يتربع شاعر الألمان الأكبر «غوته» على إحدى القمم الكبرى في الأدب الغربي والذي يُعد إلى جانب «هوميروس، ودانتي، وشكسبير» رابع عظماء الأدب عند الغرب، فإذا كان لكل أمة أديبها وشاعرها المشهور فإن للألمان «غوته» وكفى به فخراً لهم. وغوته ليس مجرد شاعر وروائي ومسرحي، ومفكر وفيلسوف وسياسي، وإنما هو ظاهرة إنسانية كبرى استحقت عن جدارة أن يطلق اسمها على عصر أدبي كامل هو «عصر غوته». ولم يكن اهتمامه فقط بالأمور الأدبية والفكرية والفلسفية والسياسية، وإنما تعدتها إلى الأمور العلمية والفنون التشكيلية، حيث وقف على شتى المواضيع من علم الفلك إلى علم النبات والكيمياء والجيولوجيا وعلم التغييرات الجوية، وعلم المعادن، وعلم الحيوان، والموسيقى، والفنون، والعمارة، والتاريخ وغيرها. لقد كان بالفعل موسوعة كاملة في شتى المواضيع. وقد بلغ من الشهرة في كل أوروبا أن قصده العلماء والأدباء والسياسيون من كل البلدان الأوروبية، ويكفي أن «نابليون بونابرت» قد طلب زيارته، والتقى معه في بلدة «آرفورت» الألمانية، وكان نابليون قد قرأ رواية «آلام فرتر» وتأثر بها كسواه من الأوروبيين. وكانت الجيوش الفرنسية تحتل البلاد الألمانية بكاملها، ولكن نابليون وقف متواضعاً أمام الثقافة المتجسدة في شخص الشاعر غوته، وقال لمن حوله: "هذا إنسان!" وفي ترجمة أخرى: «هو ذا رجل!» وكانت هذه الكلمة كالسيف اخترقت قلوب من في القاعة لتفصح عن اعتراف العبقري بأخيه في العبقرية، وكانت أعظم لقب يمكن أن يمنحه إمبراطور عالمي في كمال الجنس البشري.
وقد التقى نابليون غوته مرة أخرى، وكان اللقاءان بتاريخ (2) و(6) تشرين الأول عام (1808). وبعد أسبوع منحه نابليون وسام جوقة الشرف. لقد شعر نابليون بالوضاعة أمام غوته وقد انصرف غوته من حضرة نابليون تاركاً أعظم الأثر في نفس القائد الكبير. إنها عظمة الثقافة التي تفرض وجودها بقوة وجلاء في عالم الكبار. وقد قال غوته عن نابليون ذات مرة: «إن التحدث إليه كان من أكبر المتع التي جربها في حياته».
وصدرت كتابات كثيرة عن غوته في كل أنحاء العالم، ومنها العالم العربي، حيث كتب «طه حسين» مقدمات ممتازة لبعض كتب غوته المترجمة، أما الكتب عن غوته فأبرزها «الشرق والإسلام في أدب غوته» لعبد الرحمن صدقي، و«عبقرية جوته» لعباس محمود العقاد. كما ترجمت إلى العربية كتب كثيرة عن غوته أهمها: «غوته والعالم العربي» و«غوته وألف ليلة وليلة» للمؤلفة الألمانية «كاتارنيا مومزن»، وكتاب «غوته وعصره» للمؤلف «لوكاش».
ويُعد غوته من الأدباء المحبوبين والمحترمين من قبل الشعب العربي وذلك يعود لحب غوته الشديد للعرب وللمسلمين، وموقفه المنصف من الدين الإسلامي والقرآن الكريم، ولتقديره وإعجابه الشديدين بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم. ولكي نأخذ فكرة شاملة عن غوته سنلقي الضوء على سيرة حياته أولاً ومن ثم على أعماله الأدبية الشعرية والقصصية والمسرحية.
