سنوات العمل الطويلة في مواقع التنقيب والكشف الأثري جمعتني بمجموعة من المفكرين والآثاريين والمؤرخين العالميين الكبار المعروفين على مستوى العالم وكانت لي معهم حوارات ومناقشات استفدت منها كثيراً في مشوار العمر، أذكر منهم: السفير الهولندي السابق «فان لوون» الذي عمل في موقع حمّام التركمان قرب بلدة سلوك شمال الرقة، والعالم الألماني «أورتمات» الذي عمل في موقع تل حلاوة، و«هارفي وايس»، الذي عمل في موقع تل "النبي مند" بالقرب من بلدة القصير بحمص، و«هارت موت كونه»، الذي عمل في الجزيرة السورية وموقع ترقا( تل الشيخ حمد)، وهو من كبار الباحثين الألمان، والبرفسورة «إيفا شترومنغر» التي عملت سنوات عديدة في موقع تل البيعة (توتول القديمة) شمال الرقة. و«جان بوتشيلاتي»، الأمريكي من أصل إيطالي، الذي عمل بصبر وجد ونشاط لا حدود له في تل موزان (أوركيش) شمال مدينة الحسكة، و«كلود شيفر» الذي عمل في مدينة أوغاريت على الساحل السوري سنوات طويلة، و«جاك لاغارس» الفرنسي الذي عمل مع زوجته «اليزابيت» في أوغاريت ورأس ابن هانئ على ساحلنا السوري الجميل. وطبعاً لا يمكن نسيان الصداقة الكبيرة التي ربطتني مع الصديق الإيطالي الكبير «باولوماتييه» منقّب مدينة إيبلا الشهيرة الواقعة في محافظة إدلب وطاقم عمله: «ألفونسو أركي»، و«غايبلا ماتييه»، و«بيلو فرانزويلي»، وغيرهم، والمستشرقة الألمانية الكبيرة «زيغريد هونكة» صاحبة كتاب (شمس العرب تشرق على الغرب) وزوجها عالم المصريّات«بيتر شولتز» و«هورست كلينكل»، الألماني الرائع الذي زار مواقع أثرية كثيرة في سورية وكتب عنها كتابات رائعة بالإنكليزية والألمانية، وتحية لهذا العالم الكبير اسمحوا لنا أن نتوقف عند بعض من قراءاته لتاريخ سورية القديم في الألف الثاني قبل الميلاد من خلال كتاباته ودراساته الكثيرة عن سورية القديمة، وبلاد مابين النهرين..
كلينكل المحب لسورية
ولد عالم التاريخ والآثار الصديق «هورست كلينكل» في مدينة توركاو الألمانية عام 1933، وكان مدير قسم دراسات الشرق القديم المركزي في برلين، وهو من المختصين بقراءة الخطوط المسمارية باللغات السامية والحثيّة، وله عدة مؤلفات منشورة عن سورية والشرق القديم، بالاشتراك مع زوجته «ايفلين كلينكل برانرت»، وتاريخ سورية القديم في الألف الثاني قبل الميلاد، وسورية منذ الاسكندر حتى النبي الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) وبين الخيمة والقصر، إلى جانب العديد من الأبحاث والدراسات والمقالات التي نشرها في كبريات الصحف والمجلات العلمية المتخصصة..
لقد أحب «كلينكل» سورية وعاش فيها مدة من الزمن، على فترات متقطعة، أتاحت له البحث والدراسة ومعرفة أهلها وقراءة تاريخها وحضارتها، فكان في كل ما كتب، العاشق المحب لها، ويمكن اعتباره بحق من المؤرخين الموضوعيين الذين لهم باع طويل في دراسة حضارات الشرق القديم، وهو عضو اللجنة الدولية لقراءة رُقم إيبلا (تل مرديخ) والبالغ عددها نحو /16/ ألف رقيم مسماري، يعود تاريخها إلى الفترة الزمنية الواقعة بين(2400و2250 قبل الميلاد)..
لقد استعرض«هورست كلينكل» تاريخ سورية خلال الألف الثاني، قبل الميلاد، في مجلدين ضخمين، صدرا لأول مرة عن دار النشر الجامعية في برلين عامي 1965و1969، اعتمد فيهما على الوثائق الكتابية المدوّنة بالخط المسماري، والتي تكدّست في متاحف العالم نتيجة أعمال التنقيب الأثري في أنحاء شتى من وطننا العربي الكبير منذ أكثر من مئة عام، ومازال علماء اللغات والمختصون بقراءة الخط المسماري ينكبّون على دراستها ونشر الأبحاث الرائعة عنها.
