أيها الخالق القديم المنير العظيم ارحم قلوب الأطفال برحمة العيش والبقاء واحفظ للناس الفقراء النابهين كرامة قاماتهم والأنفة، وامنحهم السعي الحثيث واحمهم من كل طمع وذل وخيانة ومال: خبيث.. وارعهم يا رب الأكوان من مصادقة إبليس.. إنه يكنس من البلاد الخيرات، ويُغري الأولاد بالقروش والليرات، ويغافل الأيام والليلات، ويجعل بدك الغيمات الساقيات هطل اللعنات وسوء النيّات وسواد التمنيات..
أنعم يا حليم على الصدور بالحلم وعلى العقول بالعلم وعلى المدن والبلدات بالأمان والسلم.. والبساتين انشرها، والأنهار أطلق لجريانها العنان، وحارات النفوس املأها بالحنان بدل العبوس، وحبّب الأجيال بالبركات والسعادات النديات بدل الفلوس، التي تهيم بها الرغبات..
من هذا الصلصال الأليم جُبلنا ومن سطوع الشروق ابتدعت إشراقاتنا وتأملاتنا.. فلم لا نكون كالشروق وكالبرق، تُقبل معنا الإضاءات وتهلُّ على إثرنا النعمات؟!
تجاوزت الدرب وغابة الوردات.. وعلى اليمين المطعم الذي يُشبه الأغنية على مدخل الوادي وعند مبتدأ إطلالة السفح..
الوله على أشده بين الطوايا وبين الجغرافيا.. وبين الخفايا وجهالة الأعالي والتلال..
الأمهات يُطلقن على الفتيات الجميلات، وهن في أوج الأنوثة والطلاقة: (فتيات جهلانات).. والقصد هنا الجمال النضر الواضح والنعومة التي في طور النعمى والتنّعم والنعيم، فكأن الحسناوات يحتجبن وراء بلاغة الرقة، ويسافرن جيئة وذهاباً في ازدهارهن البكر.. وينسين أن يلتفتن إلى ما بعد زهوهن أو ما قبل خطوهنّ..
كما قال الشاعر العاشق:
كأنك قد تعبت من البهاء فاستريحي!!
والطبيعة هنا قد تكون تعبت من الانتباه والعاشقين والرمان والزيتون والتين وأرادت فرصة راحة، كالطالبات والطلاب بين درس ودرس وعطر وعطر وغمزة وغمزة وقلق وقلق..
- هو ذا بيت الشاعر أسيجة وذكريات والغرفة العالية، التي عايشت حيطانها أساه وأسراره..
- والأفعى وعيشها معه أياماً وشهوراً..
- قال لي وروى للناس: الأفعى بقيت عندي قرابة السنة.. وحين خافت منها أختي، قلت لها: اذهبي يا مباركة!! خرجت حينها الأفعى دون إثارة ضجة أو إحداث صخب، أو عتب.. إنها الصديقة الصدوقة.. تسامرنا وتساهرنا.. وفيما بعد افترقنا كما يفترق جار مسافر عن جار مقيم..
- ألا تتذكرين قصيدة الشاعر والذئب:
وأطلس عسّال وما كان صاحباًً دعوتُ بناري موهناً فأتاني
فلما دنا قلتُ: ادن دونك إنني وإياك في زادي لمشتركان
فقلت له لما تكشّر ضاحكاً وقائم سيفي من يدي بمكان
تعشَّ، فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثلما من يا ذئب يصطبحان
وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما أخيين كانا أرضعا بلبان
ولو غيرنا نبّهت تلتمس القِرى أتاك بسهم أو شباة سنان
وإنّا لترعى الوحشُ آمنةً بنا ويرهبنا- إن نغضب- الثقلان
لعله قصد بالغدر زوجته نوار، وهي قريبته، لكنها أفلتت منه وتركته، ويومها قال:
ندمتُ ندامة الكُسعيِّ لما غدت مني مطلقة نُوارُ
الرجل الشاعر أو غيره حطّاب يستأنس كثيراً بنار رغباته ومنجل الاشتهاء والتسلط:
نوار هي بنت عمه، وأرادت أن يكون وليها لتتزوج، فصار وليها، لكنه زوّجها لنفسه بدل حبيبها.
