حالة خاصة جداً في الشعر السوري المعاصر اسمها وجيه بارودي، يمنعك صاحبها التفريق بين شعره وطبّه، فهو شاعر بقدر ما هو طبيب، وطبيب بقدر ما هو شاعر، ومع ذلك فقد ظل في إطار بلده حماة ولم يخرج منه ليبلغ أسماع الناس إلا في السنوات القليلة التي غادرنا بها القرن العشرون ففي مطالع سبعينيات القرن الماضي زرته في عيادته.. بيت عربي ذو فناء واسع، غرفه شتّى، والمرضى- وجلّهم من النساء – يعافون غرفة الاستقبال، أو الانتظار ويخيّمون في الفناء، وربما وجدت بين المريضات من تصحب كنّتها معها، أو ابنتها، أو جارتها وتجد أنهما "يُقمّعنَ" البامية أو يحفرن الكوسا والباذنجان في انتظار أن يتاح للمريضة الدخول، أو في الواقع المثول، بين يدي طبيبها الأثير. وإذ تشكو له المريضة ما بها مما تتوهمّه فيها من علل كثيرة، ينهي الطبيب معاينته لها بمادة واحدة من الدواء يكتبها باللغة العربية في ورقة الوصفة الرسمية التي تحمل اسمه وتوقيعه، فنسمع المرأة تقول له "يوه... الله يلكعك.... بس دوا واحد". وحده بين أطباء بلده الذي يعرف باسمه المجرد، دونما حاجة إلى لقَبه العلمي بل إن الناس ليكتفون بذكر اسمه الأول: كنت عند "وجيه" وأخبرني وجيه، ثم إنك إذا ما أردت أن تكاتبه عن طريق البريد، فلست تحتاج إلى عنوان محدد. يسعك أن تكتب له من أي مكان أنت فيه على هذا العنوان:حماة/ وجيه بارودي.
حين خلَت عيادته من زوارها - وقلّما تخلو- أغلق بابها ثم أرتجه، وتفرّغ للاستماع إليّ كليّة، وما إن بدأته في شعره، وكيف يكتب القصيدة مع هذا الإقبال الهائل على عيادته، كان ثمة من يقرع الباب المغلق.. لم يستجب للطارق، لكنّ الطارق ألحّ، ثم تمادى، قلت: إنه صاحب حاجة لا محالة يا دكتور، وإلا لما كان قد بالغ في قرعه الباب. قال: الساعة الآن الرابعة والنصف بعد الظهر، فهل تعتقد أن عيادة، أي عيادة يمكن أن تكون مشرعة بابها لاستقبال المرضى في هذا الوقت من الصيف اللاهب. قلت- والطرق لما يزل-: يبدو أن الطارق يعرف أنك هنا.. قال: نعم، فهم يسألون الباعة المجاورين للعيادة ثم إنهم إن لم يسألوا يستدلّون على أني هنا من سيارتي. قلت: استقبله إذاً فلا مفرّ، ولعلنا نستأنف حديثنا بعد خروج المريض.
استجاب على مضض، فدخل المريض يحمل سلّة عنب، قال للطبيب: ستقام حفلة عرسي بعد ثلاثة أيام وأنا متضايق من هذا الانتفاخ الذي في ظاهر كف يدي ولن أستطيع إخفاءه عن العروس ونحن على "الأسكي" ولاسيما أنّي سأحلّي يدها بالخاتم والسوار، وستضع هي الخاتم بأصبعي، وقد رأيت الطبيب الفلاني والآخر الفلاني فأصرّا على العمل الجراحي، لكنّي أردت استشارتك قبل الإقدام على الجراحة التي ستؤخر زواجي، وقد طلب كل منهما مبلغاً كبيراً لهذه العملية.
نظر الطبيب الشاعر الإنسان، في الانتفاخ الذي يشكو منه الشاب، وقال له: اسحب ذلك الكرسي، واجلس معنا، قرّب الشاب الكرسي من طاولة الطبيب التي نجلس حولها، وجلس دون أن يدري ما الأمر. فنهض الطبيب وخاطبني بقوله: "الجراب يعالج بالكتاب" واتجه نحو المكتبة فتناول منها مجلداً سميكاً وعاد إلى الطاولة.
ضحكت في سرّي، قلت: هذه واحدة من " قفشات" الشاعر، فهل يريد أن يكتب للمريض حجاباً أو تميمة، تزيل ما يشكو منه مريضه؟.