غوته: حياته وأعماله:
ولد «يوهان فولفجانغ فون غوته» في (28) آب من عام (1749) في «فرانكفورت سور لي مان»، وكان أبوه «جوهان غاسبار غوته» دكتوراً في الحقوق ومستشاراً إمبراطورياً «وهو لقب فخري». كما كان جده لأمه، حقوقياً أيضاً وعمدة لمدينة «فرانكفورت». وقد أشرف على تربية غوته أبوه وعدد من المربين الخصوصيين. فتعلم اللاتينية في السابعة، والفرنسية في التاسعة، واليونانية في العاشرة، والإيطالية، في الحادية عشرة، والإنجليزية والعبرية في الثالثة عشرة، وفي عام (1765) دفعه أبوه إلى متابعة دراساته القانونية في مدينة «لايبزج»، وفيها كتب قصائده الأولى، وهي مؤلفات حقيقية على نمط أسلوب «أناكريون» ومن الجدير ذكره أن جدته أهدته في الرابعة من عمره مسرحاً للعرائس جميلاً، وهذا جعل غوته يحب المسرح منذ طفولته وإلى نهاية حياته.
عاد غوته إلى «فرانكفورت» عام (1768)، ثم استأنف دراسته الحقوقية في مدينة «ستراسبورغ» النمساوية عام (1770)، ولكنه لم يدرس الحقوق إلا كواجب، كما كان شأنه في «فرانكفورت».
وقد قاده فضوله إلى جملة من العلوم المتنوعة:الفلسفة، الطب، الكيمياء،التاريخ،اللاهوت،الجيولوجيا،الخ... وفي مدينة «ستراسبورغ» التقى «هردر» الذي أثر فيه تأثيراً كبيراً وعرَّفه بالشعر الشعبي الأوروبي. وفي عام (1771) عاد إلى «فرانكفورت» بعد أن حصل على إجازته وفتح مكتباً للمحاماة، ولكنه عكف بخاصة على الإبداع الأدبي، وفي نفس العام أنجز مسرحية مأخوذة عن «قصة جوتفريدفون برلشنجن ذي اليد الحديدية» ومن هذه الصورة الأولية استخلص مسرحية «جيتس فون برلشنجن». وقد عاش غوته قصة حب رائعة مع «فريدريكه بريون» في «ستراسبورغ»، وهي ابنة قسيس قرية «زيزنهايم» وقد أثرت هذه العلاقة في تطوره الروحي، وعبر عنها في «أغنيات زيزنهايم». وفي عام (1772) تعرف في «فيتزلار» على «شارلوته بوف» التي أشار إليها في روايته «آلام فرتر» باسم «لوتا». وقد عرف غوته الحب وهو ابن الخامسة عشرة من عمره، حيث هام بفتاة تكبره في السن وتصغره في المكانة الاجتماعية وتدعى «جرشن» وهو نفس الاسم الذي سيستخدمه لصاحبه «فاوست» الأول وسيحاول إنقاذها في «فاوست» الثاني.
وبناء على طلب والده قصد «فيتزلار» من أيار إلى أيلول عام (1774) ليتدرب في محكمة النقض الإمبراطورية. وأوحى إليه بعض أصدقائه بموضوع «آلام الشاب فرتر»، كما بدأ بكتابة مسرحية عن «فاوست». وعاد إلى «فرانكفورت» ولبث فيها فترة من الوقت، وفي نفس العام تعرف إلى ولي العهد، الأمير «شارل أوغست دي ساكس فايمار». وهناك التقى غوته «شارلوته فون شتاين» التي كان لها تأثير كبير في العديد من أعماله الشعرية. وفي الفترة مابين عام (1772) و(1775) وهو تاريخ وصوله إلى «فايمار» تدفق عرقه الشعري والنثري الفني تدفقاً هائلاً فكتب «آلام فرتر» في عام (1774) وفيها فض عواطفه الجياشة، وصب مواجده الغرامية، وفي عام (1773) كان قد كتب مسرحية «جيتس فون برلشنجن»، وفي خلال ثمانية أيام كتب مسرحية قصيرة بعنوان «كلافيجو»، ونظم قطعاً شعرية متفاوتة الطول بعناوين «بروميثيوس، قيصر، اليهودي الأبدي، محمد». وكان الكاتب «ديلاند» مقيماً في «فايمار» وبعد قليل وفد إليها «هردر» و«شيللر» وآخرون، جعلوا من هذه العاصمة الصغيرة للدوقية، والتي كانت دوقية كبرى عام (1815)، مركزاً ثقافياً من الطراز الأول، وعيّن غوته عضواً في «المجلس السري»، أي في الحكومة، عام (1776)، وفي عام (1779) غدا مستشاراً سرياً يهتم بالمناجم والجسور والطرقات والجيش، وإعادة إعمار القصر. وقد قام بالعديد من الدراسات عن المعادن والنباتات. وفيما بعد أصبح مديراً لمسرح الدوقية من عام (1791) إلى عام (1817)، وظل حتى موته ناظراً للمؤسسات العلمية والفنية، أي مكلفاً بإدارة جامعة «إيينا»، والمتاحف والمكتبات والمعاهد الموسيقية في «فايمار» وفي «إيينا».
