غسان كلاس
«كنت أتهيب شخصيته لكثرة ما سمعت من عارفيه عن وقاره، وإيثاره الانزواء، غير أنني وجدته – بعد أن تعرفته – إنساناً في غاية الرقة واللطف، ومحدثاً ساحراً، إذا أصغيتَ إليه ملك عليك الفكر والحواس...»
بهذه الكلمات وصفت سلمى الحفار الكزبري شاعر الشام شفيق جبري.. وبهذه الكلمات أردت أن أستهل بحثي عن جبري، ولاسيما أنها – أي الكلمات – تضمنت من الألفاظ: الهيبة، الشخصية، الوقار، الانزواء، اللطف،.. وسواها مما يدخل في صلب الموضوع الذي اخترته: شفيق جبري بأقلام من عرفوه.
لقد فارق جبري الحياة (23/1/1980)، وفي نفسه – كما قال – أن يُخرج للناس كتاباً بعنوان (أنا والناس) يحدثهم فيه عن علاقاته بهم على نحو ما تحدث في كتابيه: أنا والشعر – أنا والنثر، عن علاقته بهذين الفنَّين. ولو أن الله مدّ بعمره – كما قال عبد الفتاح المصري في كتابه: شفيق جبري باحثاً لغوياً، لتم لجبري ما أراد، ومن يدري لعله كان أتحفنا – أيضاً – بكتاب رابع بعنوان: أنا واللغة، يحدثنا فيه عن هذه العلاقة الوثيقة التي ربطته باللغة حتى باتت جزءاً أصيلاً من مكونات نفسه...
تحت عنوان: ذكريات مع شاعر الشام – جاري في بلودان، كتبت سلمى الحفار الكزبري: «عرفت شاعرنا الراحل عبر قصائده يوم كنت تلميذة في عهد الانتداب، أدرس الأدب العربي على أستاذين كبيرين: الأديبة الرائدة ماري عجمي، والأستاذ الفاضل أبو الخير القواص. حفظت بعض قصائده مع ما حفظت يومئذ من روائع شاعرنا الكبير بدوي الجبل وقومياته فكنت، على يفاعتي، أعتز بأعلام الفكر والفن من بني قومي اعتزازي بوطني الكبير وبرجالاته الأفذاذ. ويوم نشرت باكورة أعمالي (يوميات هالة) في مستهل عام 1950 أهديت إليه نسخة من الكتاب فتكرم بنقده في مقالة نشرها في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق.
ثم نعمت بمجاورته في الستينيات في مصيفه الشامخ شموخه (بلودان)، وما كان أعذبه جاراً، وآنسه زائراً ومضيفاً، وأفضله محدثاً، وصديقاً، وموجهاً! وقد اكتشفت فيما بعد أنه كان قليل الثقة بالناس، يحذر شرورهم، ويكره تباغضهم وتحاسدهم، وأن فقدان المرأة في حياته أورثه بعض الانكماش، وجعله يؤثر العزلة، أما أصدقاؤه الذين كان يودّهم ويرتاح إلى عشرتهم فقد كانوا يعدون على أصابع اليد، وكان يترك نفسه معهم على سجيتها الحلوة، فينشد لهم أشعاره، ويبرع في النكتة، ويروي أخباره ويطرح أفكاره وآراءه بعذوبة وطرافة.
كنّا نزوره في بيته ببلودان قبيل الظهر، وكان، رحمه الله، يأتينا قبل الغروب فيجلس في الحديقة، يتبسط في الحديث منشرح الصدر، مستمتعاً بكل ما يحيط به من مناظر خلابة، وورود ورياحين. إن من أطرف ما سمعته منه حكاية رواها لنا عن ذكرياته في الجامعة السورية مفادها أن إحدى تلميذاته في كلية الآداب استوقفته ذات يوم غضبى تشكو إليه تهجّم زملاء قالوا لها: إنها ضائعة! فأجابها على الفور:
- ليسوا مخطئين لأنك دائماً ضائعة!
فاستنكرت ما سمعت وبدا عليها الامتعاض فأردف يقول:
- والشرح والتعليل في قاعة الدرس بعد دقائق.
لم يكن أستاذاً فظاً مع تلاميذه بل كان بهم رفيقاً، ولم يكن متحاملاً على تلك الطالبة إذ كانت مجتهدة ومهذبة، غير أنه أراد أن يداعبها بلطف، والدعابة اللطيفة من طبعه، فلما شرع في الدرس نادى أحد الطلاب على السبورة وقال له: اكتب «ضاع» فكتب وجرى بينهم الحوار التالي:
- ما مضارع ضاع؟
- يضوع.
