كُتب الكثير عن أبي الطيب المتنبي، وعن أسفاره وأشعاره وسيرته ورحلاته الكثيرة، فقد سلخ معظم سنوات عُمره متنقلاً من بلد إلى آخر، لا يقّر له قرار، فاتخذ من ظهور المطايا مقاماً، ومن رحالها أرضاً، وهو القائل: «ما طلبت الإقامة في أرض لأني أبداً على سفر، ولا عزمت الرحيل عنها، لأن الرحيل إنّما يكون بعد الإقامة، ولا إقامة لي حتى أرحل».
يقول الثعالبي في يتيمة الدهر « كان كثيراً ما يتجشّم أسفاراً بعيدة، أبعد من آماله، ويمشي في مناكب الأرض، ويطوي المناهل والمراحل، ولا زاد إلا من ضرب الحراب على صفحة المحراب» تلك كانت حاله منذ خروجه من العراق إلى بلاد الشام، وتطوافه في أرجائها إلى أن لقي سيف الدولة، فبسم له الحظ في كنفه، وأكرمه غاية الإكرام، ولكن حسّاده نقموا عليه، فبيتوا له المكائد وناصبوه العداء، حتى فرّقوا بينه وبين سيف الدولة، فقصد مصر، وكان له عند «كافور» ما كان، فغادر الفسطاط إلى الكوفة خفيّة دون وداع، ومن الكوفة توجّه إلى بغداد، فلم يطب له فيها المقام، فتنقل في أماكن عديدة، حتى قتل على يد عصابة في الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة 354هـ بالقرب من دير قُنَّى على الضفة الشرقية من نهر دجلة..
حول أسفار وأشعار المتنبي ورحلته في التاريخ والشعر والجغرافيا، يطل علينا كتاب الأستاذ الباحث قاسم وهب، في إصدار جديد عن الهيئة العامة السورية للكتاب، يقوم فيه بتتبع خُطا هذا الشاعر العملاق من مكان إلى آخر منذ الخروج إلى بادية السماوة إلى مقتله المؤلم، وقد نجح المؤلف وأحسن برسم المسالك والطرق التي سلكها المتنّبي، وقام برصدها وتحديدها ووصفها معتمداً على مراجع عديدة، وعلى ما قاله المتنبي من أشعار عظيمة..
من الكوفة إلى بادية السماوة
تبدأ الرحلة سنة 313هـ عندما بلغ الصبي المدعو أحمد بن الحسين الجُعفي الملّقب بالمتنّبي، العاشرة من العمر، فغادر الكوفة بصحبة أبيه متوجهاً إلى بادية السماوة، حيث تُقيم فيها قبيلة بني كلب، إحدى قبائل جنوبي الجزيرة العربية، وقد استضاف المتنبي وأسرته بنو الصابي، وهم بطن من جُشم بن همدان، أجداد المتنبي لأمه، ولم يكن هؤلاء القوم بمنأى عن التأثر بتعاليم القرمطية، التي يُرجح أن الصبي لم ينج من التأّثر بها أيضاً، فظهرت جليّة في تلك الصرخات الشعرية التي تدعو إلى التمرّد والعنف، على الرغم من حرصه الشديد على عدم البوح بتأثّره بتلك التعاليم..
عاد المتنّبي إلى الكوفة بعد سنتين من الإقامة في البادية بدويّاً قُحّاً، وكان قد أتم الثانية عشرة في سنة 315هـ، فسعى إلى إعادة الصلة بأترابه وأصحابه، كما حرص على إقامة علاقات جديدة، ودراسة الشعر الجاهلي والأموي والعباسي، واصطفى من العصر الأخير كلاً من أبي تمام والبحتري، لدوافع عزاها بعضهم لسببين، أولهما، أدبي وثانيهما: قبلي، إذ تجمعه بالشاعرين المذكورين رابطة الانتماء إلى عرب الجنوب، إذ كان يسود الاعتقاد بأن العبقرية الشعرية العربية تكاد تكون وقفاً على اليمنيين دون سواهم..