انظري: بيت الشاعر، الغرفة العالية والغرفتان التاليتان، والفسحة والشجرات ودرب يتصل بأعلى ويتصل بالجهات دون وساطات.. بسيط كأغنية خرجت من معاطف الغيمات، ومشت بين أناس محبوبين وحنونين..
وبيت حميدوش زوج المصادفات النكرات وزوج العلاقات المؤدية إلى المنفعات، كيف تيّسر هذه المنفعات.. البيت ضخم وعديدة غرفة كالمستشفيات، وحوله الجدار الكبير، وبعده البساتين والمزروعات التي حملها معه من المدينة.. وعند الأسفل اسطبل للخيل، وزريبة للبقرات والمعزى.. ومأوى للغزلان وأقفاص للطيور..
- وهو الآن زوج سمر.. أليس كذلك؟!؟
- زوجها، بعد أن أغرتها الأبهات..
- وهي أنثى تعبّر عن ذاتها ببساطة لا تشبه السرقات..
- الرخاء يسحر الأنوثة و(يُدوِّخ) عقل النسوان..
- لكنها أرقى من هذا..
- قبلها تزوجته الـ(المزينة) لفترة وجيزة، وتركته في منتصف الطريق إلى عيشه..
- لماذا لم يسحرها الرخاء كسمر؟
- توزّعت اهتماماتها بين رخاءات عديدة..
وأُعجب بها المعلم الذي فوق حميدوش، وسافر في جغرافيا رقتها.. وصار حطاباً في غابة نعومتها العجيبة: من يتعلم فنَّ أغصانها، لا يتعلم بعدها الأغصان.. ومن يذق حناناً مُورقاً يبتعد عن الأحزان..
كيف ابتدأت العلاقة بين الحميدوش وبينها؟ قصة تُشبه قصة السمر:
- في بيروت، تُقيم قريبة جدك يا حميدوش، وهي من أجمل فتيات حارة النبع..
- تزوجت أحد المتطوعين، وتركته: هي صغيرة و(جهلانة) بحلاها، وهو شابٌ كيّسٌ.. يُسرح شعره، ويركض في الدروب، ويلعب ألعاباً رياضية.. نظرة من وراء شجرة الجوز.. وغمزة بعد التينة.. وضحكة صغرى عند الصباح، ومزاح عاجل ومخلخل عند الرجوع من المدرسة.. وفي أول العطلة الانتصافية سألها:
- هل تذهبين إلى حفلة عتابا وميجانا في مقصف البستان؟
- أسأل أمي..
- فكري.. وأنا أعود إلى حيث بيتكم في المساء..
- أمي الحنون هل تسمحين لي بالمشاركة في حفلة الفنان الجبلي فؤاد غازي؟
- أين الحفلة؟
- في البستان قرب النبع..
الفؤاد، وجدّه الشاعر الذي أتذكّره، وأحفظ مساجلته مع الشاعر النديم..
- نديم زوج أم جوليا؟!
- حبيبها..
- وأنا ألا يحق لي أن أحب: وعندي هذه الملامح والقامة؟
والضحكة الحلوة، حسب تعريف أستاذ المحفوظات والتعبير..
والقد الممشوق، والصدر المرشوق، والمنطق المعشوق كما يذكر أستاذ الموسيقا، الذي يزور بيتنا بحجة التقرب بالأم من جهة جدها العلامة وخالها الشاعر: أنتم رأس عائلات البلاد وجدكم خير العباد..
والمها، بنتكم كيّسة الحفظ واللفظ وحسنها فات كل المحاسن..
يتكلم ونظراته مشردة ومدردرة بين الكتفين وأسطر الظهر وعلامات تعجّب المؤخرة وفواصل القوام..
أمي أخبرتني: أستاذ الموسيقا يرغب أن يطليك حبيبة وزوجة؟!
++++
لكني..
السنة تنجحين في الشهادة، وهو يسهر على دراستك، وأنت لا تسهرين إلا على الدروس..
+++
(حبيبي يُسرح الشعر، ويمزح، ويضحك.. والأستاذ جاد ملتزم مثل نواطير الكروم الفقراء.. لا يلزمني..) وتشد حزام الأنوثة و(تفلش) في جدائلها النسمات، وتنتقي الكلمات والضحكات، لأنها تعرف أنها مليحة البنات ومرغوبة عند الأساتذة والشباب، ومحط اهتمام الاهتمامات..