لقد ألهاه عبء وظيفته العامة كثيراً عن إنتاجه الأدبي، لذا قام في عام (1786) برحلته الكبرى إلى إيطاليا، دون أن يتفوه بكلمة لأحد عن مشروعه هذا.. ولم يعد إلى «فايمار» إلا في عام (1788) بعد أن أنهى بعض الكتابات التي بدأها من قبل، كما بدأ مشاريع كتابات جديدة وألهمه اتصاله بإيطاليا إلهامه الحاسم الذي سيخصب أعماله الكلاسيكية التالية. وقد عاش غوته منذ عام (1788) مع «كريستينه فولبيوس» والتي تزوجها عام (1806). وفي عام (1794) كان قد بدأ صداقته القوية وعمله المثمر مع «شيللر». وفي عام (1812) التقى (بيتهوفن». وفي الفترة من (1828) إلى (1830) ظهرت أعماله الكاملة في ستين مجلداً. وكان لموت اللورد «بايرون» في «سولونجي» في اليونان، الأثر الكبير الذي دفعه إلى إنجاز رائعته الخالدة «فاوست» الثاني، لأن غوته كان معجباً ببايرون وبالنزعة الشيطانية فيه وبحماسته لتحرير بلاد اليونان. لهذا خطرت بباله - لدى علمه بموت «بايرون»- فكرة تمجيده في «فاوست» الثاني على صورة الشاعر «يوفوريون». وقام غوته بانتقاد الأدباء الرومانسيين، لأنه كان يرى أن الكلاسيكية هي الحركة الصحيحة، وأن الرومانسية حركة مريضة. كما قام بآخر حياته بتنقلات قصيرة إلى البندقية وسويسرا وفالمي والرين، وبعض الإقامات السنوية صيفاً في مدن المياه في «بوهيميا». ولزم أخيراً «فايمار» مع الاستمرار في الملاحظة المتنبهة للعالم الأوروبي، وفي (22) آذار من عام (1832) مات غوته دون أن يرى باريس ولندن.