أدرك الصّبي أن واقع الحال في الكوفة، وما آلت إليه الأمور من عدم الاستقرار إثر الهجوم الثاني الذي شنّه القرامطة على المدينة عام 315هـ بقيادة أبي طاهر الجنابي، يدعو إلى التفكير الجدّي بالرحيل عن مسقط رأسه، فعزم على الذهاب إلى بغداد بصحبة أبيه، في أواخر عام 316هـ، وبقي فيها إلى نهاية عام 318هـ، التقى خلالها عدداً من العلماء والأدباء، ولكن الحال لم يعجبه، فاتجه نحو الشام آملاً أن يجد من يقدّر موهبته ويرعاها، وكانت محطة وقوفه الأولى في الموصل ثم نصيبين، ومن الرقة إلى منبج، إلى طرابلس، ومنها توجه إلى اللاذقية، وهو يمّني النفس بأن يلوذ بالتنوخيين ولاة هذه المدينة الساحلية الجميلة، الذين تربطهم بالمتنّبي رابطة النسب، وكانت أول قصائده في اللاذقية مرثية قالها في رثاء محمد بن إسحق التنوخي، وهو من رؤساء المدينة، وفي هذه القصيدة يقول:
إني لأعلم واللبيب خبير
أن الحياة وإن حرصت غُرور
أمجاور الديماس رهن قراره
فيها الضياء بوجهه والنور
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى
أن الكواكب في التراب تغور
لقد اكتشف الشاعر الفتى في هذه المرحلة أن قصائده لم تلق الاستجابة المتوخّاة لدى ممدوحيه على النحو الذي يريد، وهذا ما ولّد في نفسه شعوراً بالخيبة واليأس، مما عمّق اقتناعه بأن الطريق إلى المجد لا يتأتى إلا بالقوة والعنف.. إن اعتداد الشاعر بنفسه، وإحساسه بالتفوّق والعظمة من الأسباب التي أثارت في نفوس الكثير من عارفيه الإعجاب والاهتمام مثلما أثارت في نفوس بعضهم الضغينة والحسد.
من اللاذقية إلى حلب
ثم توجّه الشاعر من اللاذقية إلى حلب إحدى قواعد الشام فألفاها مدينة مسّورة بحجر أبيض، وفي سورها ستة أبواب، وفي جانب السور قلعة عملاقة، في أعلاها مسجد وكنيستان، وفي إحداهما كان المذبح الذي قرّب إليه إبراهيم عليه السلام، ولكن إقامة المتنّبي هذه المرّة في حلب، لم تدم طويلاً، فتركها متوجهاً إلى أنطاكية حيث كان ينتظره واحد من حماة الأدب، هو المغيث بن بشر العجلي، فمدحه بقصيدة قال فيها:
فسرتُ نحوك لا أُلوي على أحد
أحّث راحلتيَّ الفقر والأدبا
أذاقني زمني بلوى شرقت بها
لو ذاقها لبكى ما عاش وانتحبا
ولكن الشاعر لم يبلغ من ممدوحه شيئاً لذلك امتلأت نفسه حقداً وضغينة، فعاد إلى اللاذقية في سنة نيّف وعشرين وثلاث مئة هجرية، ولكنه لم يحصل فيها على ما يريد، فعاد إلى بادية السماوة ودعا إلى التمرّد والثورة ولكن لم يُستجب له، مما دفعه إلى نقل نشاطه من البادية إلى الحواضر القريبة منها، فاتخذ من بلدة سلمية مقراً، وقبض عليه وسجن في مدينة حمص واتهم بالتمرد على الخليفة والخروج عليه، وكانت قصيدته الداليّة، السبب في إطلاق سراحه، حيث كتب يستعطف سجّانه:
وكم للهوى من فتى مدنف وكم للنوى من قتيل شهيد
