لو طرحنا السؤال أعلاه دون عبارة "في كل شيء" أي اكتفينا بالقول" هل نحن متقدمون على أسلافنا؟" وحسب، لكان بديهياً الجواب بـ"نعم" بدون أدنى تردد. إذ بديهيٌ أننا - بالمحصلة - سبَقْنا أسلافَنا، القريبين منهم والبعيدين، بما بات معروفاً للجميع من منجزات التكنولوجيات المعاصرة وغير المعاصرة مما لا نجد مبرراً لإضاعة الوقت في تعداده.
ولكن السؤال المطروح هو، وعلى وجه الدقة، هل نحن متقدمون عليهم في كل شيء؟ وهنا نضع خطاً تحت هذه العبارة الأخيرة. ويمكننا وضع السؤال وطرحه بصياغة أخرى وهي: هل سبقونا هم إلى معارف وتقنيات نعتبرها من منجزاتنا المعاصرة؟
لقد سبقونا، ولا أقول كل أسلافنا، بل بعضهم فقط، (والمعنى مفهوم وجلي للقارئ الفهيم) !!! نعم، سبقونا في كثير من الوجوه والمضامير. إذ كثيراً ما نعتقد خطأً، أن ابتكارات العصر هي من ابتكارنا نحن المعاصرين المُحدَثين، وذلك تكريساً واستمراراً لمفاهيم سائدة خاطئة لم نمحّص بها أو ندقق. فمثلاً, لقد عرفوا مادة "البيتون" أو الخرسانة، قبلنا بأكثر من ألفي عام على أقل تقدير!!
وهذا الكلام ليس من قبيل "التخريص" بل إنه مثبت علمياً وبالدليل الآثاري. وسنعطي فيما يلي الأمثلة والإثباتات بالأدلة القاطعة على كل ما "نزعم"، ليس فقط في مجال معرفتهم للبيتون, بل وفي مجالات هندسية أخرى أيضاً.
ولا يعتقدنّ أحد أنهم سبقونا إلى معرفة أشياء كثيرة نحن نعرفها اليوم وكفى، ففي هذا ظلم بحقهم وإجحاف, بل وجهل في جانبنا. فالحقيقة أنهم عرفوا منذ أزمان ما لا نعرفه نحن اليوم في زمننا الحاضر!! أي أنهم تركوا لنا ألغازاً محيرة من أعماق الماضي مازلنا اليوم نتعجب ونتساءل ونحاول اكتشاف كيف توصلوا إليها أو كيف صنعوها أو كيف نفذوها. وهذه "الألغاز" ترقى إلى "المعجزات" حتى بمعاييرنا التقنية "المتطورة" المعاصرة التي نمتلكها اليوم.
وفي هذا المقام، لا تفوتنا حقيقة امتلاك قدامى المصريين، للكثير من المعارف المادية والإنشائية والمعمارية ومعارفهم الفلكية المذهلة، التي عَزَّت على حضارات قديمة أخرى ناهيكم عن علومهم السرّانية. وهذا أمر ثابت تاريخياً ومعترف به على نطاق واسع في الأوساط المعرفية. فعملية بناء الأهرام، على سبيل المثال لا الحصر، مازالت عصيَّةً على مداركنا حين نحاول تفسير الكيفية التي تمت بها. ومازال الباحثون والأركيولوجيون يضعون تصوراتهم وافتراضاتهم حول طريقة تنفيذها دون أن يتوصّلوا إلى الجزم في أية من هذه التصورات أو الافتراضات. ولذا فإننا لا نستغرب أن كبار الفلاسفة والرياضيين والعلماء الإغريق من أمثال فيثاغورس وتالس وهيرودوتس وغيرهم قد "حجّوا" إلى قبلة المعارف مصر لينهلوا من معينها قبل الميلاد بستة قرون على الأقل.
