إن المرء ليعجب كيف أن أمة أنجبت مفكراً من أروع ما أنتجته الإنسانية ثم تطمس هذه الأمة معالمه، ولا يُترك وراءه من يأخذ بآرائه ولا أتباعاً يواصلون طريقه، كما هو الحال عند جميع المفكرين الذين خلقوا ثورة أو وضعوا بذور ثورة علمية في كل العصور وعند كل الأمم. لقد كان لأفلاطون وأرسطو أتباع كما كان لديكارت وكومت وماركس أتباع ومدارس سايرت مذاهبهم وطورتها.
أما ابن خلدون (ت 1406م = 808هـ) فلم يترك أتباعاً اللهم إلا المقريزي وبعض المفكرين، ولكن خطتهم زالت بموتهم، ولم يكتب بذلك لآراء ابن خلدون أن تتطور وتزداد قيمة، ولعل هذا ما أدى بالأستاذ (دي بوير) أن يقول: «لقد سار أمل ابن خلدون من دون أن يخلفه من يتم بحثه... فكما أنه كان دون سلف فكذلك بقي دون خلف».
وهنا؛ كان إهمالنا الغريب لعالمنا مدة أربعة قرون سبباً في أخذ كثير من علماء الغرب أفكاره ونسبها لأنفسهم ظلماً وبهتاناً، واكتمل تقصيرنا بحق عالمنا حين لم نحرك ساكناً أمام هذه السرقات، وهنا أردت أن أبعث هذه القضية علّنا نعوّض هذا التقصير المريب، فلو عورضت أفكار ابن خلدون بآراء علماء أوربة من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين الميلاديين فسنجد أن هذه الآراء نفسها تنطبق على ما عند ابن خلدون، وبان لك فضل فيلسوفنا عليهم أجمعين.
فإذا قسنا - مبدئياً قبل الدخول إلى التفاصيل- سائر المؤرخين في الشرق والغرب بابن خلدون، لم نعِد الحق ولم نبالغ إذا جعلناه مؤسس علم التاريخ في العالم كله، حتى إن الذين جاؤوا بعده من أمثال (جان بودان الفرنسي: ت 1596م = 1005هـ) و(جيوفاني باتيستا فيكو الإيطالي: ت 1744م = 1157هـ) من الذين يحب الغربيون أن يعزوا إليهم فضل تأسيس علم التاريخ، قد قصروا عنه تقصيراً عظيماً، هذا مع أن فيكو جاء بعد ابن خلدون بثلاثمئة عام تقريباً، ومع ذلك لم يستطع أن يتحرر من الخرافات والأوهام التي نبّه ابن خلدون عليها وحذّر من الوقوع فيها.
أما (مونتسكيو: ت 1755م = 1169هـ) الذي جاء بعد ابن خلدون بثلاثمئة وخمسين عاماً فقد اشتهر بكتابه «روح القوانين» الذي يتناول «الدولة» بأوسع معانيها: فإنه يبحث في القوانين ووصفها وفي أشكال الحكومات وفي الضرائب وفي صلة القوانين بالبلاد وبالشعوب التي تسكنها.
يقول ساطع الحصري: إن بحوث «روح القوانين» التي تتعلق بفلسفة التاريخ تجتمع حول نقطتين هامتين، أولاهما: نظرية تأثير الطبيعة والإقليم في طبائع الأمم وسير التاريخ، وثانيهما: نظرية تأثير الأحوال الاقتصادية في الوقائع التاريخية، أما النظرية الأولى فعرفها العلماء والفلاسفة منذ أيام اليونان، ولا مجال للكلام على سبق مونتسكيو إليها، أما المسألة الثانية فقد كان الغربيون يعتقدون أن مونتسكيو هو مبتدعها، ولكن البحث الحقيقي دل على أن ابن خلدون قد وفاها حقها قبل مونتسكيو بثلاثة قرون ونصف القرن.
وامتاز ابن خلدون عن (فيكون) في مجرى تاريخ الأمم وتطوراتها بأنه كان موضوعياً.
ووجه الشبه بينه وبين (جان جاك روسو) واضح من حيث الإيمان الشديد بحياة التقشف.
وبينه وبين (نيتشه) تشابه جلي في نظرية الحق للقوة.
