وعادةُ السّير بجانبها، من أجل الوصول سالماً، وبدون أن يحاكي أيّ أحد كان، حتى نفسه، تيمّناً بالمثل القائل "نمشي الحيط الحيط ومن الشغل للبيت".. ففي حال الظروف الصعبة وحلول الأزمات والنّكبات، وتملّك الخوف والرعب من نفوس الناس، نتاج انقسامهم بين: معْ وضد، ويمين ويسار، وكافر ومؤمن، ونشوء مناخات أمنية، نتاج حالات الانفلات، وسعي الكل للوشاية ببعضهم، حتى من يتجرأ على قلَمه يخشى ما يخشى من أن يوشى به، فيجترح طريقاً يؤدي إلى صحراء قاحلة، أو جبال عالية، أو غابات كثيفة، وغايته أن يتنفس الصعداء، وهناك يستطيع أن يرى الدائرة كاملة، حيث لا أحد، وفي موقعه يصرخ، ويبكي، وينادي، ويكتب، ويمدح، ويذمّ دون خشية الجدران التي شكَّ وشكّك بأن يكون لها آذان.. وحينما يعود إلى الكثافة يؤثر الصمت، ويستخدم السَّير بجانب الجدران.. حالة تمرُّ بها الشعوب والأمم، عندما يسطو الخوف والرعب عليها، وتسود ثقافة الطاعة العمياء في الظاهر عندما يتطور التناحر، مترافقة بنظام المراوحة في المكان، حيث يتجلّط الزمن، ويغدو هلامياً زئبقياً، فيسود الافتراء، وتتطاول الشائعات، ويقول كلُّ فرد " ربي أسألك نفسي والسترة يارب"، كما يهرب من محيطه ليختبئ في سريره، محدِّثاً ذاته بأنْ: عليه من نفسه وما يجري يجري، المهم أن ينجوَ بجسده.
ثقافةٌ رديئةٌ، تلك التي تحمل الخوف من البوح، وتشير إلى حالة ارتباك المجتمعات، تخفي في طيّاتها الضغينة بدل الحبِّ، ومن يخَفْ قليلاً يكرهْ كثيراً، فإذا سادت هذه اللغة، وتلك الثقافة التي لا تشجّع على إبداء الناس لآرائهم في قضاياهم العامة والساخنة، وآمنوا بالانتظار واستكشاف الطرق الآمنة والمعبّدة، وكذلك استطلاع الأمزجة السائدة، ومراقبة الكفّة الرابحة؛ إنّما يدل هذا على بداية نهاية أيِّ مجتمع، ويظهر بحُلَلٍ خبيثة تنتظر اقتناص الفرص، وتحوِّل أيَّ مجتمع إلى حالةٍ من العبودية أياً كان شكلها: دينيةً أو سياسيةً أو اقتصاديةً، إذ لا مناص من انهياره ليُعاد تشكيلُه، إما من جوهره العبثي، بكونه لا يمتلك أسس إدارته، أو تُفرض عليه العبثية، فيغدو في حالة ضياع، يحتاج من خلالها لحينٍ طويلٍ من الزمن كي يستعيد أنفاسَه، وترتيب مكوناته.
لنبحث في الأسباب التي تؤدي إلى الكوارث الزلزالية ضمن المجتمعات، وآثار تردّداتها بعد وقوعها، الأمر الذي يؤدي إلى اختلاط الحابل بالنابل، ووقوع الحافر على النافر، ليَضيعَ الوطن بتشرذم المواطن، وتتحلّل قيَم ومبادئ المجتمعات.. على من تُلقى المسؤولية ياترى؟ أعلى الوطن أي الجغرافيا، أم المواطن، أم الدولة التي تربط المواطن بالوطن من خلال حمايتها لطرفي المعادلة؛ اللذين يقع عليهما أيضاً تقديم الحبِّ والوفاء لبعضهما، بعد إجراء عمليات علاجية إنتاجية ناجعة ونافعة، تديرها الدولة بحكمة من يحافظون على مكتسبات الثلاثي النوعي، الذي يؤدي لإظهار صورة الحبِّ والتجانس الحاميين الرئيسَيْن لمفردات المعادلة.
الحقيقةُ مرةٌ.. إنما تحمل عند الإيمان بها، وفي لحظات الاقتراب منها الحلاوة والمرارة، فإذا قاربناهما، وغالباً حينما نفعل قد نصل إلى الحلول، أما السائد فهو أننا لا نعمل بمقتضياتها، لنبقى ضمن النمطية الساكنة بين المدخلات والمخرجات، ومع إجراء المقاربة، وإسقاطها على واقعنا العربي الذي تتناهبُه المكائد والأشراك من داخله وخارجه، وتناثر الجراح على جسده، والدماء النازفة منه.. لذلك وأنا أخطُّ معاني عنواني قصدتُ ضرورة هدم جدار الصمت بالحب، كي يرى السائرون على طرفيه بعضهَم، ويصبحَ رصيفُهم واحداً، وأيضاً على الدولة أن تراهم بإيمانها، كي تعيد إيمانهم بها، فتتشكّل معادلة جديدة، أساسها لغةُ جديدة، تلغي الخوف والرعب، وتمنح فرصاً جديدة للحياة، تبني وطن اللقاء على جغرافيا ثابتة امتصّت الانهيارات.
الإنسانُ في جلّه مسالم، وميالٌ جداً للأنس والأنسنة، التي بدونها لا يمكن أن يكون على صورته التي جُبل عليها، العرب. العروبة. الأعراب. الأمة القومية. الدولة الوطن. المواطن. الإيمان بهم يحتاج إلى الأفكار النيِّرة. الجذابة. المنطقية. والواقعية تفرض ذاتها بالحبّ لا بالضّغينة، وبدون ذلك نسأل عن مسؤولية الخراب والخوف الناتج عن حدوثه وانتشاره.. المواطن لا ينشد إلاّ الأمن والأمان المطلوب إحداثُهما بالسرعة الكلّية، ودفعةً واحدةً ودون انتظار، وهذا لا يحدث إلا بهدم الجدران، كي تبدأ دورةُ حياةٍ جديدةٍ عامرةٍ بالبوحِ المحبِّ، لا بالخوف المقيت.
المصدر : الباحثون العدد 70 نيسان 2013