وكان لتجربة السجن وما صاحبها من آلام جسّدية ونفسيّة، أن حدَّت من رغبة الشاعر في الوصول إلى السلطة عن طريق القوة والعنف، وهذا ما جعله أكثر اقتناعاً بأن قوته الحقيقية تكمن في الشعر لا في سواه، فموهبته الشعرية يمكن أن تُعينه في الوصول إلى الثروة والجاه معاً، فوجد نفسه مضطراً إلى العودة إلى حياة التجوال لامتداح رعاة الأدب وحماته على الرغم من إحساسه الشديد بالمرارة من جرّاء ذلك، لأنه يبدو في نظر نفسه على الأقل مجرد متسّول بالشعر.. عندئذٍ عزم على التوجّه إلى الثغور الشاميّة، فقصد محمد بن زريق، وكان على بعض العمل في طرطوس، فمّر بأنطاكية على ساحل بّر الشام، ومنها إلى أَذَنَة وهي بلد في الثغور الشامية قرب المصيِّصة، ولكن الخيبة التي مني بها «أبو الطيب» في رحلته إلى طرطوس جعلته يعود أدراجه إلى منبج قاصداً بعض الأمراء البحتريين الذين تربطه بهم رابطة الانتماء إلى عرب اليمن، فمدح أبا أحمد بن عبد الله بن الوليد بقصيدة، يقول فيها:
بكيت يارَبع حتى كدّت أبكيكا
وجدتُ بي وبدمعي في مغانيكا
أحييت للشعراء الشعر فامتدحوا
جميع من مدحوه بالذي فيكا
وعلَّموا الناس منك المجد واقتدروا
على دقيق المعاني من معانيكا
القصيدة بدينار
لا شك بأن عودة المتنّبي إلى حياة التكّسب بالشعر جعلته أكثر سخطاً على ماضيه، وأكثر بَرَماً بحاضره البائس الذي ضاق به أشدّ الضيق، إذ وجد نفسه مضطراً إلى تزلف من يحتقرهم ويزدريهم وذلك في سبيل الحصول على ما يقيم الأود، ويستر الحال، ومدحه المدعو علي بن منصور حاجب أحد أمراء الشام بقصيدة بائية تُعّد من أجود ما نظم، فكوفئ عليها بدينار واحد، فَسُمّيت بالقصيدة الدينارية.. تعّبر عن حاله البائس يقول مطلعها:
بأبي الشموس الجانحات غواربا
اللابسات من الحرير جلاببا
أو قصيدته التي نظمها بعبد الواحد بن أبي الأصبع الكاتب التي يقول فيها:
ألَف المروءة مُذ نشا فكانه
سُقى الّبان بها صّبياً مُرضعاً
نُظِمت مواهبه عليه تمائماً
فاعتادها فإذا سقطن تفّزعا
الكاتب اللبق الخطيب الواهب
النّدُسَ اللبيبَ الهِبرِزِيَّ المصقعا
إن السنوات الأربع التي قضاها المتنّبي متنقّلاً في أرجاء الشام عقب خروجه من السجن (من سنة 324 إلى 328هـ) لم تكن سوى سنوات انتظار للعثور على حام للأدب جدير بشعره، إذ تشير قصائده خلال هذه الفترة إلى أنه أصبح أكثر تمكّناً من صناعة الشعر، فقد بلغ الخامسة والعشرين من العمر، وازداد خبرة وتجربة، وأصبحت نغماته أكثر شجناً وحزناً، وألفاظه أكثر طواعية، ولكنه لم يسجل إضافة جديدة إلى الشعر العربي الذي سبقه، ولا من حيث الألفاظ والمعاني والأساليب، ولا من حيث الأوزان والقوافي، فلم يستطع الخروج من إطار التقليد إلا قليلاً، على الرغم من التقّدم الكبير الذي تجلّى في حرصه على التوازن بين أجزاء القصيدة، وهذا ما لم يتحقق في شعر الفترة السابقة..
