وصل المعدل العالمي للتدخين حالياً إلى 47% من الرجال، و7% من النساء، وتزيد نسبة المدخنات من النساء إلى 24% في الدول المتقدمة. وقد ارتفع عدد الوفيات من أضرار تدخين التبغ في عام 1955م إلى مليوني شخص، وإلى أربعة ملايين في عام 2002م، وهذا الرقم مرشح إلى أن يصل في عام 2020م إلى عشرة ملايين شخص كل عام، منهم سبعة ملايين في دول العالم الثالث- أي أكثر من 27 ألف شخص يومياً.
إن هذه الأرقام والإحصائيات من أضرار الدخان باتت معروفة لأغلب الناس، ولكن ثمة أسئلة ترد إلى ذهن الكثيرين، منها؛ متى ظهر التبغ- خاصة في البلاد العربية؟ وهل من فوائد لنباته- دون دخان حرقه؟ وهل ورد في كتب التراث العربي من فوائد طبية لورق التبغ؟
تاريخ ظهور التبغ عند العرب
التبغ- أو التبغ الأحمر، أو ما يسمى تمباكو (بالهندية)، والتتن الأسود (باليمن)، والدخان، اسمه العلمي: Nicotiana Tabacum ؛ وهو نبات من الفصيلة الباذنجانية، يستعمل حالياً تدخيناً، وسعوطاً، ومضغاً، ومنه نوع يزرع للزينة. أما مادة التبغين فهي قلوانية التبغ تكافح بها الحشرات، وقطرانه مادة مسرطنة.
وسكان المكسيك هم أول من عرف تدخين التبغ منذ أكثر من (1500) عام، حيث عاد كريستوفر كولومبوس بالتبغ من القارة الأمريكية بعد أن اكتشفها عام 1542م، ووجد الهنود الحمر يدخنونه، ثم انتقل إلى العالم القديم في إفريقيا وآسيا.
أما بداية ظهوره في بلاد العرب فكانت في نهاية القرن العاشر الهجري وبداية الحادي عشر/ السادس الميلادي، حيث أورد الشيخ راغب الطباخ (المتوفى عام 1951م) في كتابه "إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء" ما قاله العلامة الدحلاني(1) في تاريخه "خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام": كان أول ظهور شجرة الدخان سنة تسعمائة وتسع وتسعين، وقد أرخ ذلك بعض الفضلاء بقوله:
يا سائلي عن الدخان أجبني هل له في كتابنـا إيمـاء
قلت ما فرط الكتاب بشيء ثم أرخت يوم تأتي السماء
فيكون بحساب الجمّل؛ يوم تأتي السماء(2): 56+ 811+ 132= 999.
أما في خلاصة الأثر فيقول المحبي (المتوفى سنة 1111هـ) في ترجمته للشيخ حسين بن أبي بكر بن سالم السقاف اليمني (المتوفى سنة 1044هـ)- الذي كان شديد الإنكار على من يشرب التبغ، قلت (والكلام للمحبي): وظهور التنباك المسمى بالتبغ وبالتتن بجهة الغرب والحجاز واليمن وحضرموت كان في سنة اثنتي عشرة وألف (1012هـ)- كما وجدته بخط بعض المكيين وتأريخه: بغى. وأما ظهوره في بلادنا الشاميّة فلا أتيقنه، لكنه قريب من هذا التاريخ. انتهى كلام المحبي.(3)
ولما كان الشيخ حسين بن أبي بكر السقاف- السابق الذكر- شديد الإنكار على من يشرب التبغ، فقد اعتنى بإزالته من تلك الديار، فتم له، ونودي في الأسواق. وصنف له الشيخ محمد بن علاّن المكي في حرمته مصنفين، وتبعه بعض الحنفية في تحريمه، والذي أفتى به الشيخ عبد العزيز الزمزمي والشيخ عبد الله بن سعيد باقشير- من شافعية الحجاز- عدم الحرمة إلا لمن حصل له به ضرر.
هذا وقد تم عدة مرات منع شرب الدخان؛ منها في سنة 1043هـ كان درويش باشا ونصوح باشا في زمن سلطنة السلطان أحمد الذي تولى السلطنة سنة 1012هـ - قد ناهضا فكرة تناول الدخان واستعمال القهوة، وسدّا هذا الباب، إلا أن ذلك لم يطُل كثيراً، وعاد الناس إلى ما كانوا عليه.