قال الطبيب للشاب: ضع يدك على الطاولة على هذا النحو، ففعل، وبلحظة خاطفة أهوى الطبيب بالكتاب على الانتفاخ وقال: انتهى الأمر.
نظرت، ونظر الشاب فما وجدت ولا وجد أثراً لذلك الانتفاخ. إنه سحر.. هذا سحر، لكن الطبيب قال: هذا علاج.. ضربت الانتفاخ بالكتاب فتمزق الجراب الذي يحوي الزلال فتوزع الماء في الجسم، وسيستهلكه الجسم وكفى الله المؤمنين شر القتال.
أخرج الشاب من جيبه رزمة نقود وقدمها للطبيب فردّها الطبيب له قائلاً: هذه هدية مني إليك في عرسك فأبقى الشاب له سلة العنب وخرج يكفكف دموع الفرح ويسرع ليلحق بـ "البوسطة" الذاهبة إلى قريته.
صدر للشاعر البارودي ثلاثة دواوين، هي : بيني وبين الغواني، كذا أنا، سيّد العشاق، وقد أتيح له أن يرى ديوانيه الأول والثاني، بإمعان. أما الثالث فأظنه رآه لماماً، حيث توفي عنه، يرحمه الله.
حين أقنعه الأصدقاء بضرورة النشر، أحيل شعره لأخذ موافقة الرقابة، فنتج عن هذه الإحالة موقف غاية في الطرافة؛ فبينما كان مفتي حماة ينظر في الديوان ليبدي رأيه بالموافقة على النشر أو عدمها استوقفته فقرة كانت قد وردت في عجز بيت من أبيات إحدى القصائد التي يقرؤها المفتي، فطلب إلى الشاعر أن يستبدل بكلمة "تعساً" من تلك الفقرة أخرى غير جارحة، فقال للمفتي: لِمَ أستبدلها يا شيخنا وهي لا تنقص من القدر ولا من الإيمان، قال المفتي: كيف لا تُنقص، وهي بهذه الصراحة وهذه المباشرة؟
اقترح الشاعر على المفتي أن يقرأ البيت كاملاً وبصوت مسموع، وبعدئذٍ يناقشان ما ورد فيه من خطاب؛ فقرأ المفتي:
"هذي كنوزُك نصف عارية فَهل أنا يوسف؟.. تعساً لذيّاك النبي!"
وقال: أرأيت إلى هذه الكلمة "تعساً" كم هي صادمة، فأجاب الشاعر: ولكن اللغة العربية، لغة القرآن والحديث، ولغة الشعر والنثر، تجعل هذه الكلمة تفيض، محبة ومودة وإيماناً وأخلاقاً وتسليماً وإسلاماً.
استغرب المفتي جواب الشاعر، وسأل: كيف يكون هذا؟
أجابه الشاعر: في لغتنا الجليلة- كما تعرف يا شيخنا الجليل- باب اسمه "الحذف والتقدير" والفقرة التي استوقفتك إنما تدخل من هذا الباب، فقد أردت أن أقول:" تعساً لذياك النبي" لولا أن رأى برهان ربه!
تبسّم المفتي، وهو شيخ متنوّر يعرفه طلاب ثانويات حماة، ثم مهر مخطوطة الديوان بموافقته على النشر، فوصل القراء كما هو من غير ما حذف. وظل" الحذف والتقدير" من شأن القارئ وحده.
لسنا ندري فيما إذا كان الحوار الذي جرى بين المفتي والشاعر قد نشر من قبل- في أي مصدر، أم إنه ظل شفاهياً حتى الساعة التي نصوغه فيها على طريقتنا، وننشره للمرة الأولى في هذا الجانب من هذه الدراسة وهو مأخوذ، متناً، عمّا رواه الشاعر لنا غداة لقائنا به، ومساءلته عن التمرد، أحياناً، على المحظور.
من الواضح أن المفتي، المعمَّم، المجلبب، كان أكثر تفهماً لمعطيات الأدب والشعر، من الرقابات الراهنة التي يمثلها أناس يلبسون الأثواب العصرية، ويرتادون المرابع الليلية؛ وإلا لما كنّا رأينا هذا الديوان يفلت من براثنهم دونما تشويه!!