السهرة، والمها فلسفة دهشة وأنوثة وغنج مصدره أمها القوية والواثقة بتشبثها بمحاسنها العائلية..
صوت الفؤاد: (رسالة شوق من عينو تلاها
وقُبلي من شفافو تلاها
قدح للنار بقلبي وتلاها
بجديلي كالشفق عند الغياب).
(ولزرعلك بستان ورود وشجرا صغيري تفيكي..
يغني الصوت الجبلي، وترقص صبايا الحارات ويدبك الشبان والرجال.. وتتسع رقعة حضور المها غنوجة الحارة وشجرة ورد التلة والوادي.. والفؤاد يلوي عنق المواويل باتجاهها.. وهي تكاد أن (تنسحر) بصوته المرنان وعاطفة أوفه وقفلات أغانيه..
وغمزها واستجابت، وغمزته وجُنَّ بها صوته وعقله وقلبه..
وقفت وراء تلؤلؤ الوجه وسطوع الشفة المرتبكة بالهمس وإشارات الصمت.. ووقف مع (أوفاته) وصدى النغمة وسلالم موسيقا الإعجاب.. يغني بصوته وعواطف حنجرته وتُغني بأنفة أنوثتها وبحبوحة عنادها.. الأم تصطدم عيناها بالنظرات المسافرة، والعاشق الولد يتعثر بمراهقة وجده ونزوة العضلات.. وكلما تتحرش (الأوف) بالألق والغمزات بالغمزات يُمسك بعضلاته ويشتد زئير المراهق الذي في وعيه..
الأم أيقظت حشد حذرها كيلا تحصل ارتباكات واضطرابات تمس السمعة والأنفة العائلية وملامح الاستقرار العاطفي، خاصة أن (مها) الشغل الشاغل لأفئدة الربا وانتباه الهضبات والسفوح والدروب المسافرة بين البيوت وإلى المدرسة..
حسبما يُحدّث أبو هلال (مها) فاقت بجمالها السمر والحسناء والسهام والحسناء والريما والسهام.. لم يسبقها بالبهاء إلا حارة النبع حيث تتلفت الأغصان والأعالي والسهول.. بل هي حارة محاسن ونبع نعمة ربانية.. نبع من نبع، وحارة في حارة.. وخلفها الحيرة..؟!
ولابد أن يُفكر الفؤاد، أن يخطف هكذا مهاة إلى سياج قلبه، لكن المخاوف مرابطة عند حدود النبضة والجريان: الشاب مفتول العضلات والغرام.. والعتابا (العشيقية) زادته شوقاً وغليان اشتياق، والمهاة تألقت وتلألأت نجمات سماء المكان ببقائها وخطواتها واستدارة القامة..
تمركزت النظرات حولها وحيالها ووراءها وأمامها..
وحين باتت المسافة أقصر من قدر ضحكة متبادلة، هطلت على المغني التحيات وكلمات الإعجاب والتعارفات، ولم ينسَ في الزحمة هذه أن يبعث بالرسائل الموجزة باتجاه (شيفرات) عينيها.. وهي بطريقتها تجيب وترد الرسالة بالرسالة.. لم تدع إلا للقليل من الإشارات أن تعود مرتجعات دون تعقيبات وردود..
وهل واحدة بكياستها ورقتها ينقصها التوضيح والبيان؟!
بل ثنيّات الخصر ومرافئ الصدر والعنق بحد ذاتها شروح وبلاغات تقرؤها العيون، وتسبِّح بحمد خالقها اللهفات والإعجابات..
التلال والحارات والقرى والبلدات لابد لها من تعريفات احتياطية أو جمالية أو أخلاقية أو دينية أو بطولة أو شجاعة أو أريحية أو صدق أو موقف إنساني فارق، أو حرفة يدوية بارعة، أو فن حاذق، أو بساطة نابغة ونابهة أو فلتة ذكاء أو شجرة تخطف الأبصار بالأوراق والثمار أو تنور وأرغفة مشوية بعناية الحطب والذوق والأيدي والنار أو وصايا الأمهات للكبار والصغار أو مصطبة ولقاءات ودجاجات وأسيجة وجدار.. للأمكنة عفوية تعاليمها وتعاريفها ومحفوظاتها:
مهاة حارة النبع، غدت البيوت والفسحات والدروس والجغرافيا والحفلات والأيام تعرف من خلالها وبها وبأنوثتها الضافية المترنمة كأغنيات الفؤاد الجبلية (الدلعونية)..