- وما اسم الفاعل؟
- ضائع.
- ومؤنثه؟
- ضائعة.
- ومتى يستعمل هذا؟
- في انتشار العطر.
- أحسنت، عد إلى مكانك!
ونظر إلى تلميذته الغضبى فرآها متهللة الأسارير، مبتسمة بعد عبوس، وانفضت المشكلة على خير!.
وتضيف الحفار قائلة: ومن حسن بختي، على حد تعبير فقيدنا الكبير في كتابه (أنا والنثر) أن المغفور له أبي، وأنا و زوجي كنا أصدقاء شفيق جبري في القلائل، وأنه أتيح لي الاستمتاع بجلسات أدبية أسبوعية كانت تعقد في بيت أبي بدمشق في الستينيّات، بعد اعتزاله العمل السياسي. كان رواد ندوة الأربعاء.. الأساتذة: بدوي الجبل، شفيق جبري، سامي الدهان، صبري العسلي، الدكتور نجيب الأرمنازي، رشدي الحكيم، نصوح الأيوبي، ظافر القاسمي، أبو الهدى اليافي وعمر العمري، وكانت جلساتهم علمية وأدبية صرفة. أذكر على سبيل المثال أن الأستاذ القاسمي قرأ علينا، ذات مساء، دراسة أعدها عن كتاب الدكتور الأرمنازي (الشرع الدولي في الإسلام) فأثارت نقاشاً ممتعاً ومفيداً، ثم انتقلنا إلى مراجعة بعض النصوص في كتب التراث. وكثيراً ما كانت الجلسات تمتد إلى التاسعة ليلاً سواء في الاستماع إلى روائع شاعرينا الكبيرين، جبري و بدوي الجبل أو في التعليق على أخبار العرب، وتقييم مؤلفات قديمة وحديثة. ولا ريب في أنني، والحديث لسلمى الحفار الكزبري، كنت بين هؤلاء الفحول مستمعة أكثر مما كنت محدثة، أنتظر يوم الأربعاء بشوق لإرواء نهمي للعلم، والإفادة مما أصغي إليه، فمكتبة أبي، رحمه الله، عامرة بكل قيّم ونفيس، و هوايته الكبرى كانت المطالعة للاستمتاع بما جادت به قرائح الشعراء، وأقلام المفكرين و البلغاء.
تقول سلمى: دفعت إلى شاعر الشام بفصول كتابي (في ظلال الأندلس) قبل نشره ففاجأني بمقدمة رائعة وضعها لتزينه، ولما أهديت إليه روايتي «عينان من أشبيلية» بعد نشرها بعث إلي برسالة فيها نقد منصف للرواية.
ولعله من المفيد أن نقتطف من تلك الرسالة، المؤرخة في 6 تشرين الثاني 1956 ما يلي:
[فرغت في هذه الساعة من قراءة قصتك: عينان من أشبيلية، أنا في الهزيع الأول من الليل، مكثت في البيت لزكام شديد قد أصابني، وعلى الرغم من هذا كله لم أشأ أن أؤجل مفاتحتك بما عنّ لي من الآراء في خلال القراءة، لقد هممت بهذه المفاتحة لأن شعوري في هيجانه، وأصدق الكتابات ما كانت بنت الشعور، فهي في مثل هذه الحال بنت الطبع.
وإني لأرجو أن تفاجئي القراء بعيون ثابتة، سواء كانت هذه العيون من أشبيلية أم كانت من بيونس أيرس، و لئن فاتني التمتع من سحر العيون في مسرح الحياة فأرجو أن لا يفوتني هذا السحر في تضاعيف قصصك].
* بديع حقي، وشفيق جبري:
في كلمته التي ألقاها في أربعين جبري، باسم أصدقاء الفقيد، آثر، الدكتور بديع حقي أن يجلو بعض الملامح من شخصية شفيق جبري فقال:
لم أكن أتجاوز الثانية عشرة من عمري، حين كان اسمه يناسم سمعي، فقد كانت تتردد إلى دارنا، بسوق ساروجة، سيدة من كرام الأسر الدمشقية، كانت أمي تدعوها أم شفيق، وكانت من آثر الصديقات إلى قلبها، وكانت تتراءى لي حسنة السمت، طيبة القلب، لطيفة، ظاهرة البشاشة والأنس، وكانت معروفة بذكائها و طلاوة حديثها وشخصيتها المحببة.