صدر ديوان "بيني وبين الغواني" للمرة الأولى، في طرابلس/ لبنان سنة 1950، وقد أملاه الشاعر على المطبعة من الذاكرة، حيث أن زوجة الشاعر كانت- كما أخبرنا- قد أحرقت المخطوطة التي احتوت قصائد تلك المرحلة والتي تقدّر بأربع وعشرين سنة، وبعد إحدى وعشرين سنة أعيد طبع هذا الديوان في حماة/سورية، ومعه نشر ديوانه الثاني " كذا أنا" وهو الذي احتوى ما قاله من شعر منذ خمسينيات القرن الماضي حتى مطالع سبعينيّاته؛ وبذلك يكون هذان الديوانان قد اشتملا قرابة نصف قرن من الشعر، ليجيء ديوانه الثالث "سيد العشاق" الذي تابع عطاءه الشعري حتى نهاية العام 1992.
غداة أطل القرن العشرون، شرع الوطن العربي يصحو من خدره الذي غيّبه على مدى سبعة قرون، ومع إطلالة ذلك القرن أطل علينا وجيه بن عبد الحسيب البارودي، منحدراً من أسرة موسرة، تأتيها مواردها من الأراضي الواسعة التي تملكها، ويعمل فيها الفلاحون وفقاً لنظام الإقطاع، إلا أن شاعرنا سيحرمه والده من إرث هذه الأسرة، بل إنه سيصير فيها كما صار إليه طرفة بن العبد البكري، منبوذاً، متروكاً. حتى أن دراسته في "الكلية السورية الإنجيلية" المعروفة اليوم باسم "الجامعة الأمريكية"، كانت من تبرعات المحسنين حتى تخرّجه فيها "طبيباً ممارساً"، من هنا نجد مَيل هذا الطبيب الشاعر إلى الفقراء وذوي الاحتياجات، ونجد تمرّده على الأشكال الاعتبارية والبروتوكولية التي يتباهى بها الأثرياء، فقد كان أول فرد من بلده يخلع الطربوش ويلبس القبعة، ثم القميص "سبور" دون ربطة عنق، مثلما تمرّد على الطبقية الطبية، فجعل من عيادته مزاراً لكل الناس في معظم الأوقات، وتعمّد كتابة الوصفة الطبية -كما ألمحنا، قبلاً، باللغة العربية؛ ولم يشأ أن يتقاعد عن ممارسة المهنة رغم بلوغه سن التقاعد، بل أنه ليقول لي:" لن أمدّ يدي إلى خزانة تقاعد الأطباء وبي عرق ينبض". وقد التزم ما قال حقاً. أما عن شعره فهو حسب قوله، وحسبما هو في دواوينه، صورة حية عنه.
الثالث والأخير من انطباعاتنا.
الظاهرة النواسية التي برزت في ديوان الشعر العباسي القديم، نجدها تتكرر، بمقدار ما، في ديوان الشعر السوري المعاصر عبر العطاء الشعري الذي رحل عنه الطبيب الشاعر وجيه البارودي، فمثلما تمرد النواسي على المألوف الشعري والمجتمعي المعاصر له، تمرد البارودي على المألوف الذي عاصره، وكما كان أبو نواس علماً في بغداد الرشيد، ويشار إليه بالبنان رغم كثرة شعرائها، كان البارودي علماً في حماة ورغم كثرة شعراء هذا البلد أيضاً. إلا أن ظاهرة البارودي مبعثها طبّه أكثر من شعره، وقد صاغ ظاهرته الطبية هذه بقصائد عدة احتوتها دواوينه الثلاثة التي ألمحنا إليها في ما سبق واللافت بحق في هذا الشعر الحب الكبير الذي تكنه دواخل الشاعر للناس كافة، ومنهم أناسي بلده، ورغم ما يبدو في شعره من تمرد على كثير من سلوكياتهم الموروثة، وفي المقابل نبصر بجلاء حب الناس له، فهو أنىّ سار في أزقة وشوارع بلده يجد مشاهديه يحتفون به، كيف لا وهو الذي شهد نصف شباب مدينته، ذكوراً وإناثاً، النور على يديه. يقول:
"ولدت نصف شبابهم وبناتهم
فأنا أب لهمو وهم أبنائي"