إليكم الأدلة الدامغة على بعض ما سبقنا إليه أسلافنا في الأمثلة التالية:
أولاً- لقد عرفوا مادة "البيتون" أو الخرسانة قبلنا بألفي عام على الأقل!!:
من جملة ما نعتقده، خطأً، نحن المهندسون المدنيون(1) وسوانا على حدٍّ سواء، هو أن مادة البيتون أو "الخرسانة" على أشكالها إنما هي من ابتكارات القرنين الأخيرين (التاسع عشر والعشرين) تحديداً، وذلك لأن مادة الإسمنت البورتلاندي لم تُعرَف إلا متأخراً عام 1824 على يد الإنكليزي جوزيف آسبدن Joseph Aspdin. ونعلم أيضاً أن أول مصنع للإسمنت أُنشِئَ في ولاية ﭙنسلفانيا الأمريكية عام 1875 وأن أول استخدام له في الطرق كان في ولاية ميشيغن عام 1909. ولكن، وبغض النظر عما هو معروف اليوم بأن مادة الإسمنت البورتلاندي تشكل المادة الرابطة الأساسية لمكونات البيتون, فإنه من المؤكد اليوم أن أسلافنا, بل بعضهم, قد طوروا مواد رابطة أخرى تفعل فعل الإسمنت كانت تخلط مع الماء وتصب "سائلة" في قوالب أو بدونها ثم تتصلب بعد فترة لتصبح مادة مقاومة ليس فقط للضغط والشد بدرجات متفاوتة, وإنما قابلة للتصلب ضمن الماء أو حتى في مياه البحر المالحة وقادرة على مقاومة الفعل الكيميائي لهذه الأخيرة.
ولم يعرفوا البيتون فقط، بل عرفوا أيضاً تقنيات متقدمة في صبِّه، سواء على اليابسة أم في البحر! ففي مدينة "قيصرية البحر" (انظر NGM Feb. 1987) وهي مدينة ساحلية داثرة اليوم ومرفأ قديم غارق تحت سطح الماء على الساحل الفلسطيني يبعد نحواً من 30 كم إلى الجنوب من مدينة حيفا (انظر الخريطة في الشكل 1)، أظهرت التنقيبات الأثرية (انظر الصورة 2) تحت سطح الماء وفوقه وجود مرفأ (انظر الصورة الجوية 3) كان يعتبر واحداً من أهم أربع مرافئ في المتوسط في الدور الروماني، والعائد إنشاؤه إلى فترة حكم الإمبراطور الروماني أوغسطس قيصر (27 ق.م - 14 م). وكان قد أَطلَق اسم " القيصرية" على المدينة والمرفأ حاكمُ فلسطين الملك هيرودوس تيمناً باسم سيده أوغسطس قيصر وباتت تُعرَف بقيصرية البحر Caesarea Maritima تمييزاً لها عن عدة قيصريات أخرى مثل قيصرية فيليبي وقيصرية الكبادوك أو كبادوكيا (كايسيري اليوم). وبيت القصيد في كلامنا أن بناة المرفأ استخدموا نوعاً من البيتون المائي Hydraulic Concrete الذي يشكل نوعاً خاصاً من الرماد البركاني مادة أساسية في تكوينه في صب كتل ضخمة لصنع المكسرين الجنوبي (مع لسانه) والشمالي من الميناء. ونحن لا نستغرب هذا إذا عَلِمنا أن الإنسان اكتشف أن الطبيعة سبقته إلى "تصنيع" الإسمنت حين يصادف مرور الحمم البركانية ذات الحرارة المرتفعة من باطن الأرض على طبقات الغضار، فيتم "شَيِّها" وتخليصها من الماء لتندفع غباراً مشوياً جاهزاً ينتشر على سطح الأرض المحيطة بالبركان، ما دَفَع "مبتكِر" مادة الإسمنت إلى محاكاة هذه الحادثة الطبيعية في فرن شيِّ الغضار الفولاذي الضخم الأسطواني المدعو kiln "كِلْنْ" الأفقي ذات الميل الطفيف (والذي يشكل المكون الرئيس لمصنع الإسمنت) لينتج مادة الـ"كلينكر" clinker ليصار إلى طحنه فيما بعد وإضافة نسبة بسيطة من الجبس (الجبصين) لتسريع تصلُّبه. أي، وباختصار، فإن "مخترع" الإسمنت لم يفعل إلا محاكاة الصبيعة لإنتاج الإسمنت.
أما المهندسون الذين صمموا ونفّذوا مرفأ القيصرية فقد جهزوا لذلك على البر قوالب خشبية ضخمة يمكنها أن تطفو وتتشكل جدرانها من طبقتين يفصل بينهما فراغ اتساعه أربعون سنتمتراً تقريباً، ثم تم قَطْرُ القوالب بالسفن إلى مكانها المحدد لإغراقها وتنزيلها في مواضعها المقررة. وتم إغراق هذه القوالب الضخمة بإملاء الفراغ المتشكل بين طبقتي جدرانها بشكل متكافئ بملاط عازل للماء وبعد أن استقرت القوالب التي تم إغراقها في مواضعها على قعر البحر بوشر بصب البيتون المائي ضمن خلاياها المعَدَّة لذلك. (انظر الشكل التوضيحي في الصورة 4) الذي يبيّن ما ذهبنا إليه.