دمار «أور»
مهمة الدكتور« كلينكل» في كتابة تاريخ سورية والشرق القديم في الألف الثاني قبل الميلاد، لم تكن سهلة، فقد وقف على جملة من الوثائق والمعاهدات والتحالفات التي تتضمن أحداثاً جمّة، يناقض بعضها بعضاً، مما جعل الصورة أمامه مشوّشة، لا تساعد على تحديد مجرى الأمور بدّقة، ولكنه بعلمه وصبره استطاع أن يحدّد مسار الأحداث في تلك الحقبة من الزمن بمرحلتين: الأولى وبرزت فيها إمارتا«أبسن» و«لارسا»، المتصارعتان والمتنافستان على النفوذ في المنطقة حتى نهاية القرن التاسع عشر قبل الميلاد، والثانية عودة الهدوء والاستقرار النسبي إلى المنطقة نتيجة توازن القوى قرابة نصف قرن، إلى أن تمكّن الملك الشهير حمورابي في أيامه الأخيرة من السيطرة على البلاد كافة بيد من حديد، وحسبنا أن نشير في المرحلة الأولى، إلى الدمار الحقيقي لحاضرة الدولة المزدهرة، مدينة «أور» الشهيرة، التي دمّرت على يد العيلاميين وحلفائهم من القبائل الجبلية، وقد انعكس صدى هذا الدمار المؤلم في قصيدة أدبية من العصر البابلي، لشاعر لم يعرف اسمه، يرثي فيها حال المدينة المدّمرة:
«في ذلك اليوم اختفت المدينة
فانطفأ الضياء
وتحولت المدنية إلى أنقاض
أيها الأب نانا ! أصبحت المدينة يباباً
والشعب ينوح وملأت جثث السكان ضواحي المدينة
وعملت معاول الهدم في الأسوار
والشعب ينوح
وملأت جثث الأموات مداخل بوابات المدينة الكبيرة
التي كانت سابقاً ممرات للمواطنين
وتناثرت الأشلاء فوق ساحات المدينة
المعّدة لإقامة الحفلات والأفراح
وسدّت جثث الموتى منافذ الطرق والأزقة
التي كان يجتازها المواطنون
وتكدّست أكوام الجثث في المؤسسات التي كانت
مبعث البهجة والفرح
وذابت دماء سكان البلاد كما تذوب خليطة النحاس
مع التوتياء في الحفر
وتبخّرت جثث الموتى تحت أشعة الشمس
كما يتبخّر شحم الخروف».
حمورابي وزمري ليم
في الدراسات التي قام بها «هورست كلينكل» في آثار مدينة أور الرافدية أثبت فعلاً وجود مثل هذا الدمار المخيف، الذي لحق بالمدينة، ولم يعد الهدوء والسلام إلى المنطقة بسقوط العاصمة «أور»، إذ إن الاقتتال وإشعال نار الفتن بين دويلات المدن التي نهضت على أنقاض دولة «أور» دام ما يقارب القرنين ونصف القرن، حتى تمكن الملك البابلي الشهير«حمورابي» من القضاء عليها، وفرض هيبة الدولة المركزية من جديد، بقوّة السلاح، وقد استلم الحكم في عام 1792ق.م، وعرف كيف يستفيد من العلاقات الدولية ويجعلها لصالحه، ويُفهم من التدوينات للحوادث المهمة أن حمورابي كان يشّن حملات لإخضاع المتمردين، وتوضّح بعض الرسائل التي اكتشفت في مدينة ماري(تل الحريري) الواقعة قرب بلدة البوكمال حالياً، أن الاتصالات بين حمورابي والملك الآشوري «شمشي حدد» كانت تتسم بالصداقة والود،إذ كانت السلطة الآشورية تتوجه إلى حمورابي بالرجاء لحماية قوافلها التجارية التي تمّر ببلاد بابل، كما كانت آشور تعيد الهاربين من وجه العدالة، والمقيمين في محيط مدينة ماري إلى السلطة البابليّة..
وتخبرنا الوثائق الكتابية المسمارية، كيف استعاد «زمري ليم» عرش أبيه في ماري، بعد أن طرد «يسمع هدد» الضعيف خارج ماري بمساعدة ودعم ملك سورية الشمالية القوي «ياريم ليم» الذي جعل من حلب عاصمة له، وكان الشمال السوري يعرف في الوثائق المسمارية بمملكة «يمحاض» المشهورة بخصب أراضيها، وأصبحت العلاقة بين المملكتين (ماري ويمحاض) أكثر تقارباً، وأكثر ألفة ومودة، بعد أن تزوج «زمري ليم» ابنة «ياريم ليم» وبذلك ضمن «زمري ليم» الحماية العسكرية لمملكته، واعترافاً منه بالفضل وامتناناً بعودة عرش أبيه إليه، أهدى تمثاله إلى حلب، ليُنصب أمام إله الطقس المحبوب والمبجّل في حلب.