لقد انتقل المتنّبي إلى جنوب الشام يمدح ويمدح، حتى ضاقت به الأرض على رحبها، باحثاً عن ملاذ يحميه، فلم يجد غير الشعر ملاذاً ينّفس فيه عن كربه وسُخطه على الذين نغّصوا عليه عيشه وأزعجوه عن مستقره، يقول في قصيدته الرائية:
أعرَّض للرماح الصُمَّ نحري
وأنصِب حُرَّ وجهي للهجير
وأسري في ظلام الليل وحدي
كأني منه في قمر منير
محاولات التكسب
في منتصف عام 329هـ عاد المتنبي إلى أنطاكية ثم توجه إلى حلب، وعاد إلى أنطاكية مرة ثانية، ثم توجه إلى دمشق، وكان له فيها محاولات تكسّب ومدح، وعندما خاب أمله في الأمراء والكتّاب لأنهم لم يحسنوا وفادته، توجه إلى الرملة في فلسطين، سالكاً الطريق الذي تمّر به القوافل إذا خرجت من دمشق إلى فلسطين فمصر، فمّر بالكسوة، وهي أول منـزل تنـزله القوافل إذا خرجت من دمشق إلى مصر، ومنها اتجه إلى جاسم، بلدة حبيب بن أوس الطائي (أبو تمام) ولكن أمله خاب، فآثر أن يعود أدراجه إلى شمالي الشام حيث قامت دولة حمدانية يتزعمها أمير عربي هو سيف الدولة الحمداني، الذي أخفقت محاولة المتنبي الالتحاق بخدمته سنة 321هـ لأسباب مجهولة، وكانت رحلة طويلة مرّ فيها بالعديد من المدن والمناطق، تريّث خلالها قليلاً في دمشق وبعلبك وحمص، ماراً بالرستن إلى حماة ومنها اتجه إلى قنسرين إلى أنطاكية التي بلغها في أواخر سنة 336هـ، وكان قد بلغ الثالثة والثلاثين من عمره، وأصبح شاعراً مرموقاً يتناقل الناس أشعاره في أرجاء الشام ومصر والعراق..
لقد أمضى المتنّبي بضعة أشهر في أنطاكية، ينتظر خلالها الفرصة المواتية للمثول أمام سيف الدولة عميد بني حمدان، وكانت المفاجأة السعيدة، قدوم سيف الدولة إلى إنطاكية في شهر جمادى الأولى من سنة 327هـ، فضُرب له الصيوان، وشرع يستقبل فيه الوفود، التي قدمت للسلام عليه بمن فيهم الشعراء، وكان أبو الطيب في عدادهم..
بُهت المتنبي عندما شاهد سيف الدولة لأول مرة، إذ رآه رجلاً مهيباً جميلاً جداً، آسراً، كان عمره آنئذ لا يتجاوز الخامسة والثلاثين، وهو إلى ذلك يتصّف بصفات السيادة والمجد، كالكرم والشجاعة وسمو النفس، وقد تداول الناس سيرة هذا الأمير الذي حرص على أن يجعل من حلب حاضرة منافسة لبغداد، حيث جمع حوله فئة ممتازة من رجال العلم والأدب، فهو محارب مثقف تلقى تعليمه على أيدي المشاهير من شيوخ عصره، فشّب على حُبّ العلم وأهله، وهو بالإضافة إلى معرفته الواسعة بالشعر العربي، كان شاعراً، وله اهتمام كبير بالأدب والفلسفة والموسيقا وعلم التنجيم..