ولعلها آنست من طباع الفتى الهادئ المشغوف بالمطالعة، مماثلة في الخلق والميول، مع طباع ابنها وهي تراني، دوماً، أنتبذ ركناً من الغرفة أو أتفيأ ظل شجرة النارنج في حديقة دارنا، عاكفاً على كتاب أقرأ فيه، وأوثره على أي متعة من متع الطفولة، فقالت، ذات مرة، بمسمع مني: سيصبح هذا الفتى مثل ابني شفيق، فهو مثله، في انطوائه وشغفه بالطبيعة وولعه بالكتاب. وتابعت فيما كانت تلمح، في عيني، بريقاً يمور فيه سؤال مستوضح:
- ألا تعرف ابني الشاعر شفيق جبري؟
قالتها بلهجة يسري في مطاويها ومسنح كلماتها، شعور صادق بالاعتزاز، وظل السؤال، آنذاك، معلقاً، دون جواب. ولكن، جاذب نفسي، تطلّع متقد لمعرفة الشاعر، فقد كان يمثل في خاطري، في سني، تلك الغضة الساذجة، أن الشاعر إنما خلق من طينة غير طينة البشر، وأنه إنسان أسطوري، خصه الله بموهبة متميزة نادرة وأن من مقدوره أن يبدع كلمات منسقة مؤتلفة، لا يؤتى لغيره من الناس أن يلهج بمثلها، ولعلي ما أزال أدّخر، في قرارة نفسي، بهذا الإيمان العفوي، بالشاعر الملهم الحقيقي. كانت صورة الشاعر مقرونة في ذهني، بصورة البطل العملاق.
وإذن، فإن أم شفيق، هذه الصديقة المتواضعة المحبة لأمي هي أم شاعر.
قبل وفاته بشهر تقريباً قمت بزيارته، في بلودان، على مدرجة عادتي، فرحّب بي ترحيباً حاراً، بابتسامته الرقيقة التي ألفت أن أراها، كلما صافح بصري محياه، وتحامل، على مرضه وإعيائه ليلقاني، وتشعب الحديث، يومئذ، ألواناً ممتعة، في الأدب و الشعر واللغة، ولست أدري كيف جنح القلب إلى ذكريات طفولتي، لأقص عليه ذكرى ذلك اليوم المثلج البهيج المترع بالهناءة عندما مسحت والدته على رأسي تزيل بقايا الثلج الذي كانت تداعبني ووالدتي فيه، وقد، والله، لمحت الدمع يفيض من مآقيه، فيما كنت أسرد ذكرى أمه الغالية، ثم كفكف دمعه براحته وراح يحدثني عن أمّه الحبيبة، حديث الابن البار الوفي، وقال لي:
- أشعر دوماً، أن طيف أمي يلازمني، ويحنو علي، كما لو كنت صغيراً، إنني أدعو إلى الله، كل يوم، حين أفيء إلى فراشي، لأخلد إلى النوم، أن يرحم أمي وأبي، وكذلك ترفرف ذكراهما، مماثلة في خاطري قبل أن يأخذ الكرى بمعاقد جفني.
تلك هي الصورة الموحية المحفورة في ذاكرتي، عن الصديق الشاعر الإنسان، الصورة المنتزعة من ذكرى أحب الناس إلى قلبينا، في الدنيا، أم شفيق و أم بديع.
ولم يتح لي، في طفولتي أن أتعرف الشاعر الكبير فقد فصل الموت بين الصديقتين: أمه وأمي وظلت الصورة الرائعة التي نسجها خيال الفتى عن الشاعر الملهم، تجاذب دوماً خاطري.
وتترادف لقاءاتنا، وتتوطد أواصر الصداقة بيننا، فإذا ما اتخذت أدراجي إلى بلودان، حيث كان يقيم الشاعر، معظم أيام السنة، فقد كان علي أن أمضي إلى داره أو إلى المقهى، حيث كان يطيب له أن يتخذ مجلسه، في ركن منه لا يكاد يغيِّره، فإذا ما لمحني مقبلاً عليه، استقبلني حفياً بي مرحباً، ورحت أتزود من حديثه الطلي الشهي.