رسائل ماري تكشف سياسة حمورابي
في ترجمات الرسائل الكتابيّة المسمارية المكتشفة في القصر الملكي في ماري، نكتشف معلومات جمّة عن النشاطات السياسية التي قام بها الملك البابلي «حمورابي» خلال العشرين سنة الأولى من حكمه في بلاد الرافدين والجزء الشمالي من بلاد الشام، وقد ثبت منها أن الفترة الواقعة بين عامي(12و29) من حكمه، كانت فترة ركود وسلام، لم يتخللها أي حادث جلل سواء على الصعيد السياسي أو العسكري، ويبدو أن هذه الفترة كانت فترة تحضير وتمهيد للسنوات القادمة التي أحرز فيها حمورابي بتتابع زمني قصير كل انتصاراته..
إن كميّة الرسائل الكبيرة المكتشفة في محفوظات مدينة ماري، تقدم الدليل الواضح على مدى النشاط الدبلوماسي الذي كان يجمع بين الدولتين الواقعتين على نهر الفرات( ماري وبابل)، وتذكر الرسائل بكل وضوح أن ملك ماري كان يضع فرقاً عسكرية كاملة تحت تصرف الملك البابلي، ويقوم بدور الوسيط في جمع الفرق العسكرية من شمال سورية، وخاصة من مملكة «يمحاض» لتكون تحت إمرة حمورابي، وكان قوام إحدى الفرق يصل إلى ثلاثين ألف رجل، ويبدو من هذه المراسلات، إنه تشكّل حلف ثلاثي يضم حلب وماري وبابل، وقد استغّل حمورابي، هذا الحلف بشكل خاص، في حملاته العسكرية التي كان يشنّها ضد «أشنونا» وحليفتها «عيلام» وكذلك ضد «لارسا» وقد سمّي العام الحادي عشر من حكم «زمري ليم»، العام الذي أرسل فيه «زمري ليم» جيوشه لمساعدة بابل، وبالمقابل كان حمورابي يؤازر ملك ماري أحياناً، ويمدّه بالفرق العسكرية عندما تقتضي الحاجة، إلا إنه غالباً ما كان يتلكأ في تلبية رغبات حليفه، فقد اعتذر مرة عن إرسال عشرة آلاف مقاتل بابلي بحجة إنه يستطلع نيّات العدو، وما يخبئه من مكائد، وأرسل مرة جيوشه فعلاً إلى ماري وكان دون حماسة، متذرعاً بطول الطريق ووعورة مسالكه..
ويُستنتج من مضمون بعض الرسائل الكتابية المكتشفة في ماري، أن العلاقات بين المملكتين(بابل وماري) لم تكن دائماً على ما يرام، ويبدو أن الانتصارات التي حققها حمورابي خلال السنتين الحادية والثانية والثلاثين من حكمه جعلته لا يقيم وزناً لتحالفه مع ماري، وموقع هذه المدينة الاستراتيجي على الفرات الأوسط، جعلت حمورابي يتطلع إليها كهدف عسكري، وفي سبيل هذا الهدف الطموح ضرب بكل تحالفاته السابقة مع ماري، دون أن يراعي أبسط القواعد الأخلاقية، وقد دوّن حمورابي انتصاره على ماري ضمن الأحداث السنوية الهامة إلى جانب أعمال أخرى قام بها في السنة الثالثة والثلاثين من حكمه، إلا أن ماري لم تلبث أن ثارت ضده، وفي أخبار العام الخامس والثلاثين من حكمه يشير حمورابي: «بأمر من أنو وانليل دمّر حمورابي أسوار مدينَتي ماري وملجوم».
ولا نعلم عن مصير «زمري ليم» بعد ذلك، كما نجهل الحالة التي آلت إليها مدينة ماري بعد الكارثة التي ألحقها بها حمورابي، إذ تصمت النصوص الكتابية نهائياً، وعلى كل حال، كما يقول العالم الألماني الصديق« هورست كلينكل» لم يعد لماري شأن يذكر على مسرح الأحداث السياسية العالمية في الشرق القديم..
المصادر:
1- حمورابي البابلي وعصره، تأليف هورست كلينكل، تعريب: محمد وحيد خياطة، الناشر: دار المنارة - سورية، الطبعة الأولى عام 1990.
2- مملكة ماري، تأليف: أندريه بارو، ترجمة: د.رباح تفاح، إصدار وزارة الثقافة دمشق..
3- وثائق ماري، تأليف: جان مارغرون، إصدار متحف اللوفر في باريس 2010.
4- تاريخ سورية القديم في الألف الثاني قبل الميلاد، تأليف: هورست كلينكل
تعريب: قاسم طوير، إصدار وزارة الثقافة دمشق.
5- إضاءات من الذاكرة القديمة، تأليف: د.علي القيّم، إصدار وزارة الثقافة- دمشق 1986.
6- آثار وأسرار، تأليف: د. علي القيّم، إصدار دار البشائر.
7- ماري أكبر حاضرة في سورية، تأليف: إيفا شترومنغر، منشورات: المديرية العامة للآثار والمتاحف- دمشق 1983.
8- رحلة إلى بابل القديمة، تأليف: إيفلين كلينكل- ترجمة: د.زهدي الداؤدي إصدار: دار الجليل- دمشق 1984.
المصدر : الباحثون العدد 70 نيسان 2013