وفي واحدة من قصائده التي أبدعها غداة بلوغه السبعين وقد كان ذلك في العام 1975 يخبرنا أن تقادم العهد لا يسري عليه مثل الآخرين، لأنه " قاهر" زمنه، وأن كل جيل من الأجيال يألفه، وكل رائعة في الحي تعشقه، والجميع يستدلون عليه، إذا ما أراد التخفي المؤقت عنهم، من سيارته التي غدت علامة من العلامات المميزة له، فهي خدنه، يقول:
" تمر سيارتي العجفاء في طرق شعبية، ليس فيها لمحة لفني
تراكض الصبية الأغرار تتبعني مهما فررت فراري ليس ينفعني
هذا يصيح "وجيه" أمس أنقذني من الهلاك، وهذا أمس طهّرني
وأقبلت أم محمود مزغردة جاؤوا إليّ به ليلاً فولدني
وتلك طابخةٌ في الدريب ساهرة على "السليقة" نادتني تُضيّفُني"
هذه الاندغامية شبه العضوية بالناس، وهذه الحميمية التبادلية القائمة تلقائياً بين الطبيب الشاعر. أو الشاعر الطبيب. وبين مرضاه ومستمعيه، لأنه شفويٌ، تجعل شعره يتمثل العفوية ذاتها، الفطرة ذاتها، التي تجعل "أم محمود" تزغرد إذ تراه مثلما تجعل الطابخة في الدرب "هذه صورة محلية بامتياز حيث كانوا يسلقون القمح خارج المنازل ليحولوه إلى برغل وهذا يتطلب قدوراً واسعة جداً ووقوداً كثيراً" تناديه لتضيّفه.
وقد أحسن الشاعر في تسجيل هذه اللقطة حين جعلها تعني "السليقة" أي القمح المسلوق و"السليقة" التي تعني الفطرة وعلى هذا النحو يغدو شعر البارودي الطبيب سجلاً ذهبياً بامتياز أيضاً، لمعطيات المكان ومعطيات إنسانه، وسنجد أن الطب كان طريقه إلى الشعر، رغم اعتقادنا أن بذرة الشعر كانت مغروسة فيه قبل بذرة الطب، إلا أن الطب عجّل في إنبات بذرة الشعر، فتساوقتا معاً حتى تمكنتا من الشاعر، فجعلتاه يشكل ظاهرة متفردة في بلده تماثل الظاهرة النواسية من حيث علميتها ومن حيث شعبيتها.
الشخصية الشعبية التي أبدعها الرواة لأبي نواس لتصير على كل شفة ولسان لما جعلوها تختلق من المفارقات، هي ذاتها الشخصية الشعبية التي اختلقها مدّعوا المعرفة بوجيه بارودي، فقد جعلوا من هذه الشخصية مشجباً يعلقون عليه مفارقات، نجدها تفتقر إلى التوازن في كثير من الأحيان. بيد أن بعض هذه المفارقات ينطلق من أساس واقعي، نضرب مثلاً على ذلك في أن امرأة تعسّرت ولادتها، فقرر الأطباء إخراج الجنين عن طريق شق البطن "ولادة قيصرية" إلا أن المرأة أعلنت أنها تحب أن تستشير "وجيه" بأمرها قبل خضوعها للعمل الجراحي وحين يراها يقول: لا ضرورة للعملية وستلدين بصورة طبيعية.
سُرّت المرأة بالخبر، وارتاحت له.. إلا أن الوقت مضى أكثره دون أن يتحقق لها ما وعدها الطبيب به وهي بالطبع تعاني آلام المخاض المتعسر والمتعثر. وهنا وجدت النسوة اللائي كن مع المريضة في بيتها، ولاسيما أمها وحماتها، الطبيب يلتقط شرشف السرير ويلفه على خصره، ويعطي لحماة المريضة طشت الغسيل ويأمرها بأن تضرب عليه إيقاعاً ما، فترفض المرأة والطبيب يلح حتى الاستجابة، فانفتل الطبيب يرقص، وصلعته تلمع في الضوء والمريضة تنظر إلى رقصه وإلى انهماك حماتها بالدق على الطشت فانفجرت بالضحك وتمادت فيه وإذا بها تقذف بوليدها خارجاً.. هذه الحادثة لم أسأل عن مدى صحتها، لأني تيقنتها من آخرين، إلا أني سألته عن عدد آخر من المفارقات حسب الرواة، فنفاها مؤكداً أنها من صنعهم لا من صنعه.