غوته الشاعر
كانت تسود ألمانيا، في الوقت الذي نشأ فيه غوته، نزعة «التنوير» وهي حركة تقوم على تمجيد العقل والإنسانية بشكل عام. وقد تأثر بها غوته كثيراً، وإن الكثير من تجاربه، سيان منها الاجتماعية أو الشخصية، كانت في الحقيقة خاضعة لتأثير أفكار عصره، ذلك لأن خياله كان يستجيب لها، بحيث أنها صبغت عواطفه وقصائده على حد سواء، ولا ننسى أن غوته كان شاعراً بطبعه وفطرته، وأنه كتب الشعر في سن مبكرة وهو ما يزال طالباً في «لايبزج» عام (1765). وقصائده الأولى خفيفة والتي يلحظ فيها الأسلوب المزخرف، حسب ذلك الزمن. وقد تطور أسلوبه، والذي خضع لتأثير «التقوية» عام (1768-1770)، ثم انضوى إلى حركة «العاصفة والاندفاع» عام (1770-1785) والتي كانت حركة مضادة عنيفة ضد «نزعة التنوير»، وهي تميل إلى تمجيد الغريزة والعاطفة على حساب العقل، وإلى إطلاق العنان للمشاعر العارمة التي تحدّها قيود الدين أو التقاليد أو الحكمة، وإلى تجاوز القواعد الكلاسيكية في الفن، وإلى التماس النماذج البشرية في الشخصيات الغريبة القلقة. وفي عام (1786) زار غوته إيطاليا فحرضته هذه الزيارة على الانقلاب إلى الكلاسيكية، حيث وضع بالتعاون مع الشاعر والفيلسوف «شيللر» الأسس النظرية لهذا الأسلوب. وبعد موت «شيللر» عام (1805)، وبعد الحروب النابوليونية تكونت لديه أعمال الشيخوخة، وهي أعمال تلامس أحياناً الرومانسية، وهي التي كان غوته يكرهها. إن غوته يضم في أعماله وفي حياته على حد سواء أكثر من أي شاعر أوروبي، الاتجاهات الأكثر تنوعاً، لا بل المتضادة، التي تلتقي مع ذلك في وحدة فنية وأخلاقية بمستوى متفرد. وفي فترة «العاصفة والاندفاع» كتب غوته الأعمال الشعرية التالية: أناشيد بروميثيوس، ونشيد لمحمد، وكروتوس» وقصائد كثيرة تظهر غنائيتها مباشرة وحقيقية. وبعد عودته من رحلة إلى إيطاليا ظهرت له «مرثيات رومانية» وهي سلسلة قصائد تتكون من عشرين قصيدة نشرت عام (1795) وكان موضوعها الحب وحرية الحب الحسي، وهو موضوع يتسم بالجرأة في ذلك الوقت. وكتب أيضاً «حكم من مدينة البندقية» عام (1796) وهي مجموعة قصائد تتكون من مئة وثلاث من قصائد المناسبات القصيرة، يحذو في شكلها حذو الشاعر الروماني «مارتيال»، وتدور هذه القصائد حول مواضيع مختلفة، وقد كتبها عام (1790) أثناء إقامته في البندقية، وتعكس المراثي والحكم حالة مزاجية فرحة وراضية. كما كتب في «فايمار» قصائد عن الطبيعة «أغنيات» يحكمها كلها الحنين إلى الاتساق والانسجام واليقين بأن الطبيعة يمكن أن تضفي هذا الانسجام على البشر أيضاً. وكتب مع «شيللر» أيضاً «قصائد ساخرة»، وكتب معه كذلك «الحكايات الشعرية» في عام (1797). وقد كان غوته يفضل هذا النوع الأدبي، لأنه يحتوي على سمات شعرية وقصصية ودرامية، ويمكن للشاعر أن يتنقل بين هذه الأشكال كيفما يريد، ومن هذه الحكايات «الباحث عن الكنز، عروس كورنت، الرب وراقصات المعبد، صبي الساحر».
وهناك كتاب شعري آخر نشره عام (1827) وهو «ثلاثية العواطف الجياشة» وهي عبارة عن ثلاث مرثيات، وفي المرثية الثانية (1823) بعنوان «مرثية مارينباد» يتذكر غوته حبه «لأولريكه فون ليفتيزوف». وفي عام (1819) كتب عمله الشعري الشهير «الديوان الغربي الشرقي» وظهرت الصيغة الموسعة منه عام (1827). وفي هذا العمل يتجه غوته إلى الثقافة الشرقية، ويمشي على خطوات الشاعر الفارسي «حافظ الشيرازي» من القرن الرابع عشر. وفي هذا الديوان يعبّر غوته عن حبه الكبير «لمريانا فون فيللمر»، وحتى في هذه السلسلة من القصائد يتناول غوته موضوع العزوف عن الحياة. ويتكون الديوان من اثنتي عشر كتاباً، وتشير كل قصيدة إلى التي تليها. والكتاب التاسع، كتاب «زليخة»، وهو حوار بين حبيبين «حاتم وزليخة». ولا ننسى أن نذكر أيضاً، أن معظم مسرحيات غوته قد كُتبت شعراً، لهذا يستحق غوته وعن جدارة لقب «شاعر الألمان الأكبر».
