إن القرّاءَ الذين يحبّون الحكاياتِ المثيرةَ، التي يَرِدُ فيها شخصياتٌ لا تـُنـسَى، سيوجّهون الشـّكرَ إلى الأستاذ الجامعيِّ والخبيرِ في الأسواق المالية، فـْرَانـْكْ بَارْتـْنـُويْ Frank Partnoy ، على هذا الكتاب الذي يروي قصَّةَ عملاقٍ متخصصٍ في الأعمال خلال العشرينيات من القرن الماضي، اسمه إيفَارْ كْرُوغرْ . كان هذا الشخص الشهير خبيرًا ماليًّا دوليًّا، وهذا سمح له أن يكون صديقًا حميمًا للممثـّلةِ الذائعةِ الصيتِ غريتا غاربوGarbo Greta ، ومستشارًا لرؤساءِ وزاراتٍ وملوكٍ وأحدِ رؤساء الولايات المتحدة الأميركية. ومع أنه كان أحدَ أكثرِ الرجال شهرةً في العالم، فقد صار نَسْيًا منسيـًّا بعد أن زلّت قدمُه عن طريق الصّواب، ثم غاب اسمه عن سجلّ الشخصيات التاريخية التي خلّفت تراثـًا تفيد منه أجيال قادمة. ويقومُ المؤلـِّفُ بارتنوي بسرد سيرة كروغر، مع كل ما واكبها من "مجْدٍ" مأساويٍّ، إذْ رأى فيه بارتنوي شخصًا ناجحًا في البداية، لكنه انتهى بسقوطٍ سريعٍ، أعقبه انتحارٌ برصاصةٍ اخترقت قلبه. وما يلفت النظر هو أن هذين الحدثين يتزامنان مع الكساد العظيم Great Depression . وقد دَفَعَ الصَّرْحُ الماليُّ الكرتونيُّ، الذي أرسَى قواعدَهُ كروغر، السلطاتِ المعنيـّةَ في الولايات المتحدة إلى إجراء إصلاحاتٍ وتعديلاتٍ جذريّةٍ في قوانينها في مطلع عقد الثلاثينيات من القرن المنصرم. ويقدّمُ هذا الملخّصُ السيرةَ العمليـّة لكروغر لتكون عبرةً لمن يعتبر، وهي تتضمن دروسًا ذاتَ مغزًى لأولئك الذين يودّون الاستفادةَ من تاريخِ رجلِ أعمالٍ لامعٍ قدّم بعض الوعود المبتكرة، لكنِ الغامضة، إلى مستثمرين شرهين وجاهلين.
عبور المحيط سعياً للحصول على المال
في عام 1922، انطلقت سفينة الركاب الألمانية Berengaria من مرفأ مدينة ساوثمبتون البريطانية متجهة إلى مدينة نيويورك - التي كانت آنذاك قِبْلَةَ كلِّ من يبحث عن المال. وفي عقد العشرينيـّات الصاخب، كان السواد الأعظم من رجال الأعمال يسعون للنجاح في صفقةٍ ضخمةٍ ما، تضمن لهم الثراء في أقصر مدة ممكنةٍ. وسرعان ما أثار رجلُ أعمالٍ سويديٌّ ناجحٌ جدًّا، في الثانية والأربعين من عمره - كروغر - اهتمامَ وإعجابَ رفقائه في السفر بسبب ذكائه وفطنته وذلاقة لسانه وطلاقة حديثه، وخاصةً عندما يتعلق الحديث بجمع المال. كان يفكر بتروٍّ وحذرٍ في كلّ جملةٍ يتفوه بها أمام هؤلاء المسافرين الأثرياء، ويبذل أقصى جهد ممكن ليولّد لديهم انطباعًا متميزًا عنه. وكان قصدُه من كلِّ هذا التوصلَ إلى الانبهارِ به ليستولي، في وقت لاحق، على أموالهم.