وفي هذه السنة (1043هـ) حصل حريق عظيم في القسطنطينية، وعلى أثره كثر اللغط والقيل والقال عن أسباب تلك المصيبة العظمى، وكانت المساوئ في "القهاوي" قد انتشرت وعمّت وطمت، فخشية من وقوع فتنة يستطير شررها صدر أمر السلطان مراد خان الرابع (حكم بين 1032- 1049هـ/ 1622- 1639م) – بإغلاق جميع الأماكن التي يتعاطى فيها شرب الدخان والقهوة- على شرط أن لا تفتح فيما بعد مطلقاً، وأرسل بهذا الأمر إلى جميع الممالك العثمانية، فعطلت فيها "القهاوي" أيضاً، وأشرفت على الخراب مع تمادي الزمن.(4)
وبقي ذلك إلى زمن السلطان محمد خان ابن السلطان إبراهيم خان (حكم بين 1648-1687م) فعاد أرباب الفساد في أوائل سلطنته إلى ما كانوا عليه، وشمل ذلك جميع الممالك العثمانية إلا دار السلطنة فإن أماكن القهوة بقيت مغلقة فيها.
وبعد أن أغلقت أماكن القهوة في زمن السلطان مراد أصدر أوامره بمنع شرب الدخان المسمى بالتوتون والتنباك، وأن من يتناوله يقتل سياسة، وأخذ العلماء والوعاظ يعظون الناس ويردعونهم عن تعاطيه، ويحذرونهم عواقب مخالفة الأوامر السلطانية، إلا أن بعض من الناس لم يرتدعوا بذلك وظلوا مصرّين على شربه.
ثم بلغ المسامع السلطانية أن الحريق العظيم الذي حصل قريباً، ما كان سببه إلا هؤلاء الفسقة الذي يغشَون أماكن القهوة ويتناولون فيها. فصدر عندئذ الأمر السلطاني بتخريب أماكن القهوة، وحولت تلك الأمكنة إلى بيع الجلود وصنع الأحذية. واهتم السلطان مراد أشد الاهتمام في منع تعاطي الدخان وإزالته من جميع ممالكه، وشدّد النكير على من يتناوله، لكنما كان بقدر ما يشدد كان الناس يتهافتون على شربه- عملاً بما قيل: (المرء حريص على ما منع).
والسلطان مراد ناله كلفة عظيمة ومشقة شديدة في مناهضة شاربي الدخان، وما كان قصده إظهار سطوته وتأييد سلطنته، بل كان قصده ردع هؤلاء الأسافل، وتأديب هؤلاء الأشقياء الذين انغمسوا في مستنكر الأمور ومستقبح الأخلاق، وإرجاعهم إلى الخطة المثلى، وقطع دابر الفساد والفجور الذي انتشر بين العامة. ولذلك كان أهل العقول وذوو الأخلاق الفاضلة وأرباب الإطلاع، يحبذون أعمال السلطان، ويرون أنها في محلها.(5)
وقال العلامة المحبي في ترجمة السلطان المذكور(6): ومن أعماله تبطيله القهاوي في جميع ممالكه، والمنع عن شرب التبغ بالتأكيدات البليغة، وله في ذلك التحريض الذي ما وقع في عهد ملك أبداً.