وهنا أيضاً، وبعيداً عن مسألة معرفتهم بالخرسانة المائية hydraulic concrete، أذكر أن بناة هذا المرفأ كانوا يدركون، سلفاً، مشكلة تراكم الطمي البحري (أو ما يُعْرَف بظاهرة الـ silting) التي يتسبب بحدوثها ركود الماء ضمن حوزة المرفأ، فاحتاطوا لذلك بأن تركوا فتحة في مكان أحسنوا دراسة واختيار موقعها على المكسر الجنوبي أغلقوها ببوابة ليسمحوا بالتيارات البحرية بدخول حوض المرفأ بين الفينة والأخرى لتجريف ما قد يكون تراكم من الطمي السِلتي (أو ما يُعرَف بعملية الـ de-silting) بفتح البوابة متى رغبوا بذلك ومن ثم إغلاقها ثانية، لا أن يتركوا المشكلة تتفاقم إلى حد أن يملأ الطمي حوض المرفأ بعد فترة طويلة من الخدمة على غرار ما يحصل اليوم، في بداية القرن الواحد والعشرين في معظم سدود العالم!!! (انظر الشكل التوضيحي 5) الذي يبيّن تصوراً كاملاً للمرفأ بعد كمال إنشائه حسب البعثة الأثرية التي قامت بعملية التنقيب تحت سطح البحر.
وما دمنا في معرض الحديث عن البيتون، فإننا نذكر هنا ما لا يعرفه إلا القلائل جداً من مثقفينا، وهو حقيقة أن معبد البانثيون الأثري في قلب مدينة روما قد نُفِّذَت قبته الشهيرة البالغ قطرها 44 متراً بطريقة البيتون المصبوب بالقالب وذلك في تاريخ مبكر جداً وهو العام 125 الميلادي أيام حكم الإمبراطور هادريانوس* وعلى يد المعمار السوري أﭙوللودوروس الدمشقي (70؟ - 135 م) على الأرجح (انظر الصورة 6 و7).
ثانياً: وكانوا قادرين على التعامل مع أوزان لا يمكن أن نصدقها اليوم!!:
ومن لا يصدق هذا القول, فإننا ننصحه أن يزور حصن سليمان, وهو معبد آرامي جبلي يقع على مسافة 25كم إلى الشمال الشرقي من مدينة صافيتا. المعبد مبني نحو نهاية القرن الثاني الميلادي وأهم ما يلفت النظر فيه ضخامة الأحجار المقطوعة التي بُنِيَ سورُه منها. فإحدى أحجار السور هذه تبلغ أبعادها 10 أمتار طولاً و80,2 متراً ارتفاعاً ومتراً واحداً سماكةً بحيث أن وزنها الإجمالي لا يقل عن 60 طناً (انظر الصورة 8). وأكثر من ذلك، فإن من زار بعلبك, فلا بد وأنه قد شاهد ما هو أضخم من هذه الأحجار بأضعاف مضاعفةّ!! إذ تبلغ أبعاد ثلاثة أحجار ضخمة في الجهة الغربية من أساس هيكل جوﭙيتر هيليوﭙوليتانوس (بعل البقاع الشمسي) 21 × 5,4 × 3.5 متراً للحجر الواحد!! أي إن وزن الحجرة المقطوعة الواحدة لا يقل عن 750 طناً مترياً !!! (أي ما يفوق حمولة باخرة كبيرة لنقل البضائع اليوم) (انظر الصورتين 9 و10). ومن زار المقلع الحجري الذي أخذت هذه الأحجار منه والذي يبتعد بما لا يقل عن 500 متراً عن موقع المعبد فإنه سينذهل بحجرتين أخريين مقطوعتين لم يتم نقلهما إلى موقع المعبد تزن الواحدة منها ألفي طن!!!. وتُعرَفُ إحداها شعبياً باسم "الحجر الحبلى" وهذا فائق للمعقول حتى في معاييرنا التقنية المتقدمة جداً اليوم (الصورة 11).
وتبقى الأمثلة المحيرة: كيف وبأية وسائط تم قطع ونقل وتثبيت مثل هذه الأحجار في مكانها؟ نحن مهندسي القرن الواحد والعشرين لا نعلم كيف, ولا نمتلك الإجابة الشافية على هذه التساؤلات.