أمام سيف الدولة
كان أبو الطيب، قد وضع في حسابه أنه سيمثل أمام أمير خطير يميّز جيّد الشعر من رديئه، لذا كان عليه أن يتروّى ويعيد النظر فيما سينشده من شعر، وأن تكون قصيدته الأولى جديرة بالإنشاد، بين يدي سيدِّه الجديد، فلم يرسل نفسه على سجيتها، بل أخضع عواطفه ورغباته لنظام دقيق ليستحوذ على إعجاب الأمير وندمائه من العارفين والذائقين للشعر، وكانت قصيدته التي يقول فيها:
لقد سّل سيف الدولة المجد مُعلِماً
فلا المجد مُخفيه ولا الضربُ تالِمُه
تحاربه الأعداء وهي عبيده
وتدَّخر الأموال وهي غنائمُه
ويستكبرون الدهَر والدهرُ دونه
ويستعظمون الموتَ والموتُ خادمه
وما إن انتهى المتنبي من إنشاء قصيدته، حتى أقبل عليه سيف الدولة، وقرّبه وأجازه الجوائز السنيّة، ومالت نفسه إليه وأحبه، إذ سمع منه لأول وهلة شعراً باهراً اهتز له طرباً كما سحر ألباب سامعيه وشغل عقولهم.. ومما عجّل في مغادرة سيف الدولة مدينة أنطاكية ورود نبأ وفاة والدته في «ميا فارقين» فلم يلبث أن قصد المدينة المذكورة على وجه السرعة، ولم يرافقه أبو الطيب في رحلته تلك، وإنما التقاه في حلب بعد عودته في جمادى الآخر، سنة 337هـ ليلقي على مسمعه مرثاتها، التي يقول فيها:
أسيف الدولة استنجد بصبر
وكيف بمثلَ صبرك للجبال
فأنت تعلِّم الناس التعّزَي
وخوضَ الموتِ في الحرب السجِّال
وحالات الزمان عليك شتى
وحالك واحد في كل حال
لقد تعاظم حال المتنّبي عند سيف الدولة وصار يرافقه في غزواته، وفي حلّه وترحاله.. وفي أوائل سنة 341هـ أخذت تظهر بوادر التنافر بين سيف الدولة وشاعره أبي الطيب، لأسباب يصعب حصرها، ولكن المرجح أن من أهم الأسباب كبرياء المتنّبي واعتداده المفرط بنفسه، وهو ما أغاظ سيف الدولة، وأغرى حسّاده بالنيل منه لدى الأمير الذي ضاق ذرعاً بشاعره، فهو لا يقول فيه قصيدة إلا بعد أن يطلبها ويستعجلها أشهراً طوالاً، وكان (أبو فراس الحمداني) من أبرز الحاقدين على المتنّبي إذ قال لسيف الدولة: «إن هذا المتشّدق كثير الإدلال عليك، وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد، ويمكن أن تُفِّرق مئتي دينار على عشرين شاعراً يأتون بما هو خير من شعره» فتأثّر سيف الدولة من هذا الكلام، وعمل فيه، وكان رد المتنبي قصيدته الميميّة التي أنشدها في محفل من العرب، فتركت جدلاً في مجلس سيف الدولة، وتصدى أبو فراس لنقده وتحَّفز شانئوه للانتقام منه يقول مطلعها:
واحرَّ قلباهُ ممّن قلبه شبم
ومن بجسمي وحالي عنده سقم
حسَد وكراهية
ويبدو أن أبا الطيب في هذه القصيدة الرائعة، كان عازماً على البوح بما يعتمل في نفسه من إحساس بالتقصير في حقّه من قبل الأمير، وبما يُحاط به من الحسد والكراهية من قبل رجال الحاشية، ولاسيما أبو فراس الذي تصّدى للشاعر، وقاطعه مرّات كثيرة أثناء إنشاده فاضحاً سرقاته حيناً ومزدَرياً إيّاه حيناً آخر، فما إن أنشد المتنبي البيت:
مالي أكتّمُ حبّاً قد برى جسدي
وتدّعى حُبَّ سيف الدولة الأمم
حتى ماج المجلس إزاء هذا التعريض الصريح بالآخرين، ولكن المتنبي تابع حتى وصل في إنشاده إلى قوله:
يا أعدل الناسِ إلا في معاملتي
فيكَ الخصامُ وأنت الخصم والحكم
فقال أبو فراس: مسخت قول دعبل وادّعيته وهو:
ولست أرجو انتصافاً منك ما ذرفت
عيني دموعاً وأنت الخصَم والحكم
فقال المتنّبي:
أُعيذُها نظراتٍ منك صادقةٍ
أن تحسبَ الشحم فيمن شحمُه ورمُ
فعلم أبو فراس أنه يعنيه فقال: ومن أنت يا دعيَّ كنده حتى تأخُذَ أغراض الأمير في مجلسه، فاستمر المتنّبي في إنشاده ولم يردَّ، فزاد ذلك من غيظ أبي فراس، ولما وصل إلى قوله:
والخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ
قال أبو فراس: وماذا أبقيت للأمير، إذا وصفت نفسك بالشجاعة والفصاحة والرياسة والسماحة، تمدح نفسك بما سرقته من كلام غيرك، وتأخذ جوائز الأمير؟ وغضب سيف الدولة من كثرة مناقشته في هذه القصيدة، وكثرة دعاويه فيها، وضربه بالدواة التي بين يديه فقال المتنّبي في الحال:
إن كان سّركُم ما قال حاسدُنا
فما لجرح إذا أرضاكُم ألمُ
فقال أبو فراس، أخذت هذا من قول بشار:
إذا رضيتُم بأن نُجفى وسّركم
قول الوشاة فلا شكوى ولا ضجر
فلم يلتفت سيف الدولة إلى ما قاله أبو فراس، وأعجبه بيتُ المتنبي، ورضي عنه في الحال وأدناه منه، وقبّل رأسه، وأجازه بألف دينار، ثم أردفه بألف أخرى، فقال المتنّبي:
جاءت دنانيرُك مختومةً
عاجلةً ألفاً على أَلفِ
أشبهها فعلُكَ في فيلقٍ
قَلَبته صفّاً على صفِّ
وما من شك فيه أن سيف الدولة أدرك ما ألمح إليه شاعرهُ من الرغبة في عدم البقاء في هذا الوسط الذي يكّن له الكراهية والحقد والحسد لذلك خاطب الأمير بقوله:
يا من يعّز علينا أن نُفارقَهُمْ
وجداننا كُلِّ شيءٍ بعدكم عَدَمُ
التحّول إلى مصر
لقد نذر ممدوحه بالتحّول عنه إلى مصر حيث أعداؤه الإخشيديون، والمرجح أن هذه القصيدة قد أحدثت شرخاً عميقاً في العلاقة التي تربط الشاعر بالأمير، ووضعت أبا الطيب في مواجهة خصومه، فأعلن الحرب عليهم دون مواربة، مع أن القصائد التي قالها أبو الطيب بعد هذه القصيدة حاول في جملتها أن يعيد العلاقة مع الأمير إلى سابق عهدها من المودة والثقة، وكان منها قصيدته التي يقول فيها:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أوّل وهي المحلُّ الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس مِرّةٍ
بلغت من العلياء كل مكان
وفي سنة 345هـ، نظم المتنبي قصيدة، كانت آخر ما أنشد سيف الدولة، التي يقول أحد أبياتها:
كل السيوف إذا طال الضرابُ بها
يمسُّها غيرَ سيف الدولة الساَّم
وكانت بمثابة وداع سيف الدولة، فقد ضاق ذرعاً في بلاط الأمير واستاء من الحسّاد والمبغضين الذين جعلوا دينهم وشغلهم الشاغل الكيد له، وتأليب الأمير عليه، وفي صبيحة يوم من أيام أوائل سنة 346هـ غادر المتنّبي مدينة حلب إلى غير رجعة، فلم يجد بلداً يأوي إليه أولى من دمشق، لأن حمص من أعمال سيف الدولة، ثم انتقل إلى مملكة كافور الإخشيدي وبذلك يكون قد ختم فصلاً مهماً من فصول حياته ذاق فيه حلاوة النعيم مثلما ذاق فيه مرارة الكيد والحسد، بيد أنه بلغ قمة مجده الأدبي بلا منازع، وقيل إن أبا الطيب كان متردداً بعض الشيء في الذهاب إلى مصر، والإرتهان لكافور، ولكن رغبته في إغاظة سيف الدولة ومن حوله من الحسّاد والمبغضين، وطمعه في الولاية التي طالما طمح إليها، وجاهد في سبيلها واحتمل لأجلها ألواناً من الأذى والعذاب..
