نعلم أن الطبيب في الجراحة العادية يمسك بمبضعه ويفعل فعلته في العضو المريض من الجسم، بشكل واقعي وحقيقي، لكن ما الذي يفعله الطبيب الجراح في عالم الواقع افتراضي (أو عالم خائلي) Virtual reality؟
تعدّ الجراحة فرعاً من العلوم الطبية الذي يُعنى بعلاج المرض أو التشوهات أو الإصابات بإجراء العمليات. والطبيب الذي يقوم بإجراء العمليات يُسمَّى الجرَّاح. وكل طبيب له قدر من الخبرة على الجراحة، كما إنه مؤهلٌ لإجراء العمليات البسيطة. لكن الجرّاحين مدربون تدريباً خاصّاً بحيث يكون لديهم الحكمة والمقدرة على إجراء العمليات المعقدة. ويلزم التدرب من 4 إلى 7 سنوات بعد التخرج في كلية الطب ليصبح الأَطباء مؤهلين للتخصص في الجراحة.
مما يتدرب عليه الطبيب الجراح خلال فترة تدريبه كيف يولج أنبوباً خاصاً يدعى منظار البطن- وهو ليف بصري مزود بآلة تصوير وأداة جراحية- عبر شق في البطن بطول ثقب المفتاح، وهو يسترشد فقط بوساطة الصورة التي تظهر على جهاز المراقبة ليقوم بتحريك منظار البطن في مناورة دقيقة ضمن حدود جذع المريض، ومن ثم يوجه الطبيب عصا التحكم إلى الحويصل الصفراوي هدف العملية.
يشعر الطبيب بالتوتر بسبب التشريح عبر الحويصل الصفراوي، فهو يرى الدم ينزّ من الشق، وبعد ساعة تقريباً من الجرح والخياطة فإنه يكمل عملية استئصال المرارة بوساطة منظار البطن. لقد تمت العملية بنجاح لكن بشكل افتراضي على بطن محاكى بالحاسوب.
في الجراحة الافتراضية أو جراحة الواقع الافتراضي، فإن صوراً حاسوبية ثلاثية الأبعاد تم تكرارها بدقة لكل من البطن والحويصل الصفراوي. حتى النزف والإحساس اللمسي بسبب إحداث جرح خلال النسيج تمت محاكاته حاسوبياً، وذلك لإيجاد الشروط الدقيقة التي سيواجهها الجراح في النهاية في غرفة العمليات.
صورة 01:
يستخدم الأطباء محاكيات جراحية ذات واقع افتراضي لتعلم تقانات جديدة ولممارسة إجراءات معقدة، إذ يمكن نسخ حركات الجراح بدقة بوساطة أذرع روبوتية تقوم بأداء جراحة عينيّة دقيقة.
لقد تم تطوير نظم الجراحة الافتراضية أيضاً لمحاكاة جراحة العين والبروستات بالإضافة إلى إجراءات التنظير المتنوعة في جوف البطن والصدر. وعندما تصبح هذه النظم مصقولةً أكثر فإنه من المرجح أن يظهر في الواقع الافتراضي عادات تعليم نفسية لتثقيف وتدريب الجراحين.
نظرة إلى الخلف
تعود نشأة الجراحة الافتراضية إلى أواخر ثمانينيات القرن العشرين. ففي تلك الفترة أنتجت تقانة الحاسوب نوع من ألعاب الفيديو عالية التقانة تسمى (أركادي Arcade)، حيث يرتدي فيها اللاعب خوذة خاصة تحوي على شاشتي فيديو تقدمان صوراً مختلفة بشكل طفيف لكل عين بحيث تتولد صورة ثلاثية الأبعاد تجعل مرتديها يبدو كأنه موجود فعلياً في المشهد المولد حاسوبياً.
وقد أدرك مبدعو هذه التقانة سريعاً التطبيقات التي لا تحصى لها، وفي الوقت نفسه تقريباً بدأ الواقع الافتراضي بصنع الإحساس، فإن نوعاً جديداً من الجراحة يسمى بـ (تنظير البطن) كان يأخذ موقعه بسرعة مكان الطرائق التقليدية لإجراء عمليات معينة في الحوض والبطن والصدر.