غوته القصصي:
كانت رواية «آلام الشاب فرتر» والتي كتبها عام (1774) هي الانطلاقة الواثبة نحو الشهرة إلى جانب مسرحيته الشهيرة «غوتز فون برليشنجن»، وهذه الرواية تقوم على الرسائل، والتي تعرّف جيل الشباب على نفسه، في حنين «فرتر» في عاطفته ورغبته في الاتحاد بالطبيعة، وفي تطلبه لحياة يقرر مصيرها ذاتياً حتى الانتحار. وقد كان لهذه الرواية صدى واسع في كل أوروبا، ويكفي أن «نابليون» قرأها وتأثر بها.
أما روايته الثانية «التجاذب الاختياري» التي كتبها عام (1809) وتقع في جزأين، فهي تستعير مفهوماً من الكيمياء لتصف به العلاقات الإنسانية، فالعنصران المرتبطان ببعضهما يمكن أن ينفصلا فجأة عندما يدخل عليهما عنصر آخر فتنشأ علاقات جديدة. والرواية تحكي عن الزوجين «شارلوته وإدوارد»، ثم يدخل مجال الجذب عنصران آخران: ابنة أخ «شارلوته» وهي «أوتيليه»، ثم قائد من الجيش، وتبتعد «شارلوته» بسبب التزامها الأخلاقي عن القائد الذي تقع في حبه. أما «أوتيليه» فلا تستطيع الإفلات من حبها «لإدوارد» بسبب وقوعها تحت تأثير قوى شيطانية تجعلها تخرق الالتزام الأخلاقي.
وفي روايته الثالثة بجزأيها الأول «سنوات تعلم فلهلم مايستر» وكتبها عامي (1795-1796) والجزء الثاني «سنوات تجوال فلهلم مايستر أو الزاهدون» وكتبها عام (1821) والطبعة الموسعة عام (1829). وكان مخطط لهذه الرواية في الأصل أن تظهر على شكل أقاصيص. ولا يظهر الشكل المغلق للرواية إلا بالكاد. وتتراجع شخصية «فلهلم مايستر» إلى الخلف. وفي النهاية يتحرر «فلهلم» من القسم الذي التزم به وقضى عليه بألا يبقى في مكان واحد. ويتعلم «فلهلم» ليصبح طبيباً وعضواً ناجحاً في المجتمع. وهناك رواية أخرى ذات جزأين بعنوان «البنت الطبيعية» وبالإضافة إلى هذه الروايات النثرية هناك قصص كُتبت شعراً مثل «حكاية شعرية» كتبها عام (1797)، وملحمته الشعرية «هرمان ودوروتيه» في نفس العام. والحكايات الشعرية التي كتبها مع «شيللر». ويمكن أن نضيف إلى هذه الروايات سيرته الذاتية بعنوان «من حياتي. الشعر والحقيقة»، بأجزائها الأربعة في أعوام (1811-1812-1814-1833). وكذلك كتابة «رحلة إيطالية» في أعوام (1786-1788) و(1829) وهو عبارة عن يوميات كتبها أثناء رحلاته في إيطاليا. وله أيضاً كتابات علمية وفكرية، وكتابات تتعلق بالفنون الجميلة وبعض البحوث حول «شكسبير» وكاتدرائية «ستراسبورغ» والهندسة المعمارية وغيرها كثير.