كانت شركة كروغر القابضة - المسماة كروغر أَنـْدْ تـُلْ Kreuger & Toll - تدفع فوائدَ سنويةً ثابتةً بنسبةِ 25%، وكانت تجني أرباحها من استثماراتها في إنتاج الأفلام السينمائية السويدية، والعقارات والمصارف، وفي مشروع كروغر الأساسي، المسمّى "الشركة السويدية للثقاب" Swedish Match Corporation ، التي كانت تنتج ثلثي أعواد الثقاب في العالم. كانت خُطّتـُهُ الجديدةُ جمعَ أموالٍ من الولايات المتحدة ليُقرضَها إلى حكوماتٍ، مقابل منحه حقوق احتكار بيع منتجاته من الثقاب ضمن أراضي هذه الحكومات.
لِي هِيغ
في ذلك الوقت، كان لي هيغنسون Lee Higginson ، المعروفُ باسم لي هيغ Lee Higg ، واحدًا من بنوك الاستثمار الرئيسية في نيويورك. وقد أجرى كروغر مناوراتٍ معقدةً وذكيةً ليقابل دُونـَالْدْ دُورَانْتْ Donald Durant ، رئيس أحد أهم أقسام البنك. وعندما تيسّر له ذلك، قدمّ كروغر تقريرًا مفصلاً إلى دورانت عن خطته الاحتكارية، وهذا دفع دورانت لترتيب مقابلةٍ لكروغر مع شركاء البنك ومديريه لتناول طعام الغداء في مكاتب البنك قرب وول ستريت. كان تأثير كروغر في مديري البنك إيجابيًّا، وهذا جعلهم يبدون استعدادهم لمساعدته على توفيرِ التمويلِ اللازم لمشروعه الجديد. لقد رأوا في كروغر رجلاً موهوبًا، يتميز بخصال حميدة نادرة، ووصفوه بأنه شخصيةٌ كوزموبوليتانيةٌ (بعيدةٌ عن التعصب القوميّ والمحليّ) ، ثم إنهم آمنوا بنجاح مشروعه. أضف إلى ذلك أنه جعلهم متوثقين من أنه سيتيح لهم الفرصةَ للتفوق على ألدّ خصم لهم - بنك مورغان J.P.Morgan & Co .
لذا قرر كروغر ودورانت القيام بحملة دعائية خُطّطت بحكمةٍ ورويـّةٍ لإقناع المترددين من المستثمرين - وهم قلة - بحتمية الأرباح التي يمكنهم جنيها نتيجة استثمار أموالهم في مشاريع مضمونة النجاح. لذا أنشأا مؤسسةً جديدةً أطلقا عليها اسم " الشركة الدولية للثقاب"International Match Corporation في ولاية ديلاوير Delaware الأمريكية، التي تنعم بسياسةٍ ضرائبيـّةٍ غير متشددة. كان المساهمون الأُوَلُ في هذه المؤسّسة المالية "الشركةَ السويديةَ للثقاب" التي يملكها كروغر، وعددًا من البنوك السويدية. وقد أصدرت المؤسسةُ الجديدةُ هذه سنداتِ ديْنٍ يُمكن أن تُستردَّ قيمها مع فوائدها ذهبًا، وسنداتٍ ماليةً أخرى يمكن استرداد قيمها مع فوائدها ذهبًا أو أوراقًا مالية. وقد باعت المؤسسة بسرعة قياسية ما قيمته 15 مليون دولار من هذه السندات. بعد ذلك، أوفد كروغر أخاه تورستن Torsten، بصفته مبعوثـًا له، لاقتراح مشاريع كروغر الاحتكارية على الحكومات في أمريكا اللاتينية وأوروبا، بدءًا ببولونيا. ومع أن مخطط كروغر كان ناجحًا عمومًا، غير أن مشكلته الرئيسية كانت تكمن في إخراج الأموال التي جمعها حديثًا من الولايات المتحدة.
وفي نيويورك، أوفد كروغر موظفَهُ الجديدَ، الأمريكيَّ من أصلٍ سويسريٍّ، إرْنِسْتْ أُوغسْتْ هوفمان E.A.Hoffman إلى زيوريخ ليطَّلع على نظمها الضريبية والمالية. ولما كانت سويسرا تنعم بسمعة متميزة في عالم المصارف والنظم الضريبية، فقد أنشأ كروغر شركةً فرعيّةً سريّةً هناك، سمّاها الشركة الاستثمارية الأوروبية Continental Investment Corporation ، مهمتها نقل الأموال من الولايات المتحدة إلى أوروبا. وقد كلّف كروغر هوفمان - الشخص الوحيد الذي كان على علمٍ بالشركة - أن يسجِّلها ثانيةً في لختنشتاين بغية التهرب من الضرائب التي تفرضها الولايات المتحدة على إيرادات شركته الدولية International Match.