ولابن خلدون لمحات لتفسير الظواهر السياسية بالعامل الاقتصادي، وسبق علماء الاجتماع بالدخول إلى صلب الظاهرة وتقسيمها إلى أجزاء بقصد دراستها، ولم يكن رائداً في علم الاجتماع السكوني (الساكن)، بل هو رائد في علم الاجتماع الحركي (الديناميكي)، بدليل أنه لم يدرس المدن الفاضلة، بل المدن القائمة، ووازن بين ما كان وما صار.
ويتناول ابن خلدون موضوع الدولة والملك بإفاضة، ويبحثه من نواح أوسع وأبعد مدى، ويتفوق على ميكافيلي تفوقاً عظيماً في معالجته من الناحية الاجتماعية، ويلتقي المفكران العظيمان في مواطن كثيرة، مثال ذلك ما يقوله ابن خلدون في فاتحة مقدمته عن قيمة التاريخ في درس أحوال الأمم، ثم أقواله عن آثار البطش والسياسة العاسفة في نفوس الشعب، وعن خِلال الأمير وتطرفه أو توسعه فيها، وعن حماية الدولة وأعطيات الجند، وعن منافسة الأمير للرعية في التجارة والكسب، وعن تطلع الأمير إلى أموال الناس، وأثر ذلك في حقد الشعب عليه، وعن تطرق الخلل إلى الدولة، وامتداد يد الجند إلى أموال الرعية، وكذا ما يقوله عن كَتبة (أمناء) السلطان، فهذه كلها نقاط أو موضوعات يعالجها ميكافيلي أو يقترب منها، سواء في كتابه الأمير، أو في كتاب آخر له هو تاريخ (فيرنتزا) تتخلله تأملات فلسفية واجتماعية كثيرة.
وقد لا يتفق ميكافيلي مع ابن خلدون في الرأي أو في منحى التفكير دائماً، ولكن كثيراً مما يقوله المفكر المسلم يتردد صداه فيما يقوله المفكر الإيطالي، فابن خلدون هو بحق أستاذ هذه الدراسة السياسية الاجتماعية التي تناول ميكافيلي بعده بنحو قرن بعض نواحيها، وهو بالأخص صاحب الفضل الأول في فهم الظواهر الاجتماعية، وفي فهم التاريخ وحوادثه وتعليلها، وترتيب القوانين الاجتماعية عليها بهذا الأسلوب العلمي الفائق.
قال العلّامة الاجتماعي جمبلوفتش: «إن فضل السبق يرجع بحق إلى العلّامة الاجتماعي العربي ابن خلدون فيما يتعلق بهذه النصائح التي أسداها ميكافيلي بعد ذلك إلى الحكام في كتابه (الأمير)، وحتى في هذه اللحظة الطريفة الجافة لبحث المسائل، وفي صبغتها الواقعية الخشنة، كان من المستطاع أن يكون ابن خلدون نموذجاً للإيطالي البارع». وقال (استفانو كلوزيو) مقارناً ابن خلدون بميكافيلي:«إذا كان الفلورنسي العظيم ميكافيلي يعلمنا وسائل حكم الناس، فإنه يفعل ذلك كسياسي بعيد النظر، ولكن العلامة التونسي ابن خلدون استطاع أن ينفذ إلى الظواهر الاجتماعية كاقتصادي وفيلسوف راسخ، مما يحمل بحق على أن نرى في أثره من سمو النظر والنزعة النقدية ما لم يعرفه عصره».