ولما ظهر كتابي (التراب الحزين) أهديت إليه نسخة منه، وشاء، أن يكتب عليه مقالاً ضافياً، في صحيفة الأيام، خصني فيه، بمحبته وتشجيعه وتقديره، وتمنيت لو أن أمي كانت حية لتعتز بما كتبه ابن صديقتها العزيزة عني، وترى إلي أنعم بودّه ورعايته.
لقد اكتملت، مع توالي الأيام، الصورة الرفيعة التي قامت في ذهني عن الشاعر المترفع المرهف الشعور يلوي بسمعه عن اللغو العقيم، وينحو ببصره إلى كتاب يقرأ فيه، أو منظر رائع ينسرح في مداه. وعرفت لماذا ألفى– كما ألفيت أنا – بلودان القرية الوادعة الهادئة، ملاذاً لروحه الشاعرة، مفضلاً عزلته الخصبة الموحية، على مخاطبة الناس، فإن نفسه المرهفة، الحساسة، كما يقول:
تجافت عن الدهماء، لم تحتفل بهم
ترى عبسهم بشراً وبشرهم عبساً
فما ألفت بالليل بارقة الدجى
ولا هي ناغت في رفيف الضحى شمسا
وما لي وما للناس أبغي وصالهم
فما وصلهم نعمى ولا هجرهـم بؤسا
ولئن وجد الكثيرون في طبعه انقباضاً و ترفعاً وبعض الجفاء، لقد كنت ألمس، حين يطمئن إلى مجلس صديق محب، وداعة وخفة روح ومباسطة في الحديث، وتواضعاً لا تكلف فيه، فإذا بالبسمة المشرقة، تنساق من قلبه إلى شفتيه وتسري معانيها في قسمات وجهه وعينيه، فكأن عينيه كانتا تبتسمان، وإذا هو يتدفق في حديثه جنى سائغاً، لا أحلى ولا أشهى، و أشهد، ما وجدت، عمري كله، أديباً، يكره مثله الثناء كما يكرهه هو، وبخاصة حين يسرف مخاطبه في الإطراء فيضحي كلامه تملقاً، واذكر أنني دعيت، ذات مرة، إلى محاضرة له، فإذا بمقدم المحاضر، يفيض في إزجاء المديح إليه، وإذا أنا أرى إلى الشاعر، يزوي ما بين حاجبيه، مقطباً عابساً، وإذا هو يغمغم ممتعضاً: لا حول ولا قوة إلا بالله، كأنما كانت كلمات الإطراء التي تناهت إلى سمعه سهاماً جارحة، مصوبة إليه، وكان، إلى ذلك يكره أن يتحدث عن نفسه مباهياً، مزهواً. كانت روحه الطيبة الصافية مفطورة على البساطة، ومجانبة التكلف والمداهنة.
وكان رحمه الله، كلفاً بحريته، على نحو متشدد، نأى به، مع ما عرف عنه من إيثار للعزلة والهدوء. عن الزواج. فعاش عمره كله عزباً.
أتمثله، الآن، بقامته الفارعة المشيقة، وعينيه الحالمتين، يسعي، متمهلاً، هادئ الخطا، في دروب القرية، أو مصعداً في إحدى رباها، أو جالساً في مقهى متواضع، مع بعض أصدقائه ومحبيه، يرامق، عن بعد، كعاب النرد، تنداح، أمامه، في وسوسة ناعمة، ومتحدثاً إلى بعض أهل القرية الذين يكنّون له محبة صادقة واحترماً عميقاً، ها هي ذي قمة شامخة من قمم الشعر في دنيا العرب، تتطامن، هنا، تواضعاً وبساطة، ومؤانسة.
* خالد قوطرش وجبري:
أما الدكتور خالد قوطرش فيجسد أمامنا شفيق جبري بسماته وصفاته قائلاً:
قامة مديدة فرعاء، تعلوها هامة مستديرة، ووجه مستطيل جذاب ذو ملامح من جمال خاص، فيه عينان نضاحتان بالذكاء والإشعاع، وفم صغير مدور، ذو شفتين رقيقتين وأنف مستقيم وجبهة عريضة مشرقة وبشرة بين البياض والسمرة الخفيفة.
هادئ إذا مشى وصامت إذا جلس، وله في الحالين هيبة مهيبة، يعلوها عنفوان، وتسموها كبرياء، تميزها العزة والكرامة، وشعور مطمئن بالثقة في النفس.
يجالس البسطاء من الناس، ويلعب معهم (بالنرد) ببساطة متناهية، ويجالسه الأدباء والعلماء، ويتحدث عن الجاحظ والمتنبي وأناتول فرانس وبركسون، عن اطلاع واسع وخبرة عميقة.