التقليد والابتكار في الحب
يقول الشاعر:" وحب الناس تقليدي وحبي ابتكار، مثل حبي لن يكونا"
ليس يسيراً على الدارس الموضوعي أن يقدم وجهة نظر متكاملة نسبياً في مسألة واحدة من مسائل الطبيب الشاعر وجيه بارودي الشعرية الكبيرة والكثيرة، ما لم يصعد معه، وعلى مدى نصف قرن من الزمن، سنة إثر سنة. فحين يحاول ذلك الدارس أن يحدد موقفاً من الحب عند البارودي من خلال ديوانه: "بيني وبين الغواني" ثم: "كذا أنا" سيفاجأ بأنه أمام موقف جديد من هذا الحب تضعه فيه قصيدة جديدة "1" لكن الحب في شعره عموماً يسير في مستويين اثنين: أحدهما أثيري والآخر مادي، أو واقعي كما يحب أن يسميه في قوله:
العصر عصر الواقعية فاشربي خمر الغريزة واسكبي لي أشرب
وهو محصور قطعاً بالمرأة، ومحدد فيها ومؤطر لها. سوى أن "المرأة" هذه ليست معرفة بـ "ال" التعريف عند الشاعر. بل هي "امرأة" قد يراها هنا وهناك وهنالك وفي أكثر من مكان لكنها المرأة التي تسمح العقائد بأن يلتقيها جسداً، سواء تم هذا اللقاء أم لم يتم؛ وليست المرأة التي تجيزها هذه العقائد تحديداً. فمن حيث المستوى الأثيري: نلمس أن سني الشاعر الأولى تتمسك به وتكاد لا تدنو من الحب المادي إلا لضرورات قصوى تمر سريعاً في شعره دون أن تترك أثراً فيه، بل سنجد إنه يحتقر اللذة الجسدية ويعدها في الدنايا:
كوني بقلبك لي فلست متيماً بنحول خصر أو فتور جفون
أسمو بحبك فوق آثام الهوى واللذة الدنيا لمن هو دوني
ونعتقد بأن هذا المستوى الأثيري طبيعي جداً في سني الشباب الأولى، قليل التجربة، هشها، يميل إلى تقليد الكبار في مخاطبة الأنثى بين الناس، وليس في غرفة النوم، ويكتفي بأن يراها عبر النافذة أو الطريق ولو مع والدها، وسيكون سعيداً حتى النشوة الروحية القصوى حين تلوح له بيدها على البعد. وليس يعني هذا أن وجيهاً من الشعراء العذريين أمثال: قيس وكثيّر وابن الأحنف والعرجي وجميل، بل هو من الشعراء الواقعيين، حتى في مرحلة حبه الأثيري، الذين ينسجمون مع ما هم فيه من وعي اجتماعي ونمو بيولوجي؛ وإلا لما كنا سمعناه يقول بعد أن تجاوز العشرين بعقود ثلاثة:
لهفي على عشرين مرّت في التقشف والثواب
لهفي عليها لو تُرّد لجئت بالعجب العجاب
وحتى هذا التلهف ليس صحيحاً- فيما أرى- إلا من زاوية واحدة، هي تجربة السن التي كانت للشاعر يوم باح به، ولكنه لو عاد إلى "عشرينه" دون تجربة عملية وخبرة كبيرة اكتسبها من هذه التجربة، لعاد منسجماً مع سنّه، غراً تماماً، يكتفي من الأنثى بتلويحة اليد أو الابتسامة الخجولة ويفوّت على نفسه فرصاً سهلة كثيرة دون أن يكون واعياً لها مدركاً لإمكان استغلالها لصالح السن التي نتلهف عليها الآن.
ومع ذلك فإننا سنجد أنفسنا في نهاية المطاف، في شعر هذا الشاعر أمام حبٍ مبتكر، سأظل- إلى أن يصححني الزملاء النقاد - أعتقد بأن أحداً من الشعراء لم يخضه البتة.