وقد يتساءل أحدنا، هل وقف المفكر الإيطالي على شيء من تراث ابن خلدون واسترشد به، أم وقف على شيء من آثار المفكرين المسلمين في موضوع السياسة الملكية وانتفع بها، وخاصة إذا ما أضفنا إلى الأفكار السابقة فكرة الشبه الجلي بين ابن خلدون وبين ميكافيلي في دراسات السلطة والحكومات والإمارات، والأساليب التي يجب اتباعها في الحكم؟؟. يقول صاحب كتاب «ابن خلدون و ميكافيلي»: «حين نقرأ مؤلفات ابن خلدون وميكافيلي نقع على أقوال متماثلة لن نحصيها هنا إحصاءً كاملاً فهي كثيرة جداً». فعند حديثه عن التجزيئية يقول: «أتينا على ذكر بعض الأمثلة حيث تتوافق أحكام ميكافيلي وابن خلدون وربما يكون من السهل إيراد الكثير منها». وفي عنوانه: حضور أرسطو، يقول: «منذ البداية نوفر على أنفسنا مشرَحين أولهما تأثير ابن خلدون الخفي على ميكافيلي نظراً لأن ميكافيلي متأخر عن ابن خلدون، وثانيهما المصادفة المحضة». وفي حديثه عن النظرية الدورية يقول: «نصل إلى نظرية الأدوار المنتشرة جداً في الأدبيات التاريخية السياسية القديمة، التي تعد بمثابة الجزء الفلسفي الممتاز في كل عمل من أعمال ذلك العصر، إن نظرية كهذه موجودة عند ابن خلدون وميكافيلي على حد سواء». وفي حديثه عن الواقعية والاستقطابية يقول: «إن الخطوة الحاسمة التي خطاها ابن خلدون وميكافيلي كل في إطار تراثه الثقافي الخاص، هي الرفض الشامل والمطلق للطوبى ( اليوتوبيا: اللامكان )».
ويبدو أن هذه المتشابهات إن لم تكن متطابقات، هي التي حفّزت المفكر غريبرغ وآخرون أن يفترضوا أن نيقولا ميكافيلي كان مطلعاً على التعاليم الاجتماعية لابن خلدون.
ونأتي إلى موضوع كبير وعملاق هو: فلسفة التاريخ، ونستطيع أن نقول: إن البذور الأولى لفلسفة التاريخ قد ظهرت في الكتب الباحثة عن «السياسة المدنية»، لأن كل نظرية سياسية تستند بطبيعتها - ضمناً أو صراحة - إلى نظرية طبائع الأمم والدول وفي شروط تقدمها وكيفية تطورها. وإن تعبير «فلسفة التاريخ» انتشر كثيراً في مؤلفات النصف الأول من القرن التاسع عشر، غير أن استعماله أخذ يقل منذ النصف الثاني من القرن المذكور.
وهنا نقول: إن مقدمة ابن خلدون من نوع المؤلفات التي عرفت في أوربا باسم «فلسفة التاريخ» في القرن الثامن عشر، وباسم «علم التاريخ» أو «المدخل إلى التاريخ» في القرن التاسع عشر، وفي الواقع إنها تتضمن في الوقت نفسه آراء ومباحث ونظريات اجتماعية هامة، فيجب أن نعدّها من هذه الوجهة من نوع المؤلفات المتعلقة بـ «الفلسفة الاجتماعية» وبـ «علم الاجتماع» أيضاً.
لقد جمع المفكر ساطع الحصري - بعد جهد كبير واضح - على التقريب أهم المؤلفات التي تتعلق بفلسفة التاريخ مباشرة، فوجدها قد كُتبت بعد ظهور مقدمة ابن خلدون، ومنها:
ـ الأمير ( سنة 1520م = 927هـ) لميكافيلي الإيطالي. - الجمهورية (سنة 1557م = 965هـ) لجان بودن الفرنسي. - خطب في التاريخ العام ( سنة 1681م = 1092هـ) لبوسسوئة الفرنسي. - الحكومة المدنية ( سنة 1690م = 1102هـ) لجان لوك الانكليزي. - العلم الجديد ( سنة 1725م = 1138هـ) لجان باتيستا فيكو الإيطالي. - روح القوانين ( سنة 1748م = 1162هـ) لمونتسكيو الفرنسي. - خطب في السوربون ( سنة 1750م = 1164هـ) لتورغو الفرنسي. - طبائع الأمم وفلسفة التاريخ سنة ( 1756م = 1170هـ) لفولتير الفرنسي. - تاريخ المجتمع المدني ( سنة 1765م = 1179هـ) لفركوسن الانكليزي. - آراء فلسفية في تاريخ البشرية ( سنة 1772م = 1186هـ) لهردر الألماني.