«الثُّقْبُ الأسودُ»
إن كروغر، الذي غزل نسيجًا معقَّدًا من الشركات التابعة subsidiaries والفرعية affiliates، ولّد ثقبًا أسودَ black hole لا يمكن اختراقُهُ من قِبَلِ المدققين الأمريكيين الذين يراقبون أعماله في الولايات المتحدة؛ وقد دخل كروغر في هذه المتاهات المعقدة للحصول على المال. كان عليه مواصلة دفع العائدات التي تقارب ضعف الإيداعات، والتي وعد مستثمريه بها. لكن شركاته المشروعة لم تستطعْ جني ما يكفي لتسديد تلك الدفعات، وهذا دفع كروغر - دون إعلام شركائه في لي هِيغ - إلى إنشاء خُطَّةِ بُونْزِي Ponzi scheme لاستعمال أموال المستثمرين الجدد في الدفع للمستثمرين السابقين. لكن كروغر، خلافًا لشارلز بونزي، كان يملك مشروعَ عملٍ حقيقيـًّا، يضمّ شركة الثقاب السويدية Swedish Match الناجحة. وقد استعملَ طريقةً ذكيةً ومعقدةً لإخفاء ديونه. ووصف محاسبٌ سويديٌّ إمبراطوريةَ كروغر الماليـّةَ بأنها "أضخمُ مشروعِ مضاربةٍ في السويد." وبحلول عام 1922، قُدِّرَتْ ثروةُ كروغر الصافيةُ بقرابةِ "25 مليون كراون سويدي" وهذا وضعه ضمن قائمة أغنى أثرياء أوروبا.
لكن دورانت، الذي لم يدرك الأساليب المالية الملتوية التي كان يمارسها كروغر في أوروبا، كان ما زال واثقًا به؛ وفضلاً على ذلك، فقد كان يعتقد أن شركة التدقيق الرسمي للحسابات التجارية إرنست أند إرنست Ernst & Ernst الأمريكية، التي اختيرت بعناية، ستعزو أي انحرافاتٍ محتملةٍِ في حساباتِ الشركة الدولية International Match إلى لي هيغ. ثم إن بيرنينك Berning، وهو مدقق مبتدئ في شركة Ernst & Ernst، كان مدقق حسابات الشركة الدولية، لا حساباتِ الشركاتِ التابعةِ لها والملحقة بها. ولمـّا كان كروغر بحاجة إلى إذعان بيرنينك لطريقة مسكِ الدفاترِ الذكيـّةِ التي كان كروغر يسلكها، فقد كان يدسُّ بلطفٍ في الجيب الخلفي لبنطال بيرنينك أوراقًا يـُفهم منها عزمُهُ على توفير رحلاتٍ باذخةٍ يقومُ بها الشاب بيرنينك وزوجتـُهُ.
بحلول أواخر عام 1924، كانت الشركة الدولية شركةً غريبةً من نوعها، إذ لم تكن تملك سوى وثيقتين ماليتين: "تقرير عن الموجودات والمسؤوليات القانونية" (كان بالإمكان وضعه بسهولة في محفظة نقود)، و"بيان بالأرباح والخسائر".
ومن المستغرَب أنه وردت في البيان الأخير أرباحٌ تعود إلى عامي 1921 وَ 1922، مع أن إنشاء الشـركة حصل عام 1923. لكن شركاء لي هيغ لـم يكونوا يشعرون بـأيّ قلقٍ مـن هذه التفصيلات، إذْ كانوا واثقين بأنهم سيجنون أرباحًا مجزية من مشاريع كروغر، وهذا ما حدث فعلاً. ففي عام 1924 باعوا سنداتٍ ماليةً إضافية تعود للشركة الدوليّة بأرباحٍ أعلى مما وعدهم بها كروغر بنسبة 5 بالمئة.