ومن الناس من إذا رأيتهم عرفت مهنهم وما يحبون، وشفيق جبري من هؤلاء النفر ذوي السمات البيّنة والملامح الواضحة.. إذا رأيته لأول مرة ولا تعرفه ولم تسمع باسمه.. وكنت على قسط من الفراسة قلت هذا شاعر..
روى لي أحد الأصدقاء: أن شوقي لما زار دمشق وأمّه وفود أدباء سورية وشعرائها يرحبون به، قال لمن حوله من جلسائه في فندق الخوام مشيراً إلى شفيق جبري وهو لا يعرفه: إن هذا الشاب شاعر، وقد كان جبري وقتئذ في مطلع شبابه وفي أول الشوط من شاطئ بحر القريض، ولم يتعد اسمه بعد القطر العربي السوري.. وجاء مع الوافدين مرحبين بأمير الشعر والشعراء.
إذا تحدث شفيق جبري هزّك.. وإذا سكت هزّك.. وهو في حديثه وسكوته، بيان مشرق وإشراق من البيان.. بايعه شعراء قطره و أدباؤه ولقبوه بشاعر الشام وهو لما يبلغ الثلاثين.. ونال مرتبة عالية في وزارة المعارف وأظهر شفيق جبري من حسن الإدارة و الحزم وضبط العمل ما لم يظهره أعظم الإداريين والمنظمين، خبرة و دراية.
ويضيف قوطرش، في ثنايا دراسته لأدب جبري: إن فلسفة جبري في الحياة، ككل شاعر مفطور فلسفة متفائلة، تدعو إلى الإبداع والبناء، وتناهض الهدم والفناء.. وما ثورة الشاعر على الفساد والشر والاضطهاد ومفاسد الأخلاق إلا دعوة للخير ومكارم الأخلاق، هذه مثالب موجودة في المجتمعات البشرية ولا سبيل إلى نكرانها، ونقمة الشاعر الفنان على الحياة دليل على حبه للحياة وتعلقه بخير الحياة وتطلعه نحو حياة أفضل، إن الفنان في انفعالاته الداخلية يحارب الشر في سبيل الخير، إن الحب الأكبر والجهاد الأكبر في سبيل انتصار الحق والخير والجمال على الظلم والشر والهلع، وإن تسميته لديوانه بـ «نوح العندليب» لقبس ساطع في نهجه هذا..
ويردف: لقد عاش جبري عيشة الشعراء المفكرين المتنورين.. فلم يُعرف عنه أنه انساق في حياة صاخبة عنيفة، بل عاش حياة شخصية منسجمة مع الاتزان الفكري والعاطفي، فلم يسمح للعاطفة أن تفلت من عقال العقل، ولم يترك العقل يطغى على العاطفة، فقد حباه الله إرادة حكيمة عرفت كيف توازن بين كفتي الميزان فلا طفاف ولا جفاف بل حياة واعية معتدلة.
سمعته يُلقي قصيدته في الحفل الذي أقيم في أحد أحياء دمشق، تكريماً للزعيم السوري «الدكتور عبد الرحمن الشهبندر » بمناسبة عودته إلى الوطن عام 1937، ورفْع حكم الإعدام من قبل السلطة المنتدبة عن الشهبندر و مجاهدي الثورة السورية.. وكان هذا العفو عن المجاهدين أحد المكاسب المباشرة للإضراب الستيني الذي اندفع أواره في حفلة إبراهيم هنانو وقصيدة جبري.
سمعته يلقي قصيدته الملتهبة في بيت من بيوتات دمشق الواسعة، رحم الله تلك البيوت وأصحابها، و دمعة حرّى على ذكراها:
يا دامي الجرح لا جرح ولا ألم
يد الزعيم تداويه فيلتئم
سمعته ورأيته وكنّا عصبة من شباب ثائر على الانتداب.. فأقامنا شفيق جبري وأقعدنا، وإبان مهرجان الشعر الذي انعقد في دمشق في السادس عشر من شهر أيار 1959 واستمر أسبوعاً كاملاً يزجي الشاعر الكبير أنور العطار برسالة قيّمة إلى شاعرنا الكبير شفيق جبري نقتطف منها:
وبعد فقد عدت إلى «دمشق» ولا يزال سحر «بلودان» يملأ قلبي ويغمر مشاعري، ولا يزال مجلس أستاذي العلامة فارس بك الخوري يرفّ في نفسي ويعزف في أذنيّ، ولا تزال أمسيتنا الشعرية في دارك الجميلة ماثلة في الذهن ما تغيب عنه، نستمع فيها إلى عميد الأدب وهو يتلو علينا – يوميّات الأيام – ولا أزال أردّد هذه الفقرة السّاحرة الشاعرة: «.. وإذا كان الطبع حسناً في الفنون، فهو في الحياة أحسن، وما تزيّد متزيّد إلّا لنقص في نفسه..»