الحفلة افتتحها صوت المغني وألق مهاة الجبل، وحضرت جميلات جارات وصديقات وقريبات.. مهاة التعريف وهن الهمزات التاليات.. أنوثتها العنوان وهن المحفوظات..
الأم يدها على وتر خوفها أن يُفلت منها زمام السمعة الحسنة أو رباط جأش المكانة الجيرانية، أو تتمات الرخاء الاجتماعي..
(ماذا سيقول عمها؟ وماذا ستقول أم ريما وأم ليلى وحسناء وسمر.. وماذا سيؤلف أبو أنف وصاحب البستان وأبو عضلات؟)
مهاة أنت حبيبة أمك وطفلة خلق عجيب..
أرجوك يا غاليتي: جمعي شمسك عن كروم هؤلاء الناس.. شعاع المرأة متى زاد وعلا وكبر يحرق ويتشظى ويتشرد مثل دخان لفافة تبغ في شاربين كثيفين.
- سنذهب قبل انتهاء وقت الغناء؟!
- مع من نذهب؟
- مع حالنا وبالنا.. الدرب نعرفها وتعرفنا والأقدام تعوّدت على المشي والوقوف..
امتدت أناملها إلى (بلوزتها) لتجدد ترتيبات الفتحة العليا، ولتعيد إضاءات أصابعها، التي انتقلت إلى الشعر ببساطة لتتفحص النسمات وهبوب النظرات.
وانعطفت بيدها اليمنى إلى كتاب الخصر لتتلمس حروف رفع المؤخرة وعطف (البنطلون).. كأن الأصابع تقوم بـ(جردة غنج) و(جردة دلال) على دفاتر الساقين والفخذين والتناغمات الدائرة بين معزوفات الأغصان والتلال وأبّهات المنحيات وحنيات الثياب..
(بنت أمك يا مهاة الأعالي والسهول.. تباركت كرامات الأنوثة المبدعة، وتبارك الخالق القيّوم على نضارة المخلوقات.. وتبارك العيش المنعم بمحاسن الخلق والخلائق).
توجهت الأم بهذه الترتيلة لنفسها ولسمع من يود السماع بالتأمل والنظر.. بنتها وتعرفها:
من هنا نمرُّ..
ويرافقنا عمنا والـ...
أردت: من يرافقنا..؟!
+++
انقطع صوت الرنين قليلاً، وتمهلت النغمات وموسيقا الآلات، كأن الأنغام والأصوات والأغنيات ستذهب معها..
ما هذا؟!؟
المطرب الفنان واقف عند لحظة الخروج من المكان.. ومعه قلبه وقلق واسع الطيف والتحيات..
الشاب العضلات صار وراء خطوتها وشجرات الوداع.. وفي الأمام المغني؟
معزوفة الصدام على أهبة الوتر.. ماذا تفعل اللحظة الحرجة والنظرات؟!؟
نحن من هنا.. وشكراً لك يا أستاذ الغناء الجبلي.. إذا بقيت في البلدة.. تشرب عندنا القهوة في يوم غير هذا اليوم..
أمسكت الأم المهاة من قلبها ورغبتها وجاهرت بالتصميم والإصرار: البيت قريب ونذهب.. ولا داعي لأية إزعاجات..
مزمور المراهقة نغماته تُطرب الجار العاشق والمغني المعجب..
قدر الدروب الجبلية أنها تفتش في نعاس الأنوثات عن محميات وأسيجة.. وهذا ما فعله درب بيت مهاة، ولم تشأ في تلك الليلة الخطوات أن تخشى المشي أو الوادي المجاور.. شجرات الجوز والرمان وحانات الزوايا والطبيعة ظلّت على مدار اللحظات تُرحب بالأم والبنت، وتضيفهما متعة هدأة الطبيعة وأنخاب الرياح.. مطر يُبدل قمصان الأعالي، لكنه لم يشد الخيوط، حتى وصلتا إلى أولى البيوت..