والآن لنقارن قليلاً بين أفكار بعض علماء الغرب هؤلاء، والذين نُسبت إليهم الريادة في علم فلسفة التاريخ وعُدّوا من عمالقة العلم عبر تاريخ الإنسانية، لنقارنها مع عالمنا ابن خلدون الذي عاش قبلهم جميعاً بقرون. وهنا سأقارن عالِمَين فقط من هؤلاء العلماء مع ابن خلدون لضيق المساحة المخصصة لهذا المقال، وهما: فيكو ومونتسكيو.
فلو قارنّا مقدمة ابن خلدون مثلاً مع كتاب (جواني باتيستا فيكو: ت 1744م = 1157هـ) «العلم الجديد»، فسيتبيّن لنا أن ابن خلدون قد أدرك قضية تعضّل الحوادث الاجتماعية وتعقّد الوقائع التاريخية حق الإدراك، فحاول أن يلمّ بجميع العوامل المؤثرة فيها، وبحث عنها بمقياس واسع جداً، شمل بناء المجتمع وطراز المعيشة أيضاً. في حين إن أبحاث فيكو لم تخرج كثيراً عن نطاق الأدوار الثلاثة المروية منذ القرون الأولى، - وأشكال الحكومات الثلاث - المقررة في كتب السياسة منذ عهد اليونان - ولم يلتفت إلى بناء المجتمع، ولا إلى وسائط المعاش. ويتبيّن من تفاصيل أبحاث الطرفين أن ابن خلدون يتفوق على فيكو تفوقاً كبيراً من حيث شمول النظر، ونزعة العمق، وطريقة البحث والاستقراء، ويقترب من طرائق الأبحاث العلمية الحديثة بوجه عام، وطرائق الأبحاث التاريخية والاجتماعية بوجه خاص، اقتراباً واضحاً.
ومما يجدر بالملاحظة في هذا الصدد أننا قمنا بهذه المقارنات من غير أن ننبه إلى تواريخ كتابة الكتابين، أما إذا أخذنا فرق الزمن أيضاً بنظر الاعتبار، فإننا نضطر إلى التسليم بأن رجحان كفة ابن خلدون في ميزان المفاضلة يصبح أكثر بروزاً وأشد بداهة.
إذ من المعلوم أن مقدمة ابن خلدون كُتبت سنة 779هـ = 1377م، في حين أن العلم الجديد نشرت سنة 1725م = 1138هـ، وذلك يعني أن المقدمة أقدم من العلم الجديد بـ 348 سنة، ومما يجب ألا يغرب عن البال أن هذه القرون الثلاثة والنصف التي مرت بين كتابة الكتابين كانت من أخصب القرون في تقدم الفكر البشري، وأغناها في الانقلابات الفكرية والعلمية الأساسية، ذلك لأنه في هذه المدة حدثت حركة الانبعاث في أوربا، وتم اكتشاف أمريكا واختراع الطباعة، كما تم الطواف حول العالم، واختراع التلسكوب.. فتوسعت بذلك آفاق المعارف الإنسانية توسعاً هائلاً، وفي خلال هذه المدة نشأ «ديكارت، وبيكن، وكبلر، ونيوتن »، فانقلبت طرائق التفكير والبحث انقلاباً كلياً، وتعبّدت طرق الأبحاث العلمية.
فمن أعظم الأمور المشرّفة لابن خلدون: أنه سار سيراً علمياً في تفكيره قبل حدوث الانقلابات الفكرية التي أشرنا إليها، في حين أن فيكو ظل بعيداً عن مسالك التفكير العلمي مع أنه عاش وكتب بعد الانقلابات العظيمة التي ذكرناها آنفاً.
إن روبرت فلينت (أحد كبار فلاسفة أوربا، وقد وضع كتاباً شاملاً في فلسفة التاريخ بعنوان «فلسفة التاريخ في فرنسا وألمانيا») قد قال: «إن حق ابن خلدون في ادّعاء شرف التسمية باسم مؤسس علم التاريخ أو فلسفة التاريخ، أثبت وأقوى من حق كل كاتب سبق فيكو». وأقول: إن حق ابن خلدون في هذا المضمار أقوى وأثبت من حق فيكو نفسه أيضاً، وذلك ليس لأنه كان أقدم منه كثيراً فحسب، بل لأنه كان أقرب إلى الروح العلمية الحديثة، على الرغم من هذه الأقدمية أيضاً.