يا سيدي ويا عميد الأدب! لقد بلغت القمة في الأدب: نثره وشعره، وما هذه الفرائد من الشعر إلا صورة من صور الوصول إلى القمة، والاستظلال بظلال سدرة المنتهى، وجديرٌ بشاعر عظيم مثلك أن تكون «سدرة المنتهى أدنى منابره» وما هذه القلائد من النثر إلا دليلٌ من أدلّة النضج والامتلاء، وما يتمان لأحدٍ إلا بعد عناء وتعب، فمن يا سيدي استطاع أن يلخّص أغراض مهرجان الشعر الذي انعقد في دمشق في السادس عشر من شهر أيار 1959 واستمرّ أسبوعاً كاملاً كما لخّصتها في هذه الوجازة والأصالة والسهولة:
« إنّ فائدة هذا المهرجان الكبرى أنه يستثير قرائح الشعراء فيخوضون في موضوعات شعرية مختلفة، ولاسيّما موضوع الشعر القومي، فهو الذي يهيج شعور الأمة، ويذكّرها بمآثر ماضيها وحاضرها، فيخلق فيها قوّة تبعث على النشاط، وتزيدها ارتباطاً بقوميّتها ووطنيّتها»
ومن قدر أن ينزل الشعراء هذه المنزلة الكريمة كما أنزلهم بيانك: «لم يدوّن أحدٌ من مآثر العرب ما دونّه الشعراء، فقد كانوا الألسنة الناطقة في كلّ معرضٍ من معارض البطولات في التاريخ، وما أصحّ ما قال (ميل) فيهم: «الشعراء هم شرف الأدب بل هم أصفى وجهٍ من وجوه هذا الشّرف»
ويختم: أحسن الله إليك يا سيدي كفاء إحسانك إلى لغتك وأدبك، ونضّر أيامك وأعوامك لتجيد وتزيد، وتغني أدب العرب بكل جديد.
* أحمد الجندي وجبري:
أما أحمد الجندي فقد عرف شفيق جبري منذ عام 1928 حين جاء إلى دمشق حافظ إبراهيم شاعر النيل، يرافقه خليل مطران شاعر القطرين، يوم دعته الجامعة الأمريكية لإلقاء قصيدة في إحدى قاعاتها الشهيرة وكانت القصيدة:
حيا بكور الحيا أرباع لبنان
وطالع اليمن من بالشام حياني
أهل الشآم لقد طوقتم عنقي
بمنة خرجت من طوق تبياني
ولم يكن ممكناً أن يصل الشاعران الكبيران إلى بيروت ولا يزورا دمشق، لذلك تبادر الأدباء والشعراء من دمشق إلى بيروت لدعوة الشاعرَين اللذين لبّيا الدعوة وحضرا إلى دمشق بين التقدير والاحترام، وقد كلف حافظ يومها إنشاد قصيدة كالتي أنشدها في بيروت ولكن حافظاً لم يكن كشوقي غرّ البديهة خصب الإلهام سريع الاستجابة، فقد كان أشبه بالفرزدق، لا ينظم الشعر إلا بعد تعب وتفكير، إذ كان كثير التنقيح والتهذيب لما ينظم، وكان يحمل ورقة في جيبه، إذا أراد نظم قصيدة، فيكتب فيها البيت والبيتين ويعود إليها بعد حين و آخر حتى تستتم القصيدة وتكتمل خلال شهرين أو أكثر، بينما كان شوقي أشبه بجرير فهو فياض القريحة لو كلفته نظم قصيدتين في اليوم الواحد لفعل.
وأقيم للشاعرين حافظ ومطران حفل في مجمع اللغة العربية – المجمع العلمي سابقاً – وألقى حافظ في الحفل بيتين أسعفته بهما قريحته وهما:
شكرت صنيعكم بدموع عيني
ودمع العين مقياس الشعور
لأول مرة قد ذاق جفني
على ما ذاقه طعم السرور
وكان مستغرباً طبعاً ألا تجود قريحة شاعر كبير كحافظ إبراهيم إلا ببيتين اثنين لم يكونا أكثر من كلام بسيط هو أقرب إلى النثر منه إلى الشعر.