لقد أصبحت حياة أبي الطيب في كنف كافور أكثر تفاؤلاً وإشراقاً من قبل، وعلى الرغم من كثرة الشعراء والنقاد وأهل العلم في بلاط كافور، فقد كان المتنّبي الشاعر الأبرز الذي لا يجرؤ أحد على إنكار تفّوقه ونبوغه، ولكن ما أحرزه لم يَحلُ دون إحساسه بالألم والذل من وجوده في خدمة عبد زنجي، ولم تغب عن خياله شخصية سيف الدولة الذي ربطته به علاقة حميمة.. إذ كانت حياة سيف الدولة حياة بطوله كلّها، وكان المتنّبي يشاركه في هذه الحياة مشاركة عملية، فيغزو الروم معه إذا غزاهم ويستمتع بالنصر إذا أتيح النصر للأمير، ويشقى بالهزيمة إذا كتبت عليه الهزيمة، فكان اللسان الرسمي لهذا الجهاد العظيم..
الحذر من ثوب الشاعر
أقام أبو الطيب بمصر أربع سنين وستة أشهر.. كان يقف بين يدي كافور وفي رجليه خُفَّان، وكان لا يجلس في مجلس كافور، ولولا ما أملّه منه لما أقدم على مدح هذا العبد الدَّميم المثير للسخرية.. وأبو الطيب ليس كغيره من الناس يرضى من الحياة بالغذاء والكساء، ويستكين إلى الحياة اللينّة، بل هو رجل يشغله ويؤرقه طلب المجد والسيادة، وليس شاعراً تُرضيه الصلات والعطايا النفيسة، وكان يطلب من كافور أن ينجز ما وعده به، وهذا ما جعل كافور يحذر من ملك أو أمير في ثوب شاعر.. سأله أن يولَّيه «صيدا» من بلاد الشام، أو غيرها من بلاد الصعيد، فقال كافور: «أنت في حال الفقر وسوء الحال، وعدم المُعين سمت نفسك إلى النبوَّة، فإن أصبت ولاية، وصار لك أتباع فمن يطيقك؟».
بعد قصائد عديدة من مدح كافور، نفد صبر المتنّبي، ويروى أن بعضهم توسط له، فكان رد كافور الرفض، وكانت خيبة أمل الشاعر كبيرة، فقد تبيّن له بما لا يقبل الشك أن كافوراً رجل مخادع لا يمكن تصديقه أو الركون إليه، فضاق ذرعاً بمقامه في كنفه، وأخذ اليأس يتسّرب إلى نفسه، وهذا ما حفّزه على الهرب من مصر في التاسع من ذي الحجة سنة 350هـ، وقبل مسيره بيوم قال قصيدته الشهيرة في هجاء كافور التي يقول مطلعها:
عيد بأية حالٍ عُدت ياعيد
بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديد
وكانت هذه القصيدة تفيض بالشكوى والتذّمر مما آلت إليه حاله آنذاك.. إنه شديد الأسف والحزن على بعد الأحبة عنه، لذا نراه يتمنّى أن يكون العيد بعيداً عنه، فلا مكان في قلبه للفرح والسرور.. لقد فارق الأحبة طلباً للمعالي، واختار صُحبة السيف على صحبة الغيد الأماليد، لأن الدهر بأحداثه وذوائبه حال بينه وبين الهيام بمفاتن النساء ومحاسنهن، إذ لا وقت لديه للهو والغزل، كما أن الخمرة لا تزيد إلا همّاً وسهراً لأن قلبه مفعم بالهموم والأحزان، ثم ينتقل إلى هجاء كافور وحاشية السوء، فينعتهم بالكذب والغدر وإخلاف الوعد، والجشع الذي لا حدود له..
حاول أبو الطيب بعد عودته إلى الكوفة أن يُلقي عصا الترحال، وأن يخلد إلى الراحة، ويستعيد بعضاً من ذكريات الماضي البعيد، وينعم بعيش هادئ بعد أن جمع مقداراً من المال يمكنه أن يحيا حياة المنعمين، ولكنه بعد أشهر من وصوله إلى الكوفة ضاق بالعيش فيها، إذا اعتاد مخالطة الملوك والأمراء، وليس في الكوفة أمير يُمدح ولا قائد يتقّرب إليه، ولاغني يُطمع في ماله..