للأسف كانت المدارس الطبية والمشافي التعليمية مترددة فيما يتعلق بأفضل طريقة لتعليم تقانات تنظير البطن لطلابها وهيئاتها. علماً أن الجراحة التنظيرية بوساطة منظار البطن يكون تأثيرها على النسج السليمة في الحدود الدنيا، وتتطلب من الأطباء العمل ضمن منطقة مقيدة جداً من تجويف البطن أو الصدر.
الغالبية العظمى من عملية منظار البطن تنجز بوساطة التحكم عن بعد بالإضافة إلى الشق الأولي، فإن كل جرح وخياطة ينجز عملياً بأدوات جراحية تؤثر فيها عصا التحكم. والوصول المرئي إلى المكان الجراحي يقتصر على صورة ثنائية البعد تظهر على جهاز المراقبة التلفزيوني.
الطبيب المتدرب يجب أن يكون لديه مستوى استثنائي من التناسق بين حركة اليد والعين عند التحكم عن بعد، حتى قبل دخوله غرفة العمليات.
صورة 02:
في برامج الجثث الافتراضية يمكن للأطباء الضغط على أي موضع من هذه الجثة لمعرفة مكوناتها وأجزائها.
محاكاة الجراحة
في النهاية اكتشف الأطباء طريقة لتدريب الجراحين الجدد على تنظير البطن، بالاستعانة بالطرائق المستخدمة في تدريب ربان الطائرة. إذ تسرّع عملية التعلم بوساطة نسخة مطابقة للظروف التي سيواجهها ربان الطائرة، طبعاً قبل مغادرة الأرض. وتتطلب محاكيات الطيران دون شك حوسبة أقل تعقيداً مقارنةً مع المحاكيات التي تصور تفاعل الأعضاء الداخلية التي يمكن أن تجرح أو تشد أو تلصق من جديد أو تعالج بطرائق أخرى.
لقد بذل الباحثون في مجال محاكيات الجراحة جهداً كبيراً من أجل صنع العناصر المرئية والإحساس اللمسي الذي يحتاجه الطبيب لتعلمها بالاختبار أثناء تدريبه على الجراحة بمنظار البطن.
تقانة الواقع الافتراضي ستصبح أداة لا يستغنى عنها بالنسبة للأطباء المتدربين، وهو ما يتوقع الكثير من الاختصاصيين الذين مارسوا العمل فيها. يقول جيمس روسّر: "إن الواقع الافتراضي له استخدام ومنزلة واضحين في المستقبل، وسوف نحتاج إلى سرّية كاملة لتسليم الرعاية الصحية الجراحية في القرن 21". ويعدّ كيفن ماك غوفرن أن جراحة الوقع الافتراضي "حادثة مختلفة تماماً إلى أبعد حد من نشأة التخدير العام".
فيما يتعلق بتطبيق الجراحة الافتراضية من أجل تدريب جرّاحي التنظير البطني، فقد كانت الجراحة قبلها تعني تعريض الجسم لأذية ما، في حين أن الجراحة الافتراضية تخفّض من هذا التعريض إلى حدوده الدنيا، ويتطلب من الطبيب أن يتعلم مجموعة من الممارسات والمهارات الجديدة.
فوائد عظيمة
كان على الأطباء التمرن على مجموعة من الحيوانات والجثث الحقيقية، في حين إنه في الجراحة الافتراضية يتم التخلص من هذه الممارسات المكلفة والمثيرة للجدل أحياناً. إنها تتيح الفرصة للجراحين ليتدربوا على التقانة بقدر ما يرغبون قبل أن يجروا عملهم الجراحي على مرضى حقيقيين من لحم ودم، وأخيراً فإنها تساعد النظم الافتراضية على إيجاد بيئة خالية من الأذى ومجهزة لتزويد الجراحين بتغذية راجعة وتحذرهم إذا وقعوا بأخطاء.
تمكن تقانة الواقع الافتراضي الأطباء أيضاً أن يتدربوا على عمليات معقدة على مرضى افتراضيين يولدهم الحاسوب، ولا أحد طبعاً يصاب أذى. فإذا أخطأ الطبيب فإنه يعيد ضبط الآلة من جديد ويبدأ مرةً أخرى، بعد أن تنبّهه إلى مكان الخطأ.
تحسّن الجراحة الافتراضية الإدراك الحسي للعمق كما تزيد من براعة اليد غير المسيطرة، ويقصد باليد غير المسيطرة مثلاً: اليد اليسرى بالنسبة لشخص يستخدم يده اليمنى، وهذا هدف مهم خصوصاً في تنظير البطن، لأن هذا النوع من الجراحة يتطلب أن تؤثر كلتا اليدين في عصا التحكم.