مناورات كروغر في بولونيا وفرنسا
كانت الحكومة البولونية أول من وافق على صفقة احتكار مقابلَ قرضٍ من الشركة الدولية للثقاب قيمته 6 ملايين دولار بفائدة قدرها 7 بالمئة. وقد قام كروغر بحملةٍ دعائيةٍ واسعةٍ في طول أمريكا وعرضها لإشهار الصفقة البولونية بغية جلب مستثمرين جُدُدٍ ، وابتكر ما سماه " سهم B " قيمته جزء من ألف من قيمة السهم الأصلي. وقد جمع لي هيغ 90 مليون كراون من بيع 900,000 من أسهم الشركة السويدية للثقاب (من النوعB) . طلب كروغر من دورانت، أيضًا، البحثَ عن مستثمرين في الشركة الدولية للثقاب International Match. وفي عام 1925، أنشأ كروغر الشركةَ الجديدةَ غارانتا Garanta في أمستردام " لتتولى شؤون صناعة الثقاب كلِّها في بولونيا." وكي ينفّذ القرض البولوني وما يترتب عليه، نتيجة الاستيلاء على كل ما يتعلق بصناعة الثقاب في بولونيا، كان يتعين عليه الحصول على 17 مليون دولار بسرعة، لذا باع مزيدًا من الأسهم ذات العائدات العالية. واستأجر أيضًا مدقق حسابات جديدًا لشركة غارانتا اسمه كارل لانج Carl Lange ، سبق أن طُرِدَ من بنكٍ في استكهولم، وذلك" لتنظيم قرضٍ سرّي لنفسه." كان لانج الشخص المناسب بالضبط الذي يحتاج إليه كروغر لتدقيق حسابات شركته السريـّة. وقد قام لانج فعلاً بتحويل 17 مليون دولار من غارانتا إلى كروغر مباشرة.
وفي مثل هذه الترتيبات المعقدة يستحيل على أيٍّ كان متابعةُ خروجِ أموالِ كروغر من الولايات المتحدة ودخولها إليها. وبحلول عام 1926، كانت الشركة الدولية للثقاب الشركة الأولى في الولايات المتحدة التي يسعى المستثمرون لشراء أسهمها. وفي عام 1927 هيأ كروغر الظروفَ لإقراض فرنسا 70 مليون دولار مقابل احتكاره كل ما يتعلق بالثقاب على أراضيها. وإذ ذاك، انهالت أموالُ المستثمرين المهووسين على كروغر. وقد جعلته هذه العمليةُ التي نجح فيها في فرنسا يتجاوز بأشواطٍِ واسعةٍ شركة J. P. Morgan & Co. ليصبح " أقوى رجال المال." بعد هذه الصفقة، شيّد كروغر في استكهولم قصرَه الشهير الذي يحتوي على 125 غرفة، والذي أسماه "قصر الثقاب" Match Palace . وقد خصص فيه غرفةً لنفسه أطلق عليها اسم "حجرة السّكون" Silence Room. وفي ذلك الوقت كان يقطع مسافاتٍ طويلةً مع مساعديه لزيارة بلاد أجنبية لإبرام صفقات احتكارية.
بلغَ كروغر قمة نجاحه في أواخر صيف عام 1929، وهذا مهّد له السبيل لإقامة علاقةٍ حميمةٍ بالنجمة السينمائية الذائعة الصيت آنذاك غريتا غاربو Greta Garbo ، والرئيسِ الأمريكيّ هربرت هوفر، وصارت صورُهُ تظهر على غلاف المجلتين الشهيرتين TIME و Post The Saturday Evening . لكنّ الأسهم بدأت في مطلع شهر أيلول / سبتمبر بالهبوط ببطءٍ في البداية، ثم بسرعة فائقة.
125 مليون دولار لألمانيا
في شهر تشرين الأول / أكتوبر من عام 1929، وعد كروغر - الذي يسري حب المقامرة في عروقه - بإقراض ألمانيا 125 مليون دولار . وكما هي عادته، كان ينوي جمع هذا المبلغ من مستثمرين أمريكيين. بيد أن عملية الجمع هذه كانت محفوفة بالمخاطر والتحديات بسبب هبوط أسعار الأسهم الشديد في البورصة، وكي يعزز كروغر ثقةَ الناس به، أعلن استعدادَهُ لشراء الأسهم التي لم يبعها أصحابها، وذلك بأسعار شرائهم لها، على أن يدفع أثمانها بعد عام.