وقام يومها شفيق جبري ليجيب شاعر النيل في قصيدته الأولى التي ألقاها في بيروت وكانت إجابته أشبه بالمعارضة فهي من نفس البحر والقافية، فقال:
أنشدت شعرك في أرباع لبنان
فرحت أغمز وسواسي وشيطاني
يا طاويَ اليم من دجناء زاحفة
على صفيح من الأمواج مرنان
إلى أن يقول:
وبنت مروان توحي من أباطحها
وشى القرائح عاشت بنت مروان
وكأنه من ذكر «بنت مروان» قد نظر إلى شوقي يوم جاء إلى دمشق وأنشد:
مررت بالمسجد المحزون أسأله
هل بالمصلى أو المحراب مروان
وكانت قصيدة جبري «قنبلة» الموسم الشعرية، ثم أخذنا نسمع صوت الشاعر بين حين وآخر، فهو يتحدث إلى الناس في عيد الجلاء وفي المناسبات الوطنية الكبيرة، حتى لقد سُمي بحق شاعر الشام.
على أن شفيق جبري في طبعه الخاص كأن أشبه بالبحر يهدأ ليثور ويثور ليهدأ، فإذا ثار رأيت الجبال تنقض والأودية تسيل والأشجار تتقصف والرياح تعصف وتزأر، لقد كانت له خلافات مع خصومه فكان كفؤاً للمناجزة والقتال، لقد خاصم أقوى الخصوم من مثل حسني البرازي والشيخ تاج الدين الحسيني وغيرهما فانتصر عليهم جميعاً، وكان شعره هو المروي على لسان الناس في حين إن خصومه لم يصنعوا شيئاً إلا إزاحته عن العمل الذي كان يشغله في وزارة المعارف أو الجامعة.
وكانت علاقتي به قريبة صادقة يوم كنت في مجمع اللغة العربية، فقد وقع الاختيار علي لأكون مقرراً للجنة الشعر في المجلس الأعلى للآداب والفنون، وقد كنت خلفاً لشفيق جبري، وهذا ما كان موضع فخر بالنسبة إلي ولكني خشيت أن يدس الدساسون بيني وبينه فذهبت إليه أحكي له حكاية هذا «المركز» الذي نلته، وقد أضحكته يوم قلت له لو أن لهذه الوظيفة راتباً لما وصلت إليها، وأضحكته أكثر، يوم قلت له في لقاءات أخرى: إنني موظف شفهي، وقال لي: لم أفهم، قلت أنا موظف شفهي لأني لم أقبض راتباً على أي عمل أعمل فيه في الدولة.
ولكني أفتخر كثيراً أنني كنت محل تقدير الرجل تقديراً أخوياً، فقد كان يترك لي مقاله الدائم في مجلة المجمع لأصحح أخطاءه المطبعية ولا يتركه لغيري، ولقد لقيت منه تكريماً خاصاً يستغربه الناس جميعاً حين يعلمون قصته، فقد هتف إلي مرة أن أزوره في البيت، فلما جئته قال: لقد كلفتك الحضور لأني أريد أن أقرأ عليك قصيدة نظمتها لأرى رأيك إن كنت ترى نشرها أو إرجاء ذلك، وأخذ يقرأ وهو جالس بين عدد من الطنافس على الأرض، فقد كانت تلك عادته رحمه الله، وأخذت أسمع القصيدة وكان ينظر إلي رافعاً بصره ليستشف رأيي بين مقطع وآخر، وكنت أدلي برأيي متحفظاً أتحسس الهمسة والنبرة كيلا أسيء إلى شاعر يرى نفسه أكبر شاعر في البلاد العربية، وحين انتهى من قراءة القصيدة وسمع رأيي، قال: حسناً، قلت يا شفيق بك: إن قراءتك هذه القصيدة عليّ اعتبرها أكبر راتب أتقاضاه عن كل حياتي الأدبية، فضحك، واكتفى بذلك، فقد كان رحمه الله لا يؤمن بالكلام الكثير، واللبيب من الإشارة يفهم.