غوته المسرحي:
كان المسرح هو المجال الخصب الذي عمل عليه غوته بعد الشعر، وقد أبدع فيه إبداعاً منقطع النظير. ولا عجب في ذلك فقد ورث حب المسرح منذ طفولته. وقد بدأ الكتابة للمسرح في سن مبكرة. ولكن صلته بالمسرح المعاصر له ضعيفة، غير أن صلته بميدان الأفكار واضحة ومباشرة. وموضوعاته توضح اختياره الشخصي الخالص. فالقرن الثامن عشر كان يبحث بإخلاص عن مفاهيم جديدة للحياة الخيّرة، باحثاً في العقل والطبيعة عن مُثله، وملاحقاً رؤيته الخاصة عن الحضارة دون كلل. وليست أفضل مسرحيات غوته وأكثرها تميزاً مثل «أوفيجينا في تاورس، وتوركواتو تاسو، وفاوست»إلا تنويعات على هذا الموضوع (التعليم» والثقافة من أجل التقدم نحو ثقافة تعانق الفرد والمجتمع إن لموضوعات غوته صلتها بالعصر وليس بالكاتب فقط، وإنه لمن الصعب التأكيد بثقة ما إذا كان الإحساس الإنساني في «أوفيجينا في تاورس» قد نبع من حبه «لشارلوت فون شتاين» أو إن بنية هذا الحب قد حددتها إنسانية القرن.
فتحتَ وطأة تداخل دقيق في القوى يستجيب فيها إحساس غوته لأفكار عصره ومُثل ذلك العصر. وهو يقوم بمسرحة هذه الاستجابة ويستخدم حبكة وشخصيات، لأنه من المستحيل كتابة مسرحية دونهما، إلا أنهما بحد ذاتهما، لا تحتويان على المسرحية الحقيقية وإنهما قد تشيران إلى دراما موضوعية ذهنية هي عين ما يريد غوته أن يعبر عنه. ويمكن التقاط ِأِصول هذا المفهوم منذ «غوتس فون برليشنجن» التي ليست إلا تقليداً سطحياً «لشكسبير»، ولكنها في جوهرها تصوير حماسي لبطل الحرية والعدالة «الطبيعية». وكنا قد ذكرنا سابقاً، أن مسرحيته الأولى «غوتس فون برليشنجن» التي كتبها عام (1773) كانت نقطة الانطلاق إلى الشهرة، وهي مسرحية تستهزئ بالقواعد الكلاسيكية، حيث استلهمت قواعد «العاصفة والاندفاع» وعندما ذهب غوته في رحلته إلى إيطاليا وعاد منها، تحول إلى الكلاسيكية، وأمكن حينئذ للأعمال التي باشرها قبل هذه الرحلة أن تجد شكلها الكلاسيكي النهائي. كمسرحية «إيغمونت» التي كتبها عام (1788) و«توركواتو تاسو» عام (1789)، و«أوفيجينا في تاورس» عام (1781) و«فاوست»عام (1790) والتي استلهمت في البداهة «العاصفة والاندفاع» ولكنها اكتسبت فيما بعد طابعاً أشمل، وتلك حال «إيغمونت» التي ما يزال نثرها يحمل طابع «العاصفة والاندفاع»، وحالة الصيغة النهائية للقسم الأول من «فاوست»، وقد مثلت «أوفيجينا في تاورس» في «فايمار» عام (1779) في نصها النثري الأول، ولكن نصها المحرر في المرة الرابعة عام (1786) الذي يحترم الوحدات الثلاث والمنظوم شعراً موزوناً هو الذي يجعل منها المأساة الكلاسيكية الألمانية الأعظم نقاءً والمجارية لأفضل مآسي «راسين». وكذلك مسرحية «توركواتو تاسو» وهي مسرحية تتبع القواعد الكلاسيكية على غرار «أوفيجينا في تاورس» وهي تهدف إلى الكمال الأخلاقي الذي يدعمه مثل أعلى لأنسية جديدة، هذا فضلاً عن الكمال الفني، ومن مسرحياته، نضيف إلى ما ذكرنا، مسرحيته التراجيدية «كلافيجو» و«نزوة العاشقين» و«الشركاء في الذنب».