ومع أن المرحوم الأستاذ سهيل عثمان "3" يفسر هذا الابتكار في مخالفة الشاعر البارودي للحب المفرد، أي الحب المقتصر على حبيبين وأن شريعة الحب عند هذا الشاعر لا تمنع من تعدد الحبيبات- وليس الزوجات- حيث يرى في كل حبيبة معنى وروحاً لا توجد في غيرها وفقاً لقوله:
أهيم بنهدها وأعود ثانيةً إلى فيها
وشأن لداتها بالأمس أهجرها وأسلوها
كفاكهة. أمص ألذ ما فيها وأرميها
أرى في غيرها معنى غريباً لم يكن فيها
فأنا أتحفظ تجاه هذا التفسير على أميته، وعلى أنه يسمح لي بإضافة ما يمكن أن أتصوره شيئاً هاماً أيضاً إليه وهو أن ميل الشاعر البارودي لهذا التعدد في الحبيبات ميل تصادمي وليس سلمياً، ذلك لأنه لا يتحلى بعقلية أصحاب الحريم، وأنه يؤمن بحرية المرأة بالاختيار، لدرجة تجعله لا يرى حرجاً في اعتمادها التعدد هي الأخرى، كلما شعرت أن فيه حريتها. لطالما سمعته يردد أبياتاً لشاعرة معاصرة ويرقص لها طرباً، لأنه كان يرى في هذه الأبيات موقفاً تصادمياً أيضاً:
"أنا ما عرفت الحب قبلك هل عرفت الحب قبلي
هبني بظلك هجعة فأريك كيف أمد ظلي
وأكون طفلتك التي ترعى الهوى وتكون طفلي"
لكن هذا - فيما أرى- لا ابتكار فيه لأنه لا ينأى بعيداً عن تقليد من سبقه. ولو أن الصديق سهيل تذكر، حين فسر الابتكار، ما قالته شاعرة عربية سبقت (طلعت الرفاعي) والبارودي وسيمون دبوفوار-حتى- بمئات السنين:
"أمكن عاشقي من صحن خدي وأمنح قبلتي من يشتهيها"
لكان قد أدرك أن تفسيره هذا لا يعني شيئاً ذا أهمية كبيرة بالقياس لموقف (ولّادة) العظيمة حتى في زمننا هذا بل زمنها هي. ولكانت قد انتفت وجهة النظر التي تقول إن الأشياء التي يقولها الشاعر البارودي في هذا المجال ليست مشابهة لأقوال الأقدمين.
وعلى ذلك سأسأل من جديد: أين الابتكار المنشود إذن؟
يقول البارودي:
الحب في بلدي (حماة) رذيلة وعداء حواء يعدّ تديناً
وهو إذ يعترف بهذه الحقيقة المرة يرى، في مواضع أخرى من شعره، أن الذكر في بلده يولد شيخاً هرماً وأن الأنثى في هذا البلد تولد عجوزاً حيزبوناً. ولذا فالحب بالنسبة إليها يولد هرماً حيزبوناً، ولا دور له إلا في حدود علائق بهيمية تنتج أطفالاً ويعيدون ما انتهى إليه الأبوان، دون أن يهتدي- الآباء والأبناء- إلى ما للحب من قيمة عظيمة خلاقة، تجعل من يعي قيمته هذه في شباب دائم، تنتفي فيه مرحلة "أرذل العمر".
ولأن المجتمع العربي لا يختلف، ولو بصورة نسبية، عن بلد الشاعر فإنه يذكر بلده هذا دون غيره من البلدان العربية - لأنه في الأساس والنتيجة من هذه البلدان - في أكثر شعره، وفي جميع أغراض هذا الشعر.
ولأن الشاعر واحد من ملايين الوطن العربي العديدة الذين يعانون ذات المشكلة في سوء فهم الحب، فهو يجعل من نفسه رمزاً، فيصرح باسمه في جميع غزواته العشقية الواهمة حيناً ومغامراته الجسدية المتخيلة أحياناً ليكون قدوة للذين يتعايشون مع هذه المسألة في حقيقتين اثنتين، إحداهما زائفة؛ والحقيقة الزائفة عند الشاعر هي: أبداً تصنّع الوقار. وهو يحترم الوقور ويقدره، ولكنه يرفض من يتصنع الوقار في سيره وجلوسه، في حديثه وفي نومه.. فكيف إذا كان يتصنع هذا الوقار في الحب؟
لقد أحب الشاعر بلده حباً كبيراً فاتخذها رمزاً، وأحب زوجته دون أن يتصنع الوقار، ولقد استولدها- خلافاً لمنظري تحديد النسل- كمّاً من الذكور والإناث، وهم الآن مهندسون وأطباء وفنيون مهرة ومدرسون.