هاجس الصدام من أجل الحبيبة أو قصيدة المكان ظلَّ يراود خاطر العضلات تجاه المغني الذي أدهش بعاطفة صوته عواطف الساهرين..
+++
- المرأة الهضبة أو الأم التلة، أو النساء القرى.. والتلال؟
- أجدر ما عند الأمكنة تسمياتها وتشبهها بالنساء، والعكس بالعكس: أم ريما مثل الهضبة التي عليها يقبع البيت وتنشأ وتترعرع مزرعة ورداتها وحديقة زهورها وزهوها..
- يعني هذا أن الزمن سيذكر يوماً: حارة أم الورد؟!
- بل سيقول سيدنا الزمان: المرأة الهضبة كانت وعاشت وأورثت الأجيال فهماً وردياً وعلمت الأذواق ثقافة الوردة والزهوة.. ولعله سيقول:
جبل أم جوليا، وبستان تفاح الأميرة الغنوة..
- وسمر ماذا ستقولون عنها أنتم العشاق؟
- جبل سمر.. ودرب سمر..
- ريما سرقها النسيان ونسيتها الأمكنة؟
- في العاصمة تذكرها الحارة العتيقة والحبقات وذاكرة المطر الدمشقي الأليف.. حارة عطر امرأة..
- كما دوّنك الشاعر في قصائده؟
- دوّنته في كتاب الدهشة وعطر اللفتات والنغمات، وبعد أن أحسنت على بصره وبصيرته تغنى وغنى..
- أنت وأم ريما قصتان في تاريخ عشق الدوير وجبل التفاح.. والمريمات عديدات هنا وهناك..
المرأة تعريف المكان.. واحة ثم قمة ثمَّ جمع وشجرات حور وسرو وسنديانات الكتف والسفح والقطلب والزعرور والعليق والعرائش ونباهات الربا والأعالي والسهول..
أنتم كل المكانات والمكان..
صراع جميل بين أصابع الشيخ خليل ونول الحياكة، وأطراف النظرات كالمناديل تعلق بأبهج ما عند الحسناوات أو الشبيهات بهنّ.. ليست المرأة غابة للعطر وبهواً للشروق وعبور برق الكياسات، لكنها بالنسبة للحائك الأعشى سطر تكمن فوقه همزات الرشاقة وشدات الطلاقة.. وهو يرى ببصيرة خيالاته ونظرات تأملاته، ولا ينصرف، أثناء التحديق الداخلي بالمرأة المرغوبة عن تصريف مشاكل الخيوط وتحدي مسارات النول والاتجاهات..
- ألم تقل عنه سمر، وقال عنه أبوها: الشيخ خليل لا يرى ربع أوقية شمس؟
- لكنه يرى المرأة بأكملها..
- الرجل يهجس بأبهة جسد الحبيبة منذ نعومة أظفاره؟
- كذلك تفعل الأنهار والسواقي والينابيع والحدائق والبريات والكروم: كرم غنوة، وساقية نجمة، ونبع حسناء، وساقية العاشقة، ونهر الغانيات، وشجرة سمر، وحديقة ريما، وبرية سهام.. وحبقة رشا، وبستان الياقوتة، وعريشة الماسة..
- النساء تسميات وتوصيفات أزمان الرجال..
- هذا بيت السمر.. هل نتوقف عند حائط أنوثتها؟
- هل نراها؟ أم ذهبت مع رياحينها إلى حيث الجامعة؟
- جاءت من المدينة بعدنا..
- أبو الهلال والغنوة أم الجوليا.. أينكما.. أنا بانتظار مجيئكما.. وقد تنتظر كما ريما وأمها؟
أبو الحبيب صاحب المطعم يرقبنا وينا دينا..
بيت الشاعر القديم وعتبات الأفق وتلويحات الغيمات المسافرة وراء البروق، والمقبلة على فتحات صدور الغابات كإقبال عشاق ولهانين على عاشقات، في مقتبل ربيعهن..
أم ريما تتجه إلى حيث وقفت السيارة المتواضعة:
- تنسانا يا أبا هلال؟.. أوّاه.. وها معك وليفة الصبا؟
- أهلاً بالست الحنون..
- والريما أينها؟
- أوف من واقع حياتها: من أستاذ إلى أستاذ، والعشق شديد وتتأمل وتتفاءل إلى أن تسقط في خيباتها ووعكة الوجدان..