ونأتي إلى ابن خلدون ومونتسكيو، فمونتسكيو من أشهر رجال الفكر والقلم الذين نبغوا في فرنسا في القرن الثامن عشر (مات في باريس سنة 1755م = 1169هـ). ومن الضروري أولاً الإشارة إلى حكم العالم الحاضر على آراء مونتسكيو، فلقد حدد مونتسكيو مفهوم «الإقليم» بحدود ضيقة، لأنه حصره في شدة الحرارة والبرودة تقريباً، كما أنه بالغ مبالغة كبيرة جداً في تأثير ذلك في أحوال الأمم، وقد فاته أن الإنسان يقاوم تأثير الحرارة والبرودة، بـ «تكيف فسيولوجي طبيعي» من جهة «وتكيف اجتماعي اصطناعي» من جهة أخرى. فإن النوع الأول من التكيف يتم بردود الأفعال الحياتية بتقلص وانبساط الأوعية الدموية المحيطة، وبتزايد أو تناقص الإفرازات العرقية تبعاً لحالة الحرارة الخارجية، أما النوع الثاني من التكيف، فيحدث بتنويع وتنظيم الأغذية والملابس والمساكن حسب مقتضيات الحرارة.
فقد أخطأ مونتسكيو خطأً عظيماً عندما سها عن ملاحظة الحقائق الراهنة، وتوسع كل هذا التوسع في تقدير مبلغ الحرارة في طبائع الأفراد والجماعات، وأوصل المغالاة في هذا المضمار إلى حد الادّعاء بأن النظم الاجتماعية والسياسية والنزعات الدينية والمذهبية وكثيراً من الأمور الأخلاقية أيضاً تتبع الإقليم بوجه عام، ودرجة الحرارة والبرودة بوجه خاص.
إن جميع الأبحاث التي قام بها علماء التاريخ والاجتماع منذ عهد مونتسكيو إلى الآن اتجهت اتجاهاً يخالف المزاعم المذكورة بوجه عام، لأنها دلت دلالة قطعية على أن تفشي الجرائم، وإدمان المسكرات، وطغيان الشهوات... من الأحوال الاجتماعية المعضلة التي تتبع عوامل كثيرة فتختلف لذلك اختلافاً كبيراً في الإقليم الواحد بين سكان المدن والأرياف، وفي المدينة الواحدة بين الطبقات الغنية والفقيرة، وفي الطبقة الواحدة بين معتنقي المذاهب والديانات، كما أنها تختلف في كل ذلك بين عهد وعهد، وبين قرن وقرن، فتعليل مثل هذه الأمور الاجتماعية المعضلة بتأثير الإقليم والحرارة مما لا يدل على فهم صحيح للحقائق الاجتماعية.
أما تأسس نظم الاجتماع والحكم، وانتشار الديانات والمذاهب، ونشوء نزعات السلم والحرب، فهي من الحادثات التي تتبع سلسلة طويلة ومتشابكة من الوقائع التاريخية، والعوامل الاقتصادية، والتطورات الفكرية والاجتماعية. وإن تعليل وتفسير مثل هذه الحوادث التاريخية والاجتماعية المعضلة، بالعوامل الطبيعية البسيطة مثل درجة الحرارة، والعرض الجغرافي، وخصوبة الأرض، مما لا يتفق مع حقائق العلم الحديث واتجاهاته أبداً.
وإذا أمعنّا النظر ورجعنا إلى مقدمة ابن خلدون على ضوء ما ذكرناه آنفاً، وجدنا أنها كانت أكثر فهماً للحقائق الاجتماعية، وأشد تمشياً مع مناحي الأبحاث العلمية. وإن ابن خلدون أيضاً قال بتأثير الإقليم والطبيعة في أخلاق الإنسان وطبائعه، ولكنه لم يغال في هذا المضمار كما غالى مونتسكيو، فلم يقع في الأخطاء التي وقع فيها هذا المفكر المشهور.
إن مطالعة تلك الدراسة - ومقارنة الآراء المذكورة فيها بالنظريات المسرودة آنفاً ً- يظهر بوضوح أعظم: أن ابن خلدون كان أقرب إلى فهم « طبيعة الحياة الاجتماعية» وإلى إدراك «روح التاريخ وفلسفته» من مونتسكيو بدرجات، على الرغم من أنه كان قد عاش وفكر وكتب قبله بمدة طويلة تقرب من أربعة قرون.
