالاتها، ولا شكَّ أيضاً بأن منهم من سبق له وحاول الهجرة بطريقٍ شرعي دون جدوى.
بدأت ظاهرة الهجرة غير الشرعية في بدايات تسعينيات القرن العشرين، في وقت متزامن تقريباً مع تفكك الاتحاد السوفييتي. كانت أرقاماً متواضعة في البدء، ثم أخذت تتبلور شيئاً فشيئاً، وتتضح معالمها أكثر فأكثر، وتتنامى يوماً بعد يوم، وترتفع أعدادها أسبوعاً بعد أسبوع، حتى أصبحت إحدى المشاكل المزمنة التي يُعاني منها العالم النامي والعالم المتقدم على السواء، وصارت تؤرق العالم بكامله، وتبذل الحكومات المعنية مساعيها للقضاء عليها دون جدوى، بل شنَّت عليها ما وصفها البعض بأنها " حرب الهجرة "، وهي حرب حقيقية غالباً ما يدفع فيها المهاجرون ثمناً باهظاً. وقد اختلفت طرائق التعامل مع هؤلاء اللاجئين غير الشرعيين سواءٌ في البلدان التي لفظتهم، أو البلدان التي تَلَقَّتْهُمْ، وأغلبهم من العناصر الشابة الذين تتراوح أعمارهم بين (18-30) سنة. ومع أنه توجد برامج توعية للحد من ظاهرة الهجرة غير الشرعية، إلا أن الضغوط الاقتصادية والسياسية الموجودة في مجتمعات العالم الثالث أكبر من أي توعية. ففي بعض المجتمعات تصل نسبة الفقر إلى حدود كارثية، بحيث تدفعهم ظروف البؤس إلى رمي أنفسهم في دوامات الهجرة واللجوء عبر البحار والمحيطات والأراضي المُقفرة والصحارى الشاسعة، دون أن يعوا مخاطر ما يفعلون، ولم تستطع جثث المهاجرين الغرقى أن تردعهم. ومما يُشجع على هذه الهجرة هو الغرب الغني نفسه، الذي يتباهى برغد العيش فيه، ويستغل الأيدي العاملة الرخيصة، ولاسيما المهاجرة منها بصورة غير شرعية أو سرية، التي غالباً ما تتم على أيدي تجار البشر أو عصابات تهريبهم، وهذا ما سوف نتطرَّق إليه بإسهاب في مقالةٍ قادمة بإذن الله.
للتواصل : دمشق 5130419
المصدر : الباحثون العدد 68 شباط 2013