- الأستاذ يحبها.. أليس كذلك يا..؟!
- ....
- لا تقولي: يحبها أو تحبه.. كله حطب بحطب.. وكلهن وكلهم غابات مخدوعة بأن الشمس ستشرق وأن الجداول ستحتفظ برونق الجريان، فإذا بالشمس لا.. والجداول لا.. والمخدوعات والمخدوعون على نفس الوسادة..
- الأحلام أفضل من اليأس.. وأنت أدرى، وقد (حوشت) عن شجرات أيامك الأحلام والمرارات والصبر..
- قطفت الشوك وصبرت على ذلك من أجل ألا (تتهرهر) هضبات الأبناء أمام العواصف والأنواء.
- المدينة لها ولسمر ولسهام..
- هل سمعت: المصاب كبير والراحلون كثيرون في التفجير الذي أصاب بيوت وحارة أقرباء سهام..؟!
- لم نسمع الأخبار..
- أخبار وصور وموت يُفخخ موتاً والمال العربي والمعدن العربي والجهل العربي يقتل ما تيسر من الناس والأرض والعرض والجنون..
- جنون يفخخ الجنون وجهل يفخخ الجهل واستعمار يؤلف العائلات ويجعلها ناطورة الخيرات، ويربطها بأصابع مصالحه كما يربط الراعي الجدايا.. والقصاب الخراف..
- استعمار يسحق التاريخ والزمن والواقع والأحلام وفي الخاتمة يطحن العظام والعائلات.. ويستلب حرية الفراغ لو وجد فراغاً خالياً أو صحراء وواحات..
- مجنون همُّ هؤلاء: يُرتبون خراب العقول و(يحدون) نواطير النفط كما (يحدي) (البيطار) الخيل والحمير.
- الذي يريدونه لرؤوس أبناء هذا الشرق مثل نصف العقل أو النعل، يستخدم بالمسامير، ويحذف بالمطرقة.. وفي نهاية كل خراب وتنعيل يبصقون على (خرف) هؤلاء..
وفي أحسن الحالات الإعلامية يقولون، مثل مجاملات البسطاء: استروا اللي شفتوه! أو يتفوهون بكلمات دينية كموجوع أسنان يعلك حرية نخوره وفجوره؟! ليس في أمر هذا الشوق أقسى من خرف التافهين؟!
- تنعيل العقول.. وتنعيلات الأنوثات؟
- كيف هذه؟
- الأنوثات مثل (كنزات) الصوف، لكن لا تنسجها أنامل التطلعات للدفء بل تنسجها همجية جوع وهمجيّة برد..
حتى تصير الأنوثات جروداً لا ينبت في جهاتها إلا الأوجاع الشائكة واللذات المستهلكة: أنوثات من (الباله) رغم حداثة المظهر؟!
الأولاد أينهم يا أمَّ الريما؟!
- أخذهم الأبُ، ليعيشوا عنده.. ولا تسألني عنها.. فقد أخذت حالها وتحدت عقل المكان والزمان، وربما استأجرت غرفة وفسحة قرب بيت أختها، أم باسمه..
- وأستاذ الجامعة كيف أمره؟
- بالسرعة الكلية جُن بها، ومن ثمَّ لم يلتزم جنونه بها.. بل تعدد عنده الجنون..
- أخبرتها بجنونه الجديد جوليا؟
- قد تخبرها، لأنه صارحها برغبته وانحيازه لجانب ألقها..
- لا أعرف كيف تؤلف فرصة جسدها ودروس أنوثتها، ومعالم حياتها، ومدارك العيش مع المطالب والرغائب.. دائماً تبني أعشاشاً أكبر من عصافير أحلامها، وأعلى من شروع الأجنحة بالطيران وجمع القشّ.. ريما لا يمكنها أن تشعر بالضعف، وأن تسكت عليه.. تختار أسلوباً لتجاوز ضعفها وتخطيّه.. والواقع قد يكون أقسى..
- تسجيلها في الجامعة ونجاحها.. ودورات الكمبيوتر واللغة الأجنبية.. وتعلّم الخياطة وقص الشعر والـ(ماكياج)..
- والحياكة لو تتعلمها من خليل ليلى.. ولا يصح أن نقول هذا، لأنه لم يعلن الموافقة إلى اليوم على الزواج منها أو هو يتركها محطة أخيرة في تفكيره الزواجي بعد أن يفشل من غيرها..
- بل قل: خليل حسناء، أو سمر أو.. لكنهن لم يلتفتن إلى حياكته ومناديله وآماله الغرامية.. وكيف سيرينه وهنّ المليحات والصغيرات في السن وهو الموحش والأعشى؟
- لو كان غنياً لرأته فتيات ونساء جميلات.. هل تعرفين جميلة التفاح السهام، التي أحبها وبحث عنها وركض وراء قامتها وقدها وهواها الرجل الموغل بالقدم؟
- نعم.. نعم.. جاءت مع فقرها وأنوثتها (الفلش) فصادفته وهي في الطريق إلى أحزان جسدها والحاجات.. هكذا قالت سمر..
- لغة الحاجة أقدر، في أحيان الضيق، على عطف مسارات الحُسن والحزن من لغة التأملات وكرامات الجسد والروح..
قصة جارحة.. وأسف قاتم كالأفكار المفخخة التي تطلع بها على الدنيا عقول الخرفين فكرياً ووجدانياً وطباعاً وأحلاماً وألفة وغير ذلك وغير هذه وتلك..
- أهلاً بهلال.. في اليوم الفائت لم أرك؟!
- أنت هنا يا ريما الدوير وحارة النبع.. اشتاقت الأرض لخطاك، والنسمات لطلة عينيك وجديلتك.. أصل كياسة بهو الجامعة وفسحاتها وحدائقها من أصل كياستكن.. أنتن الشجرات والحدائق، ونحن الراغبون بالظلال والسارحون بين الأغصان..
- سمر هل جاءت؟
- جوليا منذ وقت حضرت.. وقبلها جاءت الشاعرة السهام.. وسبقها أو لحقها أستاذك..
وقبل قافية الكلام لاحت قافية سهام البهية النضرة، وخلفها أو حولها أو ملحق بها الأستاذ الجامعي!!؟ ما هذا:
أيها الزوج المعجب أمطرتني بجنون الإعجاب وسحرت سمعي بنثريات عشق تطرب الألباب؟! قلت: أنت يا ريما شجرة أنوثة فاتنة الثمار.. والآن تركض كالشحاذ وراء أنثى تالية سبقك إليها العشاق أو المعجبون أو الطربون بقوافي الحسان.. وهي طرية حين حاجتها، لكنها لن توصلك إلى غناء أنوثتها وطرب نعومتها.. أعرفها وأعايشها: أمثالك بالنسبة لها مفترق صغير في دروب طويلة.. تحتاجه خطواتها كعكاز مؤقت تستخدمه لخطوة حرجة أو ضعيفة أو مكسورة.. وبعد ذلك ترمي العكاز، وتنسى المفترق، بل وتبتعد..
لن تذيقك من ثمارها إلا المر وإلا الندامة والحسرات؟؟!؟
- أين تكونين؟ كل مرة لا أعثر عليك؟! (تنتقلين) بين العلاقات الغرامية كعصفور (الدوري) وكالحذّائين ومصلحي الرحى و(الحواكير) والحافات.
- جوليا.. صديقتي.. وجارة الدمعات؟! أنا (أتنقل) بين الأزواج والخيبات.
- مالها دمعتك على أشدها؟!
- ألم تري فِعلته: يقف على سور أناقتها: يستجدي لغتها وعطفها؟! ما هذا الضئيل الذي ملأني بالأوهام والخديعة، ثم تركني؟! هو لم يعلنها، لكنني أنا سأنساه..
- ألم تقولي: سنشارك في تأليف (حطابون بؤساء في غابات النساء؟) و(بائسات يقترفن فن الحاجات)؟
- لا أدري ماذا أقول أو أعمل.. مصير واحد ينتظرني هو الحيرة.. والتخبط..
- انسحبي من الأسى والأسف، وابصقي على راحة بال محفوفة بالخيانات الزوجية..
- خيانات زوجية محفوفة بالبصاق.. من أين نبتدئ البصاق؟!
أصوات البنت الكبرى وأختها والولدين ترن في سمعي كرنين أجراس ريح باردة أمام شباك شارد الزجاج والقُفل..
المصدر : الباحثون العدد 71 أيار 2013