* شكري فيصل وجبري:
وفي العام 1980 يكتب الدكتور شكري فيصل، بعد وفاة شفيق جبري فيقول:
إن غياب شفيق جبري لا يمكن أن يكون، في الحساب الدقيق، غياباً لأديب، ولا غياباً لشاعر ولا غياباً لناقد فحسب.. وإنما هو صفحة من صفحات هذا السجل العربي الكبير الذي حفظ فيه أدباؤنا وشعراؤنا خير آثارهم، واحتفظوا لنا على مدى الزمن، بروح الحياة العربية الأصيلة متألقة، وأورثوها – عن طريق الذين زرعوا في نفوسنا من أدبهم، سموّ التطلع، وصحة الاتجاه، ومكارم الأخلاق، وفضائل الوطنية، وسجايا العروبة، والإحساس بالمسؤولية والريادة في الحياة الإنسانية.
وإذا كانت مسالك الشعراء والأدباء إلى الخلود مسالك مختلفة متعددة يحددها ما يكون من ظواهر خصائصهم وملامح تفردهم، فقد كان نصيب جبري من هذه المسالك نصيباً كبيراً نستطيع أن نتبيّنه إذا نحن نظرنا في مكانته من الحياة الأدبية في بلاد الشام، أو أثره فيها.
ويضيف: والذين عرفوا شفيق جبري عن قرب في جملة وجوده الثقافي، يستطيعون أن يقرنوا – دون أي حذر– بين حركته المادية المتزنة وحركته الثقافية المتبصرة.. كلتاهما كانتا مثالاً للأناة التي لا تريد أن تختطف الأشياء اختطافاً ولا أن تلتهمها التهاماً.. وإنما تريد أن تصل إليها من أطول السبل.. تريد أن تعاينها أولاً من بعيد، ثم أن تعاينها من قريب، ثم أن تأخذ بيدها، ثم أن تقبل عليها، ثم أن تعاينها.. ثم تعاود النظر إليها حيناً بعد حين حتى تنقاد إليها انقياداً، وتسلس لها.. فإذا هي ملك يديه، وإذا هي ملء نفسه تختزن منها أكثر ما يكون الاختزان، وتنفعل بها أشد ما يكون الانفعال، وإذا هو قادر على أن يفيد منها دهراً طويلاً من عمره.
وإذا كان هنالك على طول الحياة الأدبية من كتب سيرته الذاتية كما فعل أسامة بن منقذ في كتابه «الاعتبار» أو كما فعل الأستاذ طه حسين أولاً ثم الأستاذ أحمد أمين بعد ذلك – على شيء من مخالفة وتلوين.. فإن شفيق جبري يقف عدلاً لهذه القمم الرفيعة حين تحدث عن تجربته الفنية في كتابين لم يتعود إلا قلة من الباحثين الوقوف عندهما والاهتمام بها، هما كتاباه الرائعان اللذان يؤلفان عندي ذروة عمله الأدبي، الذروة التي تجمع بين شقي الدراسة الأدبي.. أردت كتاب: «أنا والشعر» وكتاب «أنا والنثر» وهما سلسلة محاضرات ألقاها على طلبة معهد الدراسات العربية العالية، في القاهرة.
ولقد كنت أتحدث بذلك إليه، على استحياء منه، فكان يهش لي وكأنه كان يشجعني عليه أو يرتضيه مني.. وأتحدث بذلك إلى عدد من مريديه أو أصدقائه فكانوا يدهشون للذي أقول، ولكنهم كانوا بعد ذلك يرون الرأي أو ما يقاربه حين ينظرون في الكتابين ويقعان على ما فيهما من دقائق الحديث عن التجربة الفنية.
لقد كان كل شيء في حياته يتأبى على الفناء والموت، كان ينشد البقاء وديمومة الذكر.. وكذلك كان إنتاجه تأكيداً على هذه الرغبات في التفرد والبقاء الطويل الذي يحاول أن يقترب من الخلود الإنساني.
لم يكن يدرك بصدق. في الأسبوعين الأخيرين أنه مريض.. وحين عدته قبيل وفاته لم يكن ليرى في مرضه إلا أنه أمر عارض.. ولم نفلح، كما لم يفلح الطبيب، في إقناعه بحاجته إلى المستشفى.. فلمّا لم يكن من المستشفى بد أذعن له وكله أمل بالشفاء.. وكأنما جاءه الموت فجأة بعيداً عن أعين الناس، حتى لا يروا منه ما لا يحب أن يرى من نفسه.
المصدر : الباحثون العدد 74+75 تشرين2 – كانون1 2013