ثالثاً: وتبقى طريقة تصنيع الأعمدة الضخمة المستديرة المقطع وتيجانها وقواعدها لغزاً محيراً آخر!!:
ففيما يتعلق بالأعمدة التي كانت تقطع أحجارها من المقالع قبل تصنيعها تمهيداً لإعطائها شكل العمود, ثم يتم نقلها بعربات ضخمة تجرها الخيول إلى حيث توجد ورشة التصنيع أو النحت لتعطى هذه شكلها النهائي بدقة متناهية تحاكي دقة المخرطة, فإنه لا يعقل أن تكون هذه منحوتة بطريقة الإزميل التي يستحيل أن تعطي مثل هذه الدقة. وإذا علمنا أن المادة التي صنعت منها الأعمدة تدرجت قساوة أحجارها من الأحجار الكلسية المتوسطة القساوة إلى الغرانيت البالغ القساوة, كما تدرجت أبعادها وحجومها بحيث بلغت أقطار دوائر مقاطعها 50,2 متراً في بعض الأحيان وارتفاعاتها 20 متراً (انظر الصورة 12)، علمنا كم من الإعجاز بلغه هؤلاء البناة العظام. وإذا تأملنا الطريقة التي كانوا يتمكنون بواسطتها من تصنيع استدارات القواعد التي ترتكز عليها هذه الأعمدة بدقة فائقة لا يمكن تحقيقها إلا بالمخارط اليوم! ثم الكيفية التي تداولوا هذه الأعمدة فيها ونصبوها في أماكنها أيضاً بمنتهى الدقة! ثم التقنية التي استخدموها ليضعوا تيجانها وسواكفها وأفاريزها فوقها، لأدركنا جانباً من عبقريتهم, وهم الذين لم يمتلكوا التقنيات التي نمتلكها اليوم من ميكانيكية وكهربائية!!؟؟
أما الدقة البالغة التي حققوها في نحت التيجان فهي مثيرة للإعجاب. فالتيجان المنحوتة بطريقة اليد والإزميل لا نخطئها اليوم لسبب بسيط وهو أن آثار الإزميل ما زالت بادية آثارها على سطوح الأشكال المنحوتة من نافرة وغائرة ومُخَرَّمة. أما الشيء المدهش واللافت الذي لم نتمكن من تفسيره هو أن آثار الإزميل أو أدوات النحت لا تظهر دوماً على سطوح الكثير من التيجان. فقد رأينا تيجاناً كورنثية كثيرة في معبد بعل شمين بتدمر مثلاً لا يمكن للمرء أن يقتفي هذه الآثار على سطوحها، فسطوحها بالغة في الدقة من جهة وبالغة في النعومة. وقد يقول قائل: هذا أمر بسيط، فإنهم كانوا يعرفون وسائط تنعيم سطوح الحجر بعد فراغ النحات من عمله النحتي. غير أن ما يذهلنا أن هذه التخاريم النحتية التي تزيِّن سطوح هذه التيجان تظهر عليها ما يشبه الفواصل أو الآثار التي تتركها شفتا قالب بعد فك هذا القالب عن شكل جصي مصبوب (الصورة 13). والمثير للدهشة أكثر وأكثر أن هذه الفواصل تتكرر بانتظام يثير الشبهة بأنهم كانوا يستخدمون فعلاً تقنية الصب ويعرفونها. ولكن، وهنا تتعاظم دهشتنا لأنهم كانوا يحاكون مادة الحجر المصنوع منها التاج بشكل فائق بحيث يتعذر على المرء القول بأن المادة "المصبوبة" هي مادة دخيلة على مادة الحجر، بل منها وفيها.
أو ليست كل هذه المشاهدات جديرة بالتفكر والتبصر؟ بل بالإعجاب والإكبار من جانبنا؟
وختاماً يحضرني سؤال يتردد في ذهني كلما عقدت مقارنة بين الحضارة الرائعة التي خلّـفها لنا "بعض" أسلافنا وبين ما نشاهده اليوم من مظاهر التردي والتخلف والانحطاط في "بعض" المواطن هنا وهناك من العالم، وهذا السؤال هو: هل يسير الزمن دوماً إلى الأمام؟
أترك الإجابة لكم، لعلكم تدركون.
أديب ومترجم سوري
(1) كاتب البحث مهندس مدني بالمهنة.
•"أدريانوس" أو "هادريان" أو "أدريان" (117 – 138م)
المصدر : الباحثون العدد 76+77 شباط – أذار 2014