إن الطبيعة الأساسية لمسرح غوته هي دراما الرموز. التي تشرح دراما البحث عن قيم، وهو المنهج المتبع في «أوفيجينا، وتاسو، وفاوست». إلا أن الجانب الهام هو أن غوته يبدأ من المثُل الممكنة في السلوك، ويخلق الصراع الدرامي بينها. وبهذا تكتمل صورته عن الدراما الذهنية التي تدور حول القيم. لقد تخلى نهائياً عن مفهوم الدراما الذي كان سائداً في القرنين السادس عشر والسابع عشر. إنها نوع جديد من الدراما. ولكن الأمر المحير في مسرحيات غوته هو أنها ليست مسرحيات حول المصير الإنساني الشخصي، ولا هي مسرحيات أفكار. بل هي تحتوي على أشخاص يعيشون ويتعاملون مع المثل طوال الوقت «فأوفيجينا، وتاسو، وفاوست» مفاهيم حيوية جداً. غير أن الحبكة الفعلية التي ينخرطون فيها ناقصة وخاطئة. ويبقى لدينا أخيراً مسرحيته الشهيرة «فاوست» بجزأيها الأول والثاني، والتي يعتبرها النقاد من أشهر المسرحيات الألمانية، وأنها أيقونة المسرحيات الألمانية، بل ويعتبرونها إرثاً عالمياً مثل «الإلياذة، والكوميديا الإلهية، وهاملت» وغيرها. لذلك كثرت من حولها الشروح والتعليقات، والكتابات النقدية والفلسفية وغيرها. وقد استلهمها الكتاب والفنانون والرسامون والموسيقيون في أوروبا والعالم وحولت إلى أوبريتات وأفلام سينمائية، ومُثلت بأشكال مختلفة على كافة مسارح العالم. وقد صدرت كتب عديدة لا تحصى حولها. كما ألقيت المحاضرات حولها في كل الجامعات والمراكز الثقافية. ولو لم يكن لغوته إلا «فاوست» لكفت به شاعراً وأديباً ومسرحياً. وفي ذلك يقول الأستاذ «نبيل الحفار» في محاضرة حول غوته: «يجمع علماء الأدب على أن الأدب الألماني بمجمله لم يبدع عملاً أدبياً فنياً يضاهي مأساة «فاوست» لغيته، لا على صعيد الإبداع والتجديد اللغوي، ولا على صعيد التألق الشعري والحرفية الخارقة التي تجلت من خلالها عبقرية غوته الفذة».
إن مسرحيات غوته الشعرية، التي طرحها مؤرخو المسرح جانباً كتحف نادرة، هي في الحقيقة مركزية وأساسية، لأنها تظهر الإبداع الدرامي والشعري متطابقين مع التيار الأساسي للفكر.
والإبداع فيها ناجم عن حيوية مواضيعها. وهي التكيف الذي يلجأ إليه الشكل التقليدي حين تتناوله العبقرية لمواجهة متطلبات وجهة النظر الجديدة.
غوته وحبه للعرب والإسلام:
كان غوته يكن لقدماء العرب وآدابهم وآثارهم الدينية والثقافية حباً متميزاً يقوم على أواصر قربى باطنية. ففي كل مراحل حياته وإنتاجه يجد المرء آيات الشكر والامتنان لبلاد العرب، ومن بين الشعراء الجاهليين، الذين تركوا بصماتهم على أعمال غوته يجد المرء أسماء كل من امرئ القيس وعمرو بن كلثوم، وعنترة بن شداد، والحارث بن حلزة، وحاتم الطائي، ولبيد بن ربيعة، وتأبط شراً، وزهير بن أبي سلمى. فالعرب بالنسبة له: «أمة تبني مجدها على تراث موروث وتتمسك بعادات تعارفت عليها منذ القدم» وأعجب بشعرهم وأخلاقهم وفروسيتهم. وقد أشاد غوته كثيراً بالمعلقات، واصفاً إياها بأنها «كنوز رائعة». كما تأثر أيضاً بكتاب «ألف ليلة وليلة» وبكل حكاياته وشخصياته، وخاصة بشخصية «شهرزاد»، ونجد أثر ذلك في الكثير من أعماله، منها «فاوست» و«فلهلم مايستر» وغيرها.