كان باستطاعةِ كروغر الحنثُ بوعده الذي قطعه للحكومة الألمانية، لكن اعتداده الشديد بنفسه، وأَنَاهُ ego التي تضخمت تضخمًا فاق الحدود، حَالا بينه وبين فعل ذلك. هذا وقد كان توقيتُ هذه الصفقة - وهي أكبر صفقةٍ في حياته- يومي 28 و 29 تشرين الأول / أكتوبر؛ ومن عجائب التقادير أن هذين اليومين كانا "أسوأ يومين في تاريخ الأسواق الماليـّة." وفجأةً، طالب وول ستريت إلقاء نظرة فاحصةٍ على تمويلات كروغر. وكما هو متوقع، لم يكن كروغر متماسكًا ورابط الجأش فحسب، بل إنه، في عرضِ تبجُّحٍ وتظاهرٍ بالشجاعةِ والثقةِ بالنفسِ، قام بزيادة أرباح أسهم الشركة الدولية للثقاب. وإذ ذاك غدا منافسوه أكثر ارتيابًا في أمره. ووفقًا لتقارير إيرادات كروغر، كانت هوامش ربحه في صناعة الثقاب تشير إلى نسبة مذهلة قدرها 20 بالمئة، لكن علبة الثقاب كانت مُسَعَّرَةًً بنصف بنس half penny فقط. لقد انكشفت اللعبة!
شهادات مزوّرة
وسرعان ما تبيـّن أن كروغر قام بتزويرٍ غيرِ متقَنٍ لاتفاقيةٍ لاحتكارِ إنتاجِ الثقاب مع إيطالية وباع سنداتٍ مزيفةً على أساس هذه الاتفاقية، وقد وضع هذه الاتفاقيةَ وغيرَهَا من الوثائق في خزانته الفولاذية في قصر الثقاب. وفي شهر كانون الأول / ديسمبر عام 1930، تعهدتْ بعض البنوك بتنفيذ عرضِ كروغر على حملة أسهمه، لذا اشترت الأسهم الأمريكية التي لم يتمكن حاملوها من بيعها بالأسعار التي اشتروها بها على أن تدفعَ أثمانـَها بعد عام، وكانت قيمتها 4.4 مليون دولار. وعندما أقنع كروغر بنك لي هيغ المتردد أن يُصدر سنداتِ دين قيمتها مع فوائدها ذهبًا بقيمة 50 مليون دولار، قام كروغر، وبسرعة، بنقل أمواله إلى لختنشتاين.
وبحلول ذلك الوقت، كان ثمة شائعات تدور حول عجز مالي حلّ بشركة reuger &Toll . لذا أرسل كروغر إلى دورانت وزملائه من أصحاب المصارف مذكّرةً تتضمن موجوداتِ هذه الشركة. ومع أنهم لم يتمكنوا من التوثق من صحة ما ورد في قائمة الموجودات، فقد وافقوا، مع ذلك، على منح كروغر قرضًا أخيرًا. وفي عام 1931 هبطت القيمة السوقية لأسهم شركاته هبوطًا شديدًا، وهذا جعل أصحاب البنوك والمحللين يتوقعون أنه لا بد أن يكون كروغر في ورطةٍ ماليةٍ خطيرة. عندئذٍ بدأ كروغر، المتّسم بالاعتدال في الطعام والشراب وضروب الملذات، بتعاطي شرب الكحول والتدخين بإسراف؛ ثم توارى عن الأنظار طوال أشهر، ونأى بنفسه عن الاتصال بالناس.
وفي نهاية ذلك العام، عاد كروغر إلى الولايات المتحدة، وقابل رئيسها هوفر، ثم ألقى كلماتٍ مفرطةً في التفاؤل من شاطئ البلاد الشرقي إلى شاطئها الغربي، لكنه لم يستطع جمع مزيدٍ من الأموال للشركة الدولية للثقاب. وكي يرفع القيمة السوقية لأسهم شركته بطريقة اصطناعية، عيّن كروغر لانج وسيطاً لشراء حصته في الشركة، لكن هذه الخدعة لم يكتب لها النجاح. فقد أرسلت مجموعة Price Waterhouse فريقًا للتدقيق المالي بغية التحقيق في وضع إحدى شركات كروغر - Ericsson - المتخصصة بالهواتف. وكان كروغر مدينًا لشركة IT&T بنحو11 مليون دولار نتيجة صفقة مع Ericsson . وفي نفس الوقت، كان على الشركة السويدية للثقاب دفع مليوني دولار إلى أحد المصارف نتيجة قرض منحه المصرف لهذه الشركة. أما دفعات الفوائد العالية التي تعهد بدفعها فقد اقترب موعدها.