وفي عهده منع الخمر والتدخين، وأعدم كل مرتد عن الإسلام.(7)وفي أواسط القرن الثاني عشر الهجري قال العلامة الدحلاني في "خلاصة الكلام" حين الحديث على إمارة الشريف مسعود أمير مكة: ومما كان في دولة مولانا الشريف مسعود إنه منع الناس من التظاهر بشرب الدخان، فرُفع من القهاوي والأسواق، وصار حاكمه يقبض على من يراه عنده من الأطواق. فقيل إنه كان يعتقد فيه التحريم، وقيل أن فعله هذا لا ينشأ عن تحريم ولا تحليل، وإنما لما تظاهر الناس بشربه في الشوارع، وتعاطاه الأراذل والأسافل، ولا يرفعونه إذا مر عليهم شريف أو عالم أو فاضل، فأمر بعدم التظاهر بشربه لذلك.(8)
وللعلماء في الدخان- عبر التراث- أقاويل بين تحريم وتحليل، ويلزم القائلين بالتحريم تفسيق المسلمين بالتعميم؛ حيث كانوا أما شارباً، أو في بيته من يشرب، أو مشاهداً، فما خرج أحد من الثلاثة عن واحد. ويقول الشيخ راغب الطباخ: إنا وإن لم نقل بحرمته نظراً لما يلزم من القول بذلك ما قاله العلامة الدحلاني، لكن لم يبق شك ولا ريب في ضرره الجسيم للأجسام حالاً أو مآلاً، وأخبار العصر في كل قطر قد أجمعوا على ذلك، والضرر- كما قال الفقهاء- يجب أن يزال ولو قديماً، واستعمال الشدة في منعه وإزالته- كما فعله السلطان مراد- لا تجدي شيئاً. وأرى خير مقاوم له هو المدرسة ومنابر الجوامع والكنائس وكراسي الوعاظ وإن طال الزمن، بشرط أن يكون الناهي عنه والمبين لمضاره غير مبتلى به- عملاً بما قيل: (لا تَنْهَ عن خلق وتأتي مثله)، والحمد لله الذي عافانا وحمانا من تناوله من حين نشأتنا ولله المنة والفضل.(9)
أقول: إن الرأي هنا ينطبق على من أراد النصح العام في ترك الدخان، أما إذا كان من طبيب لمريض يعاني من مرض سيتوجب ترك الدخان، فليس بالضرورة أن يكون الطبيب غير مدخن ليتوقف المريض عن دخانه؛ وهو السؤال الذي غالباً ما يُسأل الطبيب عنه من قبل المريض عند نصحه بترك الدخان.
أما أشكال التدخين وطرقه فيصفها الطباخ بأنه في سنة 1272هـ كان الناس يشربون الدخان المعروف بالتتن بواسطة بودقة يوضع فيها التتن ويوضع عليها النار، وتوضع هذه البودقة في أنبوبة طولها من شبر إلى نحو ذراعين- تدعى الغليون. وللناس اعتناء كبير في هذه البودقة وهذا الغليون ويتغالون في أثمانها وفي صناعتها، ويضعون في طرفها الذي يمتصون منه الدخان أحجار الكهرباء الصفراء. ففي هذه السنة بطل ذلك وصاروا يمتصون ذلك بوضع التتن في ورقة صغيرة رقيقة يلفّون فيها التتن- وهي التي تدعى بالسيكارة إلى يومنا هذا.(10)
وللسيد يحيى بن أحمد الشرفي اليمني (المتوفى سنة 1089هـ) في تحريم التتن أبيات منها: (11)
وبعد أشكو إلى الرحمن خالقنـا من منكرات بدت في أهل ذا الزمن
ومن مضلات أهواء بها ابتدعوا وأجمعوا أمرهم فيها على ســنن
والله أنزل تحريم الخبائث فـي كتابـه فاتخـذه حجـة تُعـــِن
استعمالاته في الطب القديم
هذا ما كان من تاريخ ظهور التبغ واستعماله الخاطئ ومنعه، أما من ناحية ذكره في كتب التراث الطبي؛ فلعل صالح بن نصر الله الحلبي (المتوفى سنة 1081هـ/ 1670م) تفرد في الحديث عن استعمالاته في الطب في عصره- خاصة عصير ورقه، فمن مخطوطاته التي وجد فيها ما يشير إلى ذلك؛ كتاب غاية الإتقان في تدبير بدن الإنسان، وكتاب غاية البيان في تدبير بدن الإنسان، ورسالته في داء الإسقربوط.
ففي كتاب غاية الإتقان في تدبير بدن الإنسان ورد ذكره بين الأدوية المركبة تحت اسم (دهن التبغ): ينفع الجرب والحكة والجراحات والقروح ووجع المفاصل؛ يؤخذ من عصارة التبغ الرطب ومن الزيت العتيق أجزاء متساوية، ويطبخ حتى تذهب العصارة ويبقى الدهن.(12)
وكذلك ذكر فيه تركيب مرهم التبغ: عظيم الفائدة في تحليل الخنازير(13)، وينفع القروح والجراح الحديثة والقديمة، وينفع الأمراض الجلدية جداً كالجرب والقوباء والسعفة؛ يؤخذ من ورق التبغ الرطب رطلان، شحم الخنزير رطل، يدق الورق مع الشحم ويخلط بقليل من الشراب ويترك ليلة.....(14)
صورة رقم 11.