أما علاقة غوته بالإسلام وبنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، فهي ظاهرة من أكثر الظواهر مدعاة للدهشة في حياة الشاعر، فكل الشواهد تدل على أنه كان في أعماق وجدانه شديد الاهتمام بالإسلام، وأن معرفته بالقرآن الكريم كانت بعد الكتاب المقدس، أوثق من معرفته بأي كتاب من كتب الديانات الأخرى، ولم يقتصر اهتمامه بالإسلام وتعاطفه معه على مرحلة معينة من حياته، بل كان ظاهرة تميزت بها كل مراحل عمره الطويل. فقد نظم وهو في سن الثالثة والعشرين قصيدة رائعة أشاد فيها بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم. وحينما بلغ التسعين من العمر أعلن على الملأ أنه يعتزم أن يحتفل في خشوع بتلك الليلة المقدسة التي أنزل فيها القرآن على النبي. وبين هاتين المرحلتين امتدت حياة طويلة أعرب الشاعر خلالها بشتى الطرق على احترامه وإجلاله للإسلام، وهذا ما نجده قبل كل شيء في ذلك الكتاب الذي يعده إلى جانب «فاوست» من أهم وصاياه الأدبية للأجيال، ونقصد به «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي». بل إن دهشتنا لتزداد عندما نقرأ العبارة التي كتبها في إعلانه عن صدور هذا الديوان، وقال فيها إنه هو نفسه « لا يكره أن يقال عنه إنه مسلم» ولقد توصل غوته إلى علاقته الإيجابية الحقيقية بالإسلام عن طريق اكتشافه لتطابق بعض أفكاره الرئيسية مع معتقده وتفكيره الشخصيين، مما أيقظ في نفسه التعاطف العميق معه. وقد بلغ هذا التعاطف مع الإسلام حداً جعله يدلي بالاعترافات الحرة الصادقة، ومنها أقواله الكثيرة، وهذه بعضها: «الحقيقة أن فينا جميعاً شيئاً من هذه العقيدة» و«إن حياتنا وأعمارنا رهن بمشيئة الله» و«وليس بمقدور أحد أن يغير ما بنفسه أو يهرب من قدرة الله» و«لا يسعني أن أقول أكثر من أني أحاول هنا أيضاً أن ألوذ بالإسلام» و«ليس بوسع امرئ أن يقدم النصح لامرئ آخر في هذا الشأن، فليتخذ كل إنسان القرار الذي يناسبه. إننا جميعاً نحيا في الإسلام مهما اختلفت الصور التي نقوي بها عزائمنا» ويقول في كتاب له: «يحفز على التفكير في كل الآراء الدينية الرشيدة، وأن الإسلام «لهو الرأي» الذي سنقر به نحن جميعاً، إن عاجلاً أو آجلاً» و«إذا كان الإسلام معناه أن لله التسليم، فإننا أجمعين نحيا ونموت مسلمين». وما يزال بعض النقاد في حيرة إلى اليوم وعلى لسانهم هذا السؤال: «هل كان غوتيه مسلماً؟».
المصادر والمراجع:
1- غوته والعالم العربي – كاتارينا مومزن وترجمة عدنان عباس علي- سلسلة عالم المعرفة – العدد (194) الكويت- 1995.
2- الرواية اِلألمانية الحديثة- عبده عبود- وزارة الثقافة – دمشق – 1993.
3- تاريخ الآداب الأوروبية ج3 – مجموعة مؤلفين – ترجمة صياح جهيم- وزارة الثقافة- دمشق – 2002
4- عصور الأدب الألماني – بربارة باومان وبريجيتا أوبرله- ترجمة هبة شريف – سلسلة عالم المعرفة – العدد (278) –الكويت – 2002.
5- فاوست ج1- غوته- ترجمة عبد الرحمن بدوي- سلسلة المسرح العالمي- العدد(232) – الكويت 1989.
6- الشاعر في المسرح- رونالد بيكوك – ترجمة ممدوح عدوان- وزارة الثقافة – دمشق 1994.
7- غوته ونابليون – علي القيم – مجلة المعرفة – العدد(585) - وزارة الثقافة – دمشق – حزيران 2012.
8- القضية الاجتماعية في مسرحية فاوست لغوته – نبيل الحفار – الحياة المسرحية – العدد (19-20) - وزارة الثقافة – دمشق -1982.
المصدر : الباحثون العدد 70 نيسان 2013