وكان للضغوط الشديدة التي كان كروغر يرزح تحتها نتيجةٌ سيئة: ففي شهر شباط / فبراير عام 1932 انهارت حالته الصحية، وشُخّص مرضه بين "الاكتئاب وضرب من الجنون يتسم بالانفعال." وانهمك اثنان من مساعديه في تفتيش قصره Match Palace بحثًا عن أي شيء ذي قيمة يساعد على تسديد بعض التزامات كروغر للناس والبنوك. وإذ ذاك، عثرا على السندات الإيطالية المزورة، التي يفترض أن قيمتها 100 مليون دولار. لذا أصدرت السلطات السويدية أمرًا رسميًّا بتفتيش كل مَا لَهُ علاقةٌ بكروغر وجمع وثائقه المتعلقة بالشركات، وأجرت تحقيقات في السندات الإيطالية الزائفة.
وفي 11 آذار / مارس عام 1932 أبحر كروغر إلى باريس، حيث اشترى مسدسًا من عيار 9 ملم. وفي اليوم التالي، الذي كان من المفترض أن يحضر اجتماعًا فيه، اكتشف مساعدوه جثته في شقته، ويبدو أنه أطلق على نفسه النار عبر قلبه. وعندما بلغ المستثمرين نبأُ موت كروغر، أصيبوا بالفزع. وإثر ذلك سجلت بورصة نيويورك "أكبرَ عمليةٍ تجاريةٍ منفردةٍ في تاريخ الأسواق المالية، إذ بيعت 673,000 شهادة أمريكية من شهادات Kreuger &Toll." وكانت قيمتها في نهاية اليوم مجرد بنسات!
تراث مختلط
لقد أعلى جمهورُ المستثمرين مكانة كروغر كثيرًا، وعدّوه واحدًا من أشهر رجالات العالَم. بيد أنه عندما اكتُشفت تلاعباته المالية، بدأ المستثمرون بالانسحاب بسرعة من شركاته التي انتشرت في أرجاء كثيرة من أوروبا وأمريكا. ثم إن كروغر، الذي كان أحَدَ الرموز البارزة في العشرينيات من القرن العشرين، صار يوصف بعد أخبار السندات الإيطالية المزورة بأنه "أكبر محتال في التاريخ".
استدعَى مجلس الكونغرس الأمريكي دورانت وبيرنينك للاستماع إلى شهادتيهما في هذه الفضيحة. وعندما أدليا بأقوالهما، استولى موضوع " إصلاح القوانين المتعلقة بالسندات والضمانات" على اهتمام السواد الأعظم من الأمريكيين. وعندما كان يتحدّث الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت عن ضرورة استصدار قوانين صارمة لمعالجة التلاعبات المالية، أورد اسمَ كروغر. وفعلاً صدرت مثل هذه القوانين عامي 1933 و 1934، وقد كان سبب صدورها إيفار كروغر، ملك الثقاب السيئ السمعة. ومع أن مكانة كروغر هوَت إلى الحضيض، فإنه أوجد قيمة حقيقية ودائمة لمشاريع الأعمال التي أنشأها: فالشركة السويدية للثقاب هي اليوم شركة ناجحة يعمل فيها 12,000 عامل، ولها فروع في 11 بلدًا. أضف إلى ذلك أنه كان يملك عندما مات مصارفَ، ومناجمَ، وسككَ حديدٍ، وشركاتٍ سينمائيةً وعقاراتٍ كثيرةً. وسواء أعرف زعماءُ وول ستريت في هذه الأيام أم لم يعرفوا، فإن كروغر هو الذي أبدع كثيرًا من الممارساتِ والأسواقِ الماليّة ذاتِ التعقيداتِ المذهلةِ في وول ستريت.
المصدر : الباحثون العدد 72 -73 حزيران وتموز 2013