كما استعمل ورقه من خارج في الصداع البارد وأمراض الرئة الناشئة عن البرد، وفي أدوية السعوطات، واستخدم عصيره في آفات الشم، ورماده في جلاء الأسنان، وصناعة شراب(15) منه (شراب التبغ)؛ تنفع في الربو وضيق مجاري الرئة، وطبيخه في تجفيف قروح الرئة.
صورة رقم- 12.
كما أدخل أوراقه في مفردات العديد من المركبات، وضمادات معمولة من عصيره، وورقه الرطب كمسكن لوجع المفاصل بالتخدير، وبين تراكيب المراهم المسكنة لذلك أيضاً، وفي المراهم المفيدة لمعالجة النملة من الأمراض الجلدية، وطبيخه وسفوفه في معالجة داء الكلَب. واستخدم مرهم التبغ في معالجة القروح في داء الإسقربوط.
خاتمة
لعلي كطبيب أقلَعَ عن التدخين أقدّم الطريقة السهلة في الإقلاع عنه؛ بداية يجب أن يفعل الإنسان شيئاً يفتخر به في حياته، فلو كان هو الإقلاع عن التدخين للمدخن، وذلك يكون بالإرادة التي أودعها الله في تكوين الإنسان، فلا شك بأنها لا تخلو من أحد. والأمر الثاني هو الترك فوراً وبدون مقدمات وبدون تهيئة وبدون وضع مواعيد وشروط لذلك، ودون حرمان نفسه من غير المضرات- كالقهوة والشاي، حتى لو جلس مع مدخنين. الأمر الثالث وهو أن يستعيض عن شرب السيكارة أو أي نوع من الدخان بجرعة ماء كلما تاقت نفسه إليه، وهذا مما يفيد في أمرين؛ أحدهما استبدال الخير بالذي هو ضار، والآخر أن الماء يعمل على غسل الدم من بقايا سموم الدخان المتعددة ومنها النيكوتين المعروف. والأمر الرابع الذي يجب أن يكون بالحسبان وهو أن الفترة الصعبة في ترك الدخان قد تطول إلى شهر واحد لا أكثر، قد يشعر بذروتها في الأسبوعين الثاني والثالث، وقد يشعر خلالها بأعراض جسمية حقيقية كآلام في العضلات والصداع وغير ذلك، فالأمر لا يحتاج إلى أكثر من تناول قرص أو قرصين في اليوم من المسكنات المشهورة، مع بعض الفيتأمينات. وبعد مضي الشهر الأول يكون قد تجاوز الصعوبة الكبرى، وبعد مضي ستة أشهر يعود وكأنه لم يدخن البتة، وحذار من التهاون والتساهل بعدها وتناول أي نوع من الدخان- على سبيل التجربة أو غيرها، فالنكس سريع وقاتل.
بريد إلكتروني: yzakkour@scs-net.org
هوامش:
(1) خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام من زمن النبي عليه السلام إلى وقتنا هذا بالتمام، للسيد أحمد بن زيني دَحْلان المكي الشافعي المتوفى سنة 1304هـ، طبع بالمطبعة الخيرية- مصر 1305هـ. ص194.
(2) حساب الجمّل: هو إعطاء كل حرف رقم محدد يجمع في كلمات- معروف في المصادر يمكن الرجوع إليه.
(3) المحبي: خلاصة الأثر في أخبار القرن الحادي عشر، دار صادر، الجزء الثاني.
(4) محمد فريد بك، تاريخ الدولة العثمانية العلية، تحقيق إحسان حقي، دار النفائس- بيروت 1988، ص 180.
(5) الطباخ: إعلام النبلاء ج3 ص204.
(6) المحبي: خلاصة الأثر ج4 ص339.
(7) علي محمد الصلابي، الدولة العثمانية، دار الإيمان – الإسكندرية 2003م.
(8) الدحلان: خلاصة الكلام ص193.
(9) طباخ- 3: 204.
(10) طباخ، 3: 355.
(11) مخطوط فوائد الارتحال ونتائج السفر لمصطفى الحموي، دار الكتب بالقاهرة برقم 3187، ج3 الصفحة 1097.
(12) غاية الإتقان مخطوط ولي الدين، إستانبول برقم 2520، الورقة 52/ظ.
(13) الخنازير: هي التهاب العقد البلغمية الرقبية السلية المنشأ، ويقال لها الخنزرة السلية.
(14) المصدر السابق 57/و.
(15) المصدر السابق 161/و.
المصدر : الباحثون العدد 69 أذار 2013