بيد أن زوجته الوقور أصلاً أضحت، نتيجة لضغط المحيط، تتصنع الوقار، وتطالب زوجها الوقور أصلاً أيضاً بأن يجاري المحيط فيتصنع مثلها وفقاً لما تمليه الحقيقة الزائفة، لا وفقاً لما يؤمنان به أصلاً. ولأن الشاعر ظل عند قناعته في أن الحب لا يعرف القيود وأن البيئة أفهمت الزوجة بأن على من يبلغ سناً معينة أن يسلك سلوكاً مغايراً تماماً لما كان عليه قبل سنوات بدأ الصدام فيما بينهما، ثم تطور ليمسي قاسياً، وتطور أكثر ليحتل حيزاً كبيراً من شعره، ويضيق عليه السبل على رحبها:
بيتي هو السجن الصغير ومدينتي السجن الكبير
فأروح من سجن إلى سجن أعربد أو أثور
استطاع المحيط إذن أن يفرض على الأنثى من هذين الزوجين، وقاراً مصطنعاً بديلاً للوقار الأصيل، ولكنه لم يستطع أن يغير قيمة الحب عند أحد الزوجين على الأقل، حتى وفاة الأنثى منهما- رحمها الله:
ليمونة أمام شباكي
تهش لي وقلبها باكي
غرس التي من طيبها زودت
بالطبيب أزهاري وأشواكي
تسألني عنها فيا حسرتي
والرد في صمتي وفي عبرتي
يا زهرة الزهرات يا زهرتي
ياجنة الجنات يا جنتي
كيف لأهل الروض أنعاك
ولأن الوقار المصطنع كان سبباً أساسياً ومباشراً في جعل بيته الحبيب يتحول إلى سجن صغير، واصطناع الوقار ذاته حول مدينته الجميلة العذبة إلى السجن الكبير. ثار على هذين السجنين يكسر أقفالهما بالحب، وبالحب وحده، وليس بالوقار المصطنع الذي يخفي طي جلبابه الحديد لصنع أبواب السجون. فدعا المسنين من الرجال والنساء إلى الحب. إلى نبذ الوقار المصطنع الذي لا يزيد الشيخوخة إلا هرماً وتهدماً:
ألا أيها القوم المسنون أقبلوا إلى الرقص لا تصغوا لنصح الطبيب
أحبوا أحبوا فالهوى يبعث الصبا أحبوا فإن الحب غير معيب
وأكد أن هؤلاء لا يزالون بشراً. وإذن فلماذا نفاجأ حين نجد أنفسنا أمام شاعر تخطى السبعين من العمر يتغزل بفتاة تجاوزت الستين؟.
وإذ نقول "فتاة" في الستين من العمر ونستغرب هذه الفتوة في هذه السن فإن الشاعر البارودي يؤكدها عبر شعر عذب رقيق مموسق مغنى، حين يعلن بأن محبوبته "الستينية" قد نضجت أكثر وتفقهت في الحياة أكثر، مثلما تفقه هو بالحب.
ولكن هل صحيح أن هذا الحب يبقى على إخضاع المعالم المادية التي رسمها الشاعر الرشيف هذا؟:
في مطلع الستين أنت كأنما في مطلع العشرين أو أبهى سنا
كان الجنى فجّاً فأنضجه الهوى فاليوم ما أحلى وما أشهى الجنى
في كل ومض من جمالك متعة من أي إشعاع سناك تَكَوَّنا
القاعدة، ومنطق الحياة التي نحياها في شرقنا العربي- والواقع كذلك- ننفي جميعاً من تجاوز السبعين على الفعل الجسدي ليحول ذلك "الجنى الناضج" من حالة التشكيل إلى فعل تطبيقي. ولأن هذا غير ممكن جسدياً فسنخمن أن الأمر دعابة. سوى أننا ألمحنا- خلال دراستنا- إلى أن شاعرنا وقور أصلاً، ولا يتصنع وغير هازل وبخاصة فيما يتعلق بالموقف. والحب موقف. فماذا أراد أن يقول- إذن - خلافاً لمنطق الحياة عندنا؟
(1) فتاة الستين قصيدة للشاعر في ديوانه الجديد
(2) ندوة كاتب وموقف مع الشاعر
المصدر : الباحثون العدد 76+77 شباط – أذار 2014