من الفوائد التي يتحصل عليها الطبيب هو سرعة التعلم، يقول أحد الأطباء: " بعد يومين من التدرب على تنظير البطن الافتراضي أصبحت أنجز أشياء لم أكن أظن أنها كانت ممكنة".
ثورة في البرمجيات
لقد صُقلت النماذج الأولية للجراحة الافتراضية، وأصبح لبرامج المحاكاة قيمة حقيقية في الحاجة الملحة لتدريب الجراحين الجدد على تقانات تنظير البطن وغيرها من التقانات. فالأطباء ليسوا وحيدين في التسليم بإمكانية نظم الجراحة الافتراضية، إذ يوجد جامعات كثيرة وشركات صيدلانية قد قدمت الدعم لأفراد وشركات متخصصة في الواقع الافتراضي، وقد نجحت هذه الشركات فعلاً في التقدم، فقد استطاعت إحدى هذه الشركات في وضع تصميم للقلب وصَفَه الأطباء المتخصصون إنه "أشبه بركوب سكة حديد أفعوانية". فهو يقدم حتى نظرة داخلية على فيزيولوجيا النوبة القلبية إضافة للأمراض الأخرى.
ويتوقع في المستقبل أن تصبح العيادات افتراضية أيضاً، بحيث تخزن كافة أنواع الصور الخاصة بالمريض على الحاسوب بشكل ثلاثي الأبعاد، ثم تعرض للطبيب أماكن العمل الجراحي الذي تم سابقاً.
الجراحة عن بعد
لقد دُهش العالم عندما جلس طبيب جراح خبير في أحد مشافي نيويورك عام 2011، خلف شاشة تلفازية وأمامه اثنان من عصا التحكم، مثل تلك التي يستخدمها الأطفال في ألعاب الفيديو، وراح يحركهما يميناً وشمالاً بكل دقة، وهو يمضغ اللبان في فمه. فقد كان واثقاً من أن عملية استئصال الزائدة التي يجريها في أحد المشافي البريطانية لامرأة عجوز من نيويورك ستنجح.
وتعدّ الجراحة عن بعد التطبيق الأكثر طموحاً للجراحة الافتراضية، لأن من يقوم بالعملية في الطرف الآخر هو ذراع روبوتية.
أجل لقد دخل العالم في عصر الجراحة عن بُعد (تدعى أيضاً بالروبوتات بعيدة الوجود)، مبشراً بإمكانية إجراء عملية لرائد فضاء مصاب وهو على المريخ أو حتى في مركبته الفضائية مهما بَعُدَ عن الأرض، كما ستمكِّن الجراحين العسكريين في المشافي الميدانية وراء خطوط الجبهة من القيام بجراحة إسعافية معدّة لإنقاذ حياة الجنود الجرحى بعد أن يتم إجلاؤهم. كذلك يمكن القيام بإجراء عمليات في القرى البعيدة والمجتمعات النائية.
صورة 03:
تتيح ألواح الرسم إمكانية التدرّب على إجراء العمل الجراحي بشكل جيد، خصوصاً بالنسبة للأطباء الجدد.
عناوين
تعدّ الجراحة عن بعد التطبيق الأكثر طموحاً للجراحة الافتراضية.. لأن من يقوم بالعملية في الطرف الآخر هو ذراع روبوتية
يتوقع في المستقبل أن تصبح العيادات افتراضية أيضاً.. بحيث تخزن كافة أنواع الصور الخاصة بالمريض على الحاسوب بشكل ثلاثي الأبعاد ثم تعرض للطبيب أماكن العمل الجراحي الذي تم سابقاً
كان على الأطباء التمرن على مجموعة من الحيوانات والجثث الحقيقية.. في حين إنه في الجراحة الافتراضية يتم التخلص من هذه الممارسات المكلفة والمثيرة للجدل أحياناً
اكتشف الأطباء طريقة لتدريب الجراحين الجدد على تنظير البطن بالاستعانة بالطرائق المستخدمة في تدريب ربان الطائرة.. إذ تسرّع عملية التعلم بوساطة نسخة مطابقة للظروف التي سيواجهها الربان
المصدر : الباحثون العدد 69 أذار 2013