قَتَلَه شعره
ولما علم سيف الدولة برحيل المتنّبي عن مصر، واجتيازه صحراء شبه الجزيرة العربية هرباً من كافور، أنفذ إليه ابنه من حلب إلى الكوفة ومعه هدية وعرض عليه العودة إلى حلب، ومن غير المستبعد أن أبا الطيب قد ساورته الرغبة في استئناف علاقته بحاميه السابق، ولكن حياء الشاعر من لقاء الأمير ومصاحبته بعدما ما فارقه مرغماً، وعرّض به في القصائد المصريّات، جعله يتردد في قبول مثل هذه الدعوة، يضاف إلى ذلك إنه كان يعرف سلطان الحاشية وكيد القصر وضيق أسرة الأمير نفسها به، وكانت أمور سيف الدولة قد أخذت تفسد، ويسعى إليها الاضطراب والانحلال، فالروم يظهرون عليه من ناحية، والمرض يأكل صحته من ناحية أخرى، وإذن فأيسر الحزم كان يفرض على المتنبي ألّا يفكر في حلب..
أقام أبو الطيب في الكوفة بعد عودته من مصر نحو سنة تقريباً، قبل أن يغادرها إلى بغداد ثم عاد إلى مسقط رأسه، وكانت له قصائد يحاول أن يهوّن على نفسه ما لقيه من مكاره، وبعد أشهر من وصوله إلى الكوفة ازداد نشاط القرامطة بين أعراب بني كلب، وكان من أتباعهم المدعو ضبّة بن يزيد العتبي، الذي جاءت به أمه سِفاحاً، وكان يغدر بكل من ينـزل في الحصن الذي يقيم فيه في طرف الصحراء إلى الجنوب الغربي من الكوفة، وكان المتنّبي ذات يوم في نزهة مع أصحاب له من أشراف الكوفة، فلقيهم ضبّة وانهال عليهم بالشتائم المقذعة، وأراد القوم أن يُجيبوه بمثل ألفاظه، فسألوا أبا الطيب هجاءه بما يناسب بذاءته، فنظم فيه قصيدة جاءت غاية في الإقذاع، وهي التي يقول مطلعها:
ما أنصف القوم ضبّة وأمُّه الطُرطُبّه
إنّ تطلّع الملوك والأمراء والرؤساء إلى مدائح أبي الطيب هو ما دفع الوزير ابن العميد إلى دعوته فلّبى الدعوة وذهب إلى واسط والأهواز وأرّجان حيث تألق في بلاط ابن العميد ثم تبع ذلك زيارة عضد الدولة في شيراز وقوبل خلالها بالمزيد من التكريم والحفاوة البالغة، وعاد محملاً بالذهب وطرائف التحف وغرائب الهدايا وثلاثة آلاف دينار، وأثناء ذلك برز له جماعة من الأعراب بين الصافية ودير العاقول، يقودهم فاتك بن أبي جهل، خال ضبّة، الذي هجاه، فقتلوه مع من كان من صحبه، وتقاسم فاتك وأصحابه خيوله المختارة ومطاياه وجميع ممتلكاته.. وهكذا رحل المتنبيّ في سن الخمسين، وبذلك انتهت رحلة هذا الشاعر العظيم التي يعّد من أهم وأشهر شعراء العربية عبر العصور..
المصادر:
1- قاسم وهب، على خُطا المتنبي في أسفاره وأشعاره، منشورات وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب – دمشق 2013م.
2- طه حسين، مع المتنبي – دار المعارف بمصر – 1956.
3- عبد الوهاب عزام – ذكرى أبي الطيب – دار المعارف بمصر ط2 1956
4- د. ر بلاشير، أبو الطيب المتنبي – ترجمة د. إبراهيم الكيلاني – منشورات وزارة الثقافة – دمشق 1975.
المصدر : الباحثون العدد 69 أذار 2013