ولا أجد - في نهاية المطاف مع إبداعات ابن خلدون - إلا أن أنقل بعض شهادات غربية لعمالقة التاريخ والفلسفة فيه، فللأمانة هم أنصفوه، في حين أن العرب والمسلمين ظلموه، يقول دي بوير الأستاذ بجامعة أمستردام: « ولقد سارت آمال ابن خلدون في طريق التحقيق، ولكنها لم تتحقق على أيدي المسلمين، وكما أنه لم يُسبق إلى ابتكار موضوعه، فكذلك لم يجد من يخلفه في أبحاثه، ومع هذا فإن كتابه أثّر في الشرق زماناً طويلاً، وكثيراً من ساسة المسلمين الذين قضوا على آمال كثيرين من ملوك أوربا وساستها منذ القرن الخامس عشر كانوا ممن قرأ لابن خلدون وتخرج في كتبه».
و قال الفيلسوف الإنجليزي الشهير آرنولد توينبي عن مقدمة ابن خلدون: «إنها أعظم كتاب من نوعه يمكن لأي إنسان أن يؤلفه في أي زمان ومكان».
ويقول (جاك ريسلر) في كتابه الحضارة العربية: «وينبغي أن ننوه هنا بابن خلدون والذي يمكن المرء أن ينظر إليه على أنه أكبر مؤرخ في الإسلام، وأحد العظماء في جميع العصور، فقد عرض ابن خلدون للمرة الأولى في مقدمته لدراسة التاريخ بنظرية الواقع التاريخي الذي يأخذ في اعتباره المعلومات الطبيعية في الجغرافيا وفي المناخ كما يأخذ في الاعتبار القوى الأخلاقية والروحية، وهو أول من بحث وصاغ القوانين التي يخضع لها تطور الشعوب وعظمتها وسقوطها، وأبان المعنى الحقيقي للتاريخ، وبدون شك لم يكن لدينا من هذا المعنى الحقيقي للتاريخ مفهوم واضح كل الوضوح، وقد أوضح المستشرقون الأوربيون في القرن التاسع عشر نظرياته المبتكرة عن تطور المجتمعات».
قسم التاريخ – جامعة دمشق
Pro-alnahar@hotmail.com
الحواشي
اعتمد هذا البحث على المصادر والمراجع التالية: ابن خلدون (عبد الرحمن): تاريخ ابن خلدون مع المقدمة، ضبط وحواشي خليل شحادة، بيروت، دار الفكر، ط2، 1988م. الحصري (ساطع): دراسات عن مقدمة ابن خلدون، دار المعارف، مصر، 1953م، ص171- 259. ابن خلدون: المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، ط2، 1953م، ص116 وما بعد. طالب (محمد سعيد): ابن خلدون رائد الفكر الحديث، الأهالي للطباعة، دمشق، ط1، 2001م، ص153 وما بعد. بول (غاستون): ابن خلدون، فلسفته الاجتماعية، تر عادل زعيتر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1984م، ص45 ـ 130. الصغير (ابن عمار): التفكير العلمي عند ابن خلدون، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر. المحامي (محمد كامل): ابن خلدون العبقري الذي ظلمه العرب و أنصفه الغربيون، بيروت، المكتب العالمي، 1985م، ص25 - 109. العاني (نمير): ابن خلدون وبداية التفسير المادي للتاريخ، الهمداني للطباعة، عدن، ط1، 1984م، ص5 -57.ابن خلدون بطل علم التاريخ: دار العودة، بيروت،ط1، 1974م، ص87 - 95. العروي (عبد الله): ابن خلدون وميكافيلي، تر خليل خليل، دار الساقي، لندن، ط1، 1990م، ص9 -44. فروخ (عمر): عبقرية العرب في العلم و الفلسفة، المكتبة العصرية، بيروت، ط4، 1980م، ص190 - 212. ريسلر (جاك): الحضارة العربية، تر غنيم عبدون، الدار المصرية للترجمة والنشر، ص167. مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 329، تموز 7/2006م.
المصدر : الباحثون العدد 72 -73 حزيران وتموز 2013