ها هو الإنسان بجزأيه الذكر والأنثى بيننا، وأقصد أنه كان واحداً بوجهين: أنثى وذكر، وإذا ما تأمّلنا بهما، وبالمكونات الجسدية المنتشرة على خارطتهما من الأمام وإلى الخلف فلا نجد أيَّ مكوّن؛ حتى ثقب الصرف الصحي هو في الأسفل، وإلى جواره من الأمام ثقوب زراعة الإنسان، والغاية الاستمرار، وفي حال إعادتهما لبعضهما؛ نعلم أنهما نصفان، وأنه بعد انفصالهما عن بعضهما حدث اللقاء الأزلي بإرادة المكون المحيط.. من هنا أخوض غمار الفرق بين الإنسان والبشر، بحكم أنه تطوّر بشري، أي: أن البشر يعني لنا بدء شرّ، من باب أن "قابيل قتل هابيل"، ومع القتل بدأ الشرّ إلى أن وعى وفهم لغة التطور، وأنه قتل أخاه، وأن عليه الوفاء له، لتولد أول مشاعر الإنسانية.. فالإنسان من الأنسنة والأنس والأنيس، الأول: غابيّ قادر على العيش ضمن الغابات، وطموحه ينحصر في تملّكها، أما الثاني فهو: إنتاجي مسؤول يؤمن بأنه رسالة، وعليه أن يؤديها بأمانة، وعلى الرغم من أن خريطة جسد الاثنين واحدة؛ إلا أن الجبِلَّة مختلفة، وحينما نعلم أن الإنسان خُلق من طبقات ثلاث: صلصال كالفخار المنجز من صدور الجبال وقممها، وطين لازب من سهول الأرض وهضابها، والحمأ المسنون/ الطين المسكون في الوديان، والمختلط بكامل أنواع الفجور والمجون، والحسد والغيرة والتشكيك الدائم، فالشكّ عند الخاصة وخاصة الخاصة يوصل إلى اليقين، أما عند العامة فيأخذ صاحبه إلى الجحيم؛ نعلم أن هذه الفئات الثلاث تجسِّد العامة والخاصة وخاصة الخاصة، فالعامة تستبيح كلّ شيء، ولذلك أُوجدت لها القوانين والنظم والأحكام و"النظَارات" والسجون، والخاصة تعرف الصح والخطأ، فإما أن تتجرأ على الصح وتنتقل إلى الأعلى، وإما أنها تعتقد بقدرتها على التلاعب بالخطأ فتهوي إلى الأسفل، أما خاصة الخاصة فهي عَرفت وفَهمت وعملت ومرّت من بين تلك الطبقات، فرفضت الخطأ، وعاشت حياتها المُقدّرة من أجل حماية الأولى والثانية.
إذاً، جغرافية البشر من يقيسها، من يستطيع أن يقرأها ويحلّلها، أليس ذاك المتطور منه القادر على فهم معطياته؟ والذي رسم له مسيرة حضوره الحيّ بعد أن أدرك بالتطور أنه إنسان؛ فعرف أن مفرداته شائكة ومعقدة ومركبة، وفي ذات الوقت سهلة وممتنعة وراقية ورائعة، والسير ممتع في طرقاتها، والتأمّل في نظام ثنائية ومفردات فلسفة تكوينها، لذلك أجد أن التحليل بين الإنسان والبشر يبدأ من تحويل الوصف الموجود على المظهر إلى تحليلٍ للجوهر المنعكس في ذات الوقت على المظهر، وحينما نمتلك فراسة التأمّل نقرأ الجغرافية الوصفية، ونصل من خلالها إلى حجم ووزن الإنسان، وهل هو كذلك، أم إنه بشر؟.. فعملية الوزن تتناول الصفات المنظورة في الأداء وربطها بحركة التوقّف والمسير والاتجاه، مما يعني لنا قيمة الولاء والانتماء للأرض، والعمل، والإنسان العام والخاص، أم إنه خداع وكذب ونفاق؟ أهدافه التملك الفردي والدّوس في لحظة الشعور بالامتلاء على أمان الآخر وأمنه وسلامه، ويتجلى ذلك بتطور مفردة الـ"أنا" على حساب مفردة الـ "نحن"..
أدعوكم للتأمّل في جغرافية البشر ونظام صُنعه وشكله المنجز عليه، أليس هو الميزان؟! كفّتاه يداه، وعارضته كتفاه، ووجهه أي عين ميزانه وأذناه وشفتاه.. أليس هو بناء الكلّي الأبدي سكنه وساكنه، وكذلك، أليس هو المسؤول في الناتج العام عن قيَم الخير ومستخرجات الشرِّ، وبين هذا وذاك ألا يتجلى فيه الحق والقيامة في لحظة البدء والنهاية.. فما هو فاعل بينهما أداء، فلمن يكون فيه الانتماء والولاء؟.
متى يكون الإنسان خفيفاً؟.. حينما لا يمتلك القيَم الفكرية والعلمية والفهمية، فإذا تحدّث نَفَر منه الإنسان، وكان بذلك بشراً سُفلياً، أي: من العالم السفلي، وكذلك يكون في لحظة فقْده للأناقة واللباقة واللياقة والكياسة، وحسْن احترام الغير من جنسه الإنساني، أما إن كان لطيفاً ووسيماً في لغته الإنسانية كان خفيف الظّل والدّم، وعكس ذلك يتحدث عنه جنسه بأنه ثقيل، وثقيل هو في المظهر إنسان، وفي الجوهر فيل.
جغرافية البشر تسير على جغرافية الأرض وتحت السماء، تتطور، تنجب الإنسان أو تبقيه على ما هو عليه؛ لتبقى هي أساس سرِّ وجود الموجود، وبدون هذا السر المسكون في جوهر الإنسان لم يكن هناك مقياس أو معيار أو مؤشر نرى بعضنا من خلاله، فنعلم منه أنّ هذا ثقيل وذاك خفيف، وبينهما المتوازن والمتّزن، أي: الإنسان والبشر حقيقة الكون، وقدرة قيادة مكوناته.. تأمّل يا رعاك الله.
المصدر : الباحثون العدد 72+73 